الخميس 4 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

وقائع عشاء مع السفير: التقارير الأمريكية «السرية» عن مجلس قيادة الثورة

وقائع عشاء مع السفير: التقارير الأمريكية «السرية» عن مجلس قيادة الثورة
وقائع عشاء مع السفير: التقارير الأمريكية «السرية» عن مجلس قيادة الثورة


كتب الدكتور رءوف عبّاس فى كتاب «شخصيّات مصرية فى عيون أمريكية» الصادر منذ 15 عاما عن مجلس قيادة الثورة فى وثائق الخارجية الأمريكية، التى تمكّن من الاطّلاع عليها من واقع منحة دراسيّة لمدة شهر، فى صيف 1995، قضاها عبّاس فى «الأرشيف القومى الأمريكى بواشنطن».

نعرف من خلال الكتاب أن السفارة الأمريكية بالقاهرة دأبت على إعداد تقارير وافية، فى صورة تراجم، عن أعضاء مجلس قيادة الثورة، وأسمتهم «حُكّام مصر الجُدد» الذين بدأت أسماؤهم تطفو على السطح فجأة وبلا مُقدّمات. أعدّت السفارة تقريرا جماعيا عن أعضاء مجلس قيادة الثورة فى الرابع من أكتوبر عام 1952، ثم ألحقت ببعض الأسماء والشخصيات، وقتما استدعت الضرورة، تقريرا ثانيا بالإضافات أو التطوّرات، وربما تصحيح مواقف ومعلومات.
المُلفت أن نعرف من واقع ما ذكرته تلك التقارير، على وجه الدقة، حقيقة الادّعاءات المتداولة طوال الوقت عن علاقة الضُبّاط الأحرار بأمريكا.. فعلى الرغم من اللقاءات التى سبقت ليلة الثورة، وأخرى كانت يوم التحرّك، بين ممثلين من السفارة الأمريكية وبعض الضباط إلاّ أن الحذر والالتفاف حول المعلومات والتحفّظ فى إبداء أية أخبار تتعلّق بالأوضاع الحالية، كانت سمة الضبّاط الأحرار فى تعاملهم أثناء هذه اللقاءات.
كانت الولايات المتّحدة تُراقب عن كثب تطوّرات الأحداث واحتدامها وسخونتها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتعدّ العُدّة لخلافة بريطانيا فى المنطقة. اتّجهت أنظار السفارة الأمريكية بالقاهرة بالتالى إلى الشخصيّات الهامّة فى جهاز الدولة وفى العمل السياسى، وأى شخص يحمل درجة مدير عام، كانت تهتم تقاريرها برصد مدى مرونة هذه الشخصيات بالنسبة لعلاقتها بالأمريكان، وما هى نقاط الضعف التى يمكنها التأثير عليهم بها.
يكتب رءوف عبّاس عن انشغال السفارة الأمريكية بالبحث عن «من هى شخصية القائد الحقيقى للثورة؟» فى ظل ندرة المعلومات وقتها، وغموضهم، وعدم وضوح أسماء أعضاء الضبّاط الأحرار الذين ظهروا فجأة فى الحياة السياسية فى مصر، «الوافدون الجدد إلى ساحة العمل السياسى من دائرة الظل» كما يجرى وصفهم فى أحيان أخرى فى التقارير/التراجم.
كُتبت «تقارير التراجم» هذه فى الفترة من 1951 إلى 1953. تُمثّل هذه السنوات الثلاثة كما يقول عبّاس «ذروة الأزمة السياسية فى مصر»، بدأت بإلغاء حكومة الوفد لمعاهدة 1936 وما أعقبها من قيام الكفاح المُسلّح فى منطقة القناة ضد الوجود البريطانى، ثم وقوع حريق القاهرة فى 26 يناير 1952 لتصفية حركة الكفاح المُسلّح فى ظل الأحكام العرفية، ثم فترة الاضطراب السياسى الذى بلغ ذروته عند ثورة الضباط الأحرار، إيذانا بـ«قيام نظام جديد تلفّه الأمانى الوطنية فى التحرّر من الاستعمار».
إضافة إلى ذلك؛ من المهم أن نعرف أن وثائق الخارجية الأمريكية تُغطّى الفترة من بداية الحرب العالمية الثانية حتى فبراير 1964، وهو التاريخ الذى أُتيح عنده الكشف عن الوثائق فى صيف 1995، أى بعد انقضاء 30 عاما حسب القانون الذى أقرّته الخارجية على وثائقها.
من المعروف، كما يُخبرنا رءوف عبّاس، أن هُناك وثائق أمريكية منشورة باسم «السياسة الخارجية للولايات المتحدة» موجودة فى مكتبة السفارة الأمريكية بالقاهرة، نشرتها الخارجية الأمريكية بعد انتهاء فترة السريّة والحظر (ثلاثون عاما قبل أن تمدّها بريطانيا إلى خمسين عاما فيما يخص فقط وثائق الخارجية البريطانية). لكن الأمر الذى يُكسب الوثائق الأمريكية فى نظر عبّاس أهمية مُضافة، على أهمية الأرشيف البريطانى بدار المحفوظات العمومية بلندن مثلا، هو «الأربعينيات». تلك الفترة التى نعانى هُنا فى مصر من «الغياب النسبى» للوثائق التى تخصّها حتى نهاية السبعينيات، واعتياد حجب معظمها عن الباحثين. أغلب هذه الوثائق حبيس أرشيف رئاسة الجمهورية وبعض الوزارات السيادية كالخارجية والداخلية والدفاع، ولا «تعرف طريقها الطبيعى إلى دار الوثائق القومية» . لذلك يقول عبّاس فى كتابه إنه «لا يمكن أن يُكتب تاريخ دقيق لمصر دون الرجوع إليها». يقصد الوثائق الأمريكية.
 إحسان عبد القدّوس فى بيت على ماهر
تتضمّن تقارير السفارة الأمريكية، تراجم لـ8 من الضباط الأحرار أعضاء مجلس قيادة الثورة، وضابط واحد هو قائد الجناح على صبرى من غير أعضاء المجلس، واعتذر السفير الأمريكى إذ ذاك فى خطاب مرفق بالتقرير عن عدم توفر معلومات لدى السفارة عن ثلاثة من الضباط أعضاء مجلس قيادة الثورة وهم: البكباشى يوسف منصور صديق، والبكباشى حسين الشافعى والصاغ خالد محيشى الدين. بينما غاب نهائيا عن التقارير دون الإشارة إليه، عبد المنعم عبدالرءوف.
ترتيب التراجم جاء حسب الأهمية التى رأتها السفارة لكل عضو من أعضاء مجلس قيادة الثورة، التى تسميها تارة «الانقلاب العسكرى» وتارة «مؤامرة الضباط الأحرار»، ثم ما تلبث أن تستقر على وصفها بـ«الحركة المُباركة». تبدأ بمحمد نجيب، حيث يتعدى التقرير الخاص به الصفحات، وتعرج إلى جمال عبد الناصر والسادات وحتى زكريا محيى الدين وبقية أعضاء مجلس القيادة.
إضافة إلى بضعة أسطر عن كل من قائد الجناح حسين ذو الفقار صبرى، والصاغ صلاح سالم، وقائد الجناح محمد وجيه أباظة. تشمل الوثائق تقارير أخرى، موجزة أيضا، عن قائدى الجناح جمال الدين مصطفى سالم، وعبداللطيف البغدادى، وعلى صبرى. وكذلك قائد السرب حسن إبراهيم، والصاغ محمد كمال الدين حسين. وهذا الأخير حصلنا على مذكّراته التى تصدر خلال أيام، وننشر فى هذا العدد لأوّل مرّة فصلا منها.
يكتب كمال الدين حسين فى مذكّراته فيما يتعلّق بـ«اتّصال بعض قيادات التنظيم قبل الثورة بأمريكا» مُستخدما ضمير المُتكلّم: «الذى أعرفه جيدًا هو أنّنا اتّصلنا بالسفارة الأمريكية فى القاهرة فى اليوم الأوّل للثورة، وأرسلنا إليهم على صبرى وكان ضابطًا بمخابرات الطيران ويعرف بعض ضبّاط ودبلوماسيى السفارة الأمريكية، وكانت مهمّته هى إقناع الأمريكان للتدخّل لدى الإنجليز لكيلا يتحرّكوا ضدّنا، فقد كان العدو الرئيسى بالنسبة لثورتنا فى بدايتها هو الاحتلال البريطانى فى القناة، والأمريكان أصدقاء الإنجليز وفى مقدورهم منع تدخّل القوات الإنجليزية». ويستكمل فى موضع آخر: «ولقد نجح هذا الاتصال وكانت طلبات أمريكا هى عدم قتل الملك فاروق».
