الأحد 19 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الأبنودى حوَّل الشعر العامى إلى أغنيات يرددها البسطاء

الأبنودى حوَّل الشعر العامى إلى أغنيات يرددها البسطاء
الأبنودى حوَّل الشعر العامى إلى أغنيات يرددها البسطاء


فى مساء يوم 31 مارس 1962 وصل إلى القاهرة قادما من صعيد مصر شاب أسمر نحيل.. فارع الطول يحمل معه بعض الأوراق والأحلام والإصرار والطموح.. كان هذا الشاب هو عبدالرحمن محمود أحمد (الأبنودى).. وكانت تلك الأوراق مخطوطة ديوانه الأول «الأرض والعيال».. ومن مساء تلك الليلة بدأت خطوات الأبنودى نحو تأسيس مشروعه الشعرى الفريد.. وما هى إلا سنوات قليلة حتى صار الأبنودى واحدا من كبار رواد شعر العامية المصرية المؤسسين لحركة الشعر العربى الحديث.
بدأ الأبنودى أشعاره الأولى عام 1959 وهو على أعتاب عامه العشرين.. وظل شعره فى حالة خاصة ومتفردة من حالات اللغة العربية العامية الجنوبية.. تكاد تقترب من الفصحى أو تكونها.. اكتشف أسرار موسيقاه الشعرية منذ وقت مبكر.. وقدم قصيدة صادقة ومعبرة.. وعلى درجة عالية من السلاسة والبساطة الفطرية.. فاستحوز بحضوره الطاغى على النصيب الأكبر من من جمهور الشعر من البسطاء والمثقفين على السواء.. وتحول إلى شاعر الربابة المثقف الذى يحمل على عاتقه هموم الغلابة والمطحونين وهموم الوطن بكل قضاياه القومية والوطنية.. فتتلقفه الناس بفرحة المحب.. ولهفة الجائع.. فيهز الوجدان.. ويحرك المشاعر.
 والأبنودى قدم أكثر التجارب ثراء وكان أصدق الشعراء فى التعبير عن الإنسان المصرى البسيط، وتكمن أسرار صدقه فى إصراره على أن يكون فى وسط الناس ليسجل مشاعرهم لحظة بلحظة.. فكان دائما فى الشارع بين الناس فى أكبر معاركهم.. فلم يجلس فى برج المثقف العاجى.. ولم يجلس خلف المكاتب الفخيمة بين الجدارن الدافئة فى الغرف المكيفة والمقاعد الوثيرة.. بل كتب قصائده بمداد قلبه وكان قلمه مغروسا ــ دائما ــ فى طين مصر بين أفراح الفقراء وأحزانهم.. وكانت خطاه تتبع كفاح الشعب المصرى ومعاركه الكبرى.. فعندما بدأت معركة السد العالى.. ذهب بنفسه إلى أسوان وعاش التجربة كاملة بين عمال التراحيل وبناة السد العالى.. وابتكر أسلوبه الخاص فى كتابة رسائل من نوع خاص.. رسائل حميمة يكتