الأربعاء 21 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد امبابي

35 ألف نسمة مهددون بسرطان الرئة

35 ألف نسمة  مهددون بسرطان الرئة
35 ألف نسمة مهددون بسرطان الرئة


فى دروب ومسالك متهالكة لاتعرف بدايتها من نهايتها، كلفنا الأمر البحث عن دليل، يرشدنا إلى منطقة «حى الزبالين»، أحد الأحياء العشوائية بمنشأة ناصر، ويقطن بها 35 ألف نسمة، يعمل أغلبهم فى جمع وفرز القمامة وإعادة تصنيفها، حيث يتم تدوير نحو 3200 طن يوميا، بحسب الدليل، وهو أحد الشباب العاملين فى مصانع تدوير القمامة.
جميع البيوت فى شوارع هذا الحى، يقع أسفلها مصانع وورش لجمع المخلفات وفرزها وإعادة تدويرها، والتى يصل عددها إلى 700 ورشة، وعلى مدار نهار اليوم، لاتكف سيارات النقل الكبيرة والمتوسطة، المحملة بأكوام القمامة، أن تضع أمام هذه البيوت المخلفات المجمعة، ليبدأ العاملون نساء وشبابا وأطفالا، لاتتجاوز أعمارهم الـ8 أعوام، بنقل المخلفات وفرزها بأيديهم العارية من دون أى جوارب تضمن لهم حدا أدنى من الأمان، ثم تتبعها عملية تصنيف القمامة.
يصف الشاب المرافق التعامل مع القمامة داخل المصنع، أنه يتم فصلها لتتلاءم كل مجموعة مع الصناعة المطلوب إعادة تدويرها، مثل القماش والزجاج والألومنيوم، فضلا عن المنتجات الغذائية، التى تذهب طعاما للحيوانات، التى تنتشر داخل البيوت وفوق أسطحها وخارجها بالشوارع، تبدأ من القطط والكلاب وحتى الخنازير، حيث  توجد محال للإعلان عن بيعها هناك.
أثناء الدخول لحارة ناصيف عطية بـ«حى الزبالين»، يعيش بها نحو 10 آلاف نسمة، كانت تتصاعد أدخنة سوداء وسحب كثيفة تخلفها أعمال الصهر فى مسابك الألومنيوم الموجودة فوق أحد أسطح المنازل الواقعة فى هذه الحارة، بينما تتسبب الأدخنة فى تهيج الأنف والعينين للوهلة الأولى أثناء التعرض لها وتقبض أنفاسك بينما تظهر واجهات المنازل المبنية بالطوب الأحمر فى هذا الشارع يغطيها لون داكن.
يوضح أحد العاملين فى هذه المسابك، رفض ذكر اسمه، أنه يعمل فى مسابك صهر الألومنيوم منذ كان عمره 6 سنوات مثل معظم أبناء الحى بعد أن خرج من التعليم مبكرا  وبدأ العمل فى مصانع جمع القمامة لكنه يذكر أن العمل فى المسابك يجنى أرباحا أكثر.
ويستطرد: من بين النفايات نقوم باستخراج علب المياه الغازية المصنوعة من الألومنيوم التى توضع لمدة ساعة فى أفران تصل درجة حرارتها 300 درجة مئوية للحصول على ألومنيوم منصهر خالٍ من الشوائب وتحويلها إلى كتل الواحدة منها تزن نحو 5:8 كيلو جرامات.
ويذكر، أن الشوائب والرماد الناتج عن عملية صهر الألومنيوم تستخدم كوقود للأفران.
لم يقف الشاب، ذى الـ18 عاما، أمام الفرن لأكثر من اثنتى عشرة ساعة يوميا، دون أن يضع كمامة صحية على وجهه أو يرتدى سترة تقيه سموم عوادم هذه المخلفات والسواد يكسو وجهه، عند سؤاله عما قد يتعرض له وأبناء مهنته من إصابات أو أمراض صحية مزمنة بالغة الخطورة، فى هذا العمل الذى لاتتوافر للعاملين فيه أدنى شروط الأمان الصحى والاجتماعى، فكانت إجابته: «أن العائد المادى هو الذى ينتظره بغض النظر عن الموت أو المرض».
انتقلنا بمعرفة أحد أبناء الحى للاطلاع على المسابك من فوق أسطح أحد المنازل المقابلة لها بعد أن منعنا أصحاب البيوت التى تعمل بها من الدخول أو التصوير، ومن جانبهم، توقف العمل للحظات، وتبدد فى الهواء سحب الدخان تحاشيا لتصويره.
 بينما واقع الحال، يشير إلى وجود ثلاثة مسابك غير مرخصة ولايخضع إنتاجها لأى رقابة من أى جهة، بالإضافة إلى عشرين فرنا تم حفرها بعمق 5 أمتار فى قلب جبل المقطم المتاخم لبيوت منشأة ناصر، ليجرى فى أحشائها التى تعانى من تسرب المياه الجوفية  وتهدد القابعين فى حضن الجبل والبيوت الواقعة أسفله، من تصدع كتله الصخرية، صهر المادة المعدنية المفروزة من القمامة.