يحكى كمال الدين حسين أن جماعة الضُبّاط الأحرار وجّهوا لعلى ماهر عددا من المطالب، «أُعدّت للتمويه» كى لا يكشف النظام عن كل أوراقه.
الظريف أن كمال الدين حسين مع السادات برفقة الكاتب إحسان عبدالقدوس توجّهوا إلى بيت على ماهر لمفاتحته فى تأليف الوزارة، وذلك لمّا علموا بصداقة ومعرفة عبدالقدوس بعلى ماهر. يقول كمال الدين حسين فى المذكّرات: «لم يكن الرجل يتصوّر أنّ الثورة ستخلع الملك فوافق على اقتراحنا».
 محمد نجيب يكتفى بالقائد الاسمى
جاء فى تقرير السفارة الأمريكية أنه يتمتّع بشخصية قويّة، ويشتهر بصرامة الانضباط. صاحب سِجلّ مُشرّف، ويتّسم بالحزم والجاذبية والذكاء، «يُشير تاريخه إلى أنه قادر على أن يكون له تفكيره المُستقل»، إلا أنه «يفتقر إلى الخبرة السياسية» و«يتأثّر كثيرا بالرجال المحيطين به»، وأخيرا «مُسلم متديّن» ومُؤكّد أنه من المتحمّسين لقضية الإخوان المسلمين.
استثمر الضبّاط الشُبّان شعبية نجيب بين صفوف الجيش، وكونه ضابطا كبيرا، فشجّعهم ذلك على اختياره ليكون الواجهة وعلى رأس «حركتهم الانقلابية»؛ يميل التقرير لوصف الأحداث هكذا. كانت آخر ترقية لنجيب مديرا لسلاح الحدود، قبل أن يُطيح بحيدر باشا، القائد العام للقوّات المُسلحة فى انتخابات رئاسة نادى الضُبّاط.
نَصّب نجيب نفسه ليلة 22/ 23 يوليو قائدا عاما للقوّات المُسلحة. نعرف من التقارير أن نجيب اكتسب مُبكّرا عداوة الملك بعد رفضه إطاعة أوامره بالاستقالة من رئاسة نادى الضُبّاط، ولمّا تم إغلاق النادى فى يوليو 1952، تفرّغ نجيب للانخراط فى صفوف المُعارضين لصاحب الجلالة، ودعته ثقته باحتمال طرده من الجيش إلى قبول «القائد الإسميّ للثورة».
فى الـ25 من يوليو، وهو اليوم السابق مباشرة على تنازل الملك عن العرش بأمر من على ماهر وإيعاز من نجيب، كان الملك قد أعلن عن ترقية محمد نجيب إلى رتبة الفريق وزيادة مرتّبه إلى ما يوازى مرتّب وزير. لكن نجيب بعدها بيومين أعلن فى الإذاعة تنازله عن الترقية وعن الزيادة.
بحسب د. رءوف عباس فى الكتاب؛ فإنه فى السادس من أكتوبر 1952، أرسلت السفارة الأمريكية بلندن تقريرا يتضمّن معلومات جديدة عن محمد نجيب، مصدرها وزارة الخارجية البريطانية، جاء فى التقرير «طُرح اسمه ثلاث مرّات كوزير للحربية فى الحكومات التى شَكّلها على ماهر ونجيب الهلالى وحسين سرّى فى 1952، ولكن الملك فاروق اعترض على ترشيح نجيب لهذا المنصب». وقيل أن نجيب اضطّر إلى تشكيل حكومة برئاسته بعد استقالة على ماهر فى 7 سبتمبر 1952 استجابة لطلب مجلس القيادة.
 السفير الأمريكى عشيّة الثورة
 فى شقّة عبدالمنعم أمين
كان البكباشى أمين- معروف أنه كان على رأس القوّات التى حاصرت قصر رأس التين فى 26 يوليو 1952- ممثّلا القيادة للإشراف على وزارتى الخارجية والشئون الاجتماعية. ويلى فى الأهمية اللواء محمد نجيب فى نظر التقارير الأمريكية. كان ضابط مدفعيّة مُضادّة للطائرات، يذكر التقرير الأمريكى عنه أنه «رقيق الحاشية»، وسيم فى الأربعينيات من عُمره، مُهذّب، يتحدّث الإنجليزية بطلاقة، «مُتفرنِج»، ذكى، مُعتدل فى آرائه وأفكاره، «عليم ببواطن الأمور». كان من أقوى الضبّاط الذين قاموا بالثورة، يستمر التقرير فى الوصف، وفى الأغلب كان يقوم بمسئوليات المُتحدّث الرسمى بلسان مجلس قيادة الثورة. ويُختتم التقرير بهذه الجملة: «لمّا كان من أوسع الرجال نفوذا فى مصر الآن، فقد يكون بالإمكان الاعتماد على نفوذه بصورة بنّاءة».
يتضمّن التقرير الأوّل عن البكباشى أمين معلومات عن زوجته، الحسناء الثرية، الذى يُعدّ أمين زوجها الرابع، وهى الزوجة الثالثة له. وعلى النقيض من باقى أعضاء مجلس القيادة يعيش أمين مع زوجته فى شقّة فاخرة مُطلّة على النيل، ويتمتّعان بأسلوب حياة يُشبه حياة الطبقة الحاكمة السابقة، الملكيّة يقصد. اعتادا تنظيم حفلات الاستقبال يحضرها الأجانب فى شقّتهما، وكانت وظيفة هذه الحفلات تقديم «حُكّام مصر الجُدُد» إلى الشخصيات الهامة. نعرف أنه فى هذه الشقّة تمّ اللقاء الأوّل بين اللواء محمد نجيب والسفير الأمريكى عشية الثورة. وهكذا أخذ يتصاعد نجم عبدالمنعم أمين بوصفه «مندوب القيادة غير الرسمى للاتصال بالسلك الدبلوماسى».
فى تقرير ثان أكثر استفاضة، أعدّته السفارة عن البكباشى أمين فى 4 إبريل 1953، وذلك بعد إبعاده من مجلس قيادة الثورة، أضيفت معلومات أخرى جديدة. نعرف من هذه المعلومات أنه مع نهاية العام 1952، بدأ نجم عبدالمنعم أمين يخبو. وتعترف السفارة بمبالغتها فى تقدير حجم نفوذه فى البداية. وتمّت محاكمته فى 19 فبراير 1953، بعد استغلال زوجته لنفوذه فى عقد صفقات والتدخل لصالح أصدقاء ممن شملهم التطهير فى وزارة الخارجية، انتهت بتنحيته من عضوية مجلس القيادة بلا رجعة.
 الأمريكان عن عبدالناصر:
متطرّف وطنى
هادئ، قليل الكلام، مُتحفّظ، يُخفى مظهره وسلوكه الحيوية والذكاء، تحفّظه ومحدوديّة إتقانه للإنجليزية جعلا الاقتراب منه صعبا مقارنة بباقى أعضاء مجلس القيادة. هكذا يبدأ التقرير الأمريكى الخاص بعبد الناصر. يُكتب كذلك فى التقرير: «يكشف البكباشى جمال عبد الناصر عن ارتباطه الوثيق لا برفاقه وحسب، بل برجال القوّات المسلحة المصرية أيضا. تملأه الرغبة فى أن تُتاح لبسطاء المصريين فرصة نيل نصيبهم من ثروات البلاد».
تتكرّر هذه العبارة فى وصف جمال: «أقوى رجل فى مصر فى الوقت الراهن». ويخبرنا د.رءوف عباس أنه فى 10 يناير 1953، أعدّت السفارة الأمريكية تقريرا آخر مُفصلا عن عبدالناصر، يتضمّن معلومات إضافية، منها أنه عندما كان عبد الناصر يخدم بالعلمين عام 1942، سُرِّح من الخدمة لسبب مجهول. كان معروفا عن جمال «تطرّفه الوطنى»- تتكرّر هذه العبارة أيضا فى التقرير - وحماسه لدول المحور فى مقابل العداء الشديد للإنجليز. ثم عاد عبدالناصر إلى الخدمة، ربما عقب استقالة وزارة النحاس باشا فى فبراير 1944.
مكتوب فى تقارير الأمريكان كذلك أن عبد الناصر خلال حرب فلسطين، قام على ما يبدو بتدريب كتائب الإخوان، وهو عمل غير قانونى بالنسبة لضابط جيش. وبصفة عامة «لا يوجد ما يشير إلى أن عبد الناصر عضو بالإخوان أو كان عضوا بها، لكنه ذكر ذات مرة أنه من المتحمسين للجماعة، وتعاون معها».