يؤكد الجيولوجى فكرى يوسف، رئيس هيئة الثروة المعدنية السابق، أن هذه الأفران تتسبب فى تسخين الصخر تحت درجة حرارة عالية، ثم يحدث لها برودة مرة أخرى، مما يعرض الكتل الصخرية إلى تشققات وتصدعات، كما تؤثر فى الوقت ذاته، على سلامة المبانى السكنية المتاخمة لها، خاصة، إذا كانت هذه المسابك مبنية من الحجر الجيرى وبقايا الرخام وليس «الزلط»،  يسبب لها انهيارات وتساقط المبانى.
يروى عم رومانى موسى، 50 عاما، وبيده عدة أوراق تفيد إصابة بعض قاطنى هذا الشارع الذى يسكنه 10 آلاف شخص موزعين على 60 منزلا، بأمراض متشابهة خاصة الأطفال من حساسية صدر والتهاب الأنف والعينين واحتقان مزمن بالجيوب الأنفية، وأوراق أخرى من مستشفى علاج السرطان المشهورة، حصلت «روزاليوسف» على نسخ منها، حيث تبرز حالات تعانى من أورام سرطانية.
 ويستطرد الرجل، وهو يدفع بآخر أوراقه الشكوى التى رفعها إلى الدكتور جلال السعيد، محافظ القاهرة، لكن شيئا من الأمر لم يتغير رغم تردده على مكتب المحافظ للبت فى شكواه.
ومن بين تلك الحالات سيدة فى الخمسين من عمرها، تعانى من ورم بالثدى، وأم عادل 45 عاما تعانى من انسداد بالرئة، وسعيد موسى 38 عاما، أصيب بالعمى نتيجة حساسية مزمنة بالعين، وشقيقه عيد أصيب بنفس المرض، لكنه أجرى عملية أنقذت عينيه من فقدان البصر. بالإضافة إلى أسر تركت منازلها لتسكن بعيدا عن هذه المسابك التى تفتك بأجساد أبنائهم.
يوضح مجدى علام، أمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب، أن أزمة التلوث البيئى فى منشأة ناصر ليست مقصورة على المحيط السكنى بداخلها إنما لطبيعة المنطقة المرتفعة فتنتقل لوسط وغرب القاهرة وتختلط بملوثات منطقة صناعية، فضلا عن عوادم السيارات فى الأماكن المتكدسة.
ويضيف: يحظر فى كل دول العالم النشاط الصناعى فى الأماكن السكنية حتى لو كانت مناطق عشوائية بصرف النظر عن نوع العمل الصناعى لكن هذه الأحياء العشوائية التى تمت بدون تخطيط وبوضع اليد سقطت من حسابات المسئولين.
وأردف: إن هذا النوع من تدوير المخلفات يحتوى على معادن ثقيلة كـ«الزئيق»، وبسؤاله عما قد  تحمله السحب السوداء من غازات ضارة أو سامة، أجاب أنها: «أكاسيد الكربون أو الأمونيا، الألومنيوم، النيتروجين، وديكوسين، وهى مواد جميعها سامة ومسرطنة».
ويكشف علام عن أن هذا المستوى من الصناعة لا يلتزم بقوانين البيئة باستخدام مواد أولية من المعادن أو خام الألومنيوم والتكنولوجيا النظيفة، لكنه يعتمد على الوقود المرتجع وعناصر من «الخردة»، مثل إطار البطاريات المعدنية وقطع غيار السيارات.
يعد هذا النشاط مأساة قبل أن تكون كارثة بيئية وصحية، يقول أمين عام اتحاد خبراء البيئة العرب، كما أن أول المتضررين منها العامل الذى يقف لساعات طويلة أمام هذه الأفران وتصيب بشكل مباشر الرئة والعين والجلد بحساسية مزمنة وأورام سرطانية بالإضافة إلى السكان المحيطين بهذه الأنشطة الصناعية الذين يكونون فى أضعف حالاتهم الصحية وأبرز الأمراض التى تنتشر فى أوساطهم هى سرطان الرئة والجهاز التنفسى.
محمد نور، رئيس حى منشأة ناصر أكد أنه على علم بتلك المشكلة وهى ليست قائمة فى مسبك واحدة إنما متعددة ويقوم بتحرير محاضر يومية وتوقيع غرامات مالية، بالإضافة إلى المرافق لقطع الخدمات عنها لكن المواطنين لايستجيبون ويقومون بإعادة تشغيلها وقانون الإدارة المحلية غير رادع.
ويضيف: إن المنطقة عشوائية وكلها مبنية بالتعدى على أملاك الدولة ووضع اليد وتحتاج إلى إعادة تخطيط ووضع شبكة طرق رئيسية.
لكن المهندسة سعاد نجيب مدير وحدة متابعة مشروعات تطوير المناطق العشوائية بوزارة التطوير الحضرى والعشوائيات، قالت إن الوزارة تدرس قرار بنقل ورش إعادة التدوير المنتشرة بحى الزبالين، عددها 1500 إلى المنطقة الصناعية فى بدر ، وجارٍ وضع جدول زمنى للانتهاء منها للحد من الملوثات البيئية الناجمة عن فرز وإعادة تدوير القمامة.∎