فى التقرير الخاص بجمال عبدالناصر، بدا الأمريكان لا يعرفون على وجه التحديد تاريخ انضمام عبدالناصر لما أسموه «مؤامرة الضبّاط الأحرار». ولم يُعرف تحديدا الدور الذى لعبه فى قيام الثورة. لكنه بحسب ما يذكره التقرير؛ كان يحمل سخطه الخاص أيضا على النظام القديم وقيادة الجيش. وفور الانقلاب العسكري؛ برز «تدريجيًا» دور عبد الناصر كواحد من الشخصيات القيادية «للحركة المباركة» كما تختار السفارة الأمريكية استخدام هذا التعليق على ثورة يوليو بعد ذلك، يكتب السفير ورجالاته مرّة أخرى من مرّات لا حصر لها عن عبد الناصر: «لعلّه اليوم أقوى رجل بعد نجيب».
«التطرّف الوطنى» يبرز مرّة أخرى عندما تتطرّق التقارير لوصف علاقة عبد الناصر بالسياسة الأمريكية. فهم يرونه منتقدا لها لارتباطها الوثيق ببريطانيا، ويشير التقرير الأخير عن عبد الناصر، إلى لقائه بأحد رجال السفارة الأمريكية بالقاهرة وقوله له: «إن الإنجليز يفقدون هذه البلاد وأنتم معهم».
 أنور السادات.. ثورى يجهل
 تعقيدات السياسة!
يصف الأمريكان السادات بأنه «من أقوى الشخصيّات بين الضُبّاط الشُبّان الصِغار الذين خطّطوا لـ23 يوليو»، فبتأثير منه عُيّن على ماهر باشا - صديقه - رئيسا للوزراء (1939 - 1940)، وهو الذى كان يكتب خطب وبيانات محمد نجيب. يبدأ تقرير السفارة الأمريكية عنه بأنه «من أكثر الضباط الذين دبّروا لحركة الضباط الأحرار ونفّذوها نفوذا، وهو الآن من الأعضاء القياديين بمجلس قيادة الثورة». لا يُفسّر الأمريكان قوّة أنور السادات بين أعضاء مجلس القيادة (هكذا ترد الجملة فى كل التقارير بلا أدنى استخدام لمفردة ثورة) بسبب «ذكائه اللمّاح» فقط، بل من دوره فى «تنظيم من قاموا بالانقلاب العسكرى»، التقى أنور السادات بسكرتير أوّل السفارة الأمريكية على مائدة الغداء فى أكتوبر 1952، وقال له: «لقد قضيت سبع سنوات من عمرى فى المعتقلات البريطانية لمُجرّد الشك فى قيامى بأعمال مُضادة للإنجليز، لذلك أنا لا أحبّهم».
مكتوب فى تقرير السادات أنه منذ بداية الانقلاب دائما ما كان يُعبّر عن ميله نحو الأمريكان. وصف التقرير السادات بأنه أقل رفاقه فهما لتعقيدات السياسة الدولية، و«أكثرهم ثورية». يُشير التقرير كذلك إلى الاتهامات والشبهات التى ظلّت تُحيط بالسادات، مرّة بأنه «شيوعى صميم» ومرّة بأنه «الممثّل الفعلى للإخوان فى النظام الجديد». هكذا كان الأمريكان يُعسعِسون حول أعضاء مجلس قيادة الثورة.
بالنسبة للإنجليز ظلّ السادات مثارا لهذه الشُبهات، وأن سفارتهم رغم ذلك مالت إلى تصديق تأكيداته مرارا لرجالها بأنه يمقت الشيوعية وأنه ليس المُتحدّث بلسان الإخوان فى مجلس القيادة. وفى التقارير الإنجليزية وُصف السادات بأنه «رجل ضيّق الصدر»، «قليل الصبر»، «محدود الفهم». لكنه «رجل مبادئ». ومع ذلك اعتبروه «آخر من يوثق بهم بين البارزين من رجال النظام الجديد».
لكل ما سبق اعتبرت الخارجية الأمريكية أنه من سوء الحظ أن يكون السادات مندوب مجلس القيادة للإشراف على وزارة الإرشاد القومى التى كان يتولاها فتحى رضوان، الذى طالما اعتبرته أمريكا هو الآخر «متعصّبًا متطرّفًا وطنيًا»، كما تُحبّ أن تصف ذلك النوع من الرجال البارزين فى الدولة المصرية وتطمح للاقتراب منهم وربما تجنيدهم.
لا يفوت التقرير، الإشارة إلى التطمينات التى حرص السادات على تقديمها للأمريكان من فتحى رضوان. يذكر التقرير الأوّل الذى أُعدّ عن السادات، أنه ذكر فى اجتماعه بالسكرتير الأوّل للسفارة: «لا تخشوا أيها الأمريكان من فتحى رضوان، فأنا موجود معه باستمرار، وسوف أمنعه من الإقدام على أى عمل معاد للأمريكان قبل أن يبدأ القيام به».
فى التقرير الثانى الذى أعدته السفارة الأمريكية عن السادات فى 2 مايو 1953، حدث أن راجعت السفارة أحكامها بشأنه، تماما مثلما حدث مع أغلب رجال الثورة. يقول التقرير الثانى ما يُفيد بأن السفارة بالغت فى تقدير أهمية مركز أنور السادات فى مجلس قيادة الثورة، وأنه الآن بالنسبة إليهم لا يعدو كونه مجرد متحدث باسم مجلس قيادة الثورة، وأن الرجل القويّ بحق هو البكباشى جمال عبدالناصر، باعتباره المُحرّك الفعّال لنشاط المجلس.
رأى رجال السفارة أن مركز السادات تعرّض للخطر والزعزعة، حتى من قبل زملائه داخل المجلس. بدأ هذا القلق فى وضع السادات كمحرّك فعّال، عند الإطاحة بالبكباشى عبد المنعم أمين فى فبراير 1953. كان السادات هو العضو الوحيد من أعضاء مجلس قيادة الثورة الذى لم يشترك فى محاكمة مدبّرى الانقلاب المُضاد فى 15 يناير، ومن حينها- كما يقول التقرير الأمريكي- دار نقاش حاد داخل مجلس القيادة يُشكّك فى ولاء السادات للنظام، وربما لم يستطع التخلّص من علاقته القديمة بالحرس الحديدى، وبالدكتور يوسف رشاد (صفى الملك فاروق). ربما رأى زملاؤه أنه عميل مزدوج. الوحيد الذى ساند السادات هو جمال عبد الناصر إلى أن تم تعيينه- أى السادات- مع فتحى رضوان فى اللجنة التى تكلّفت بإعداد قائمة المحاكمين أمام «محكمة الغدر».
أمّا عبد الحكيم عامر، فتكتب عنه التقارير الأمريكية سطورًا قليلة تقول أنه يعمل مساعدا للبكباشى عبد الناصر، وتجمعهما صداقة حميمة وصُحبة تعود إلى عدّة سنوات. هو صديق هادئ ومتحفّظ الطبع. يُعطى انطباعا بتمتعه بقدر ملحوظ من الذكاء ويشتهر بالجرأة والإقدام.
زكريا محيى الدين يلتقى
 الملحق العسكرى الأمريكى
مما لا يُذكر كثيرا أن أعضاء السفارة الأمريكية أجروا عدة اتصالات مع البكباشى زكريا محيى الدين، ودائما ما كان يُعبّر عن صداقته وحُسن نيّته تجاه الولايات المُتّحدة الأمريكية. وكان يُفضّل أمام مستشار السفارة التعبير عن أن العسكريين وضعوا آمالهم على عاتق «السلطات المدنية» لخدمة السياسات التى يتوّلون تنفيذها.
أوضح زكريا محيى الدين الذى أصبح لاحقا مديرا للمخابرات الحربية فى حديث بينه وبين الملحق العسكرى الأمريكى أن دور الجيش هو «تقديم الاقتراحات لتحسين الأداء وإدخال التغييرات» وأن من حق رئيس الوزراء قبولها أو رفضها. وأعرب عن طموحه بأن الحكومة فى مصر تصبح «ملكية دستورية» على النحو البريطانى تماما. ركّز فى حديثه لمستشار السفارة على أن حركة الجيش تنوى الإصلاح الداخلى الشامل، دون الالتفات فى القريب إلى المشاكل الدولية، فلا وقت لها الآن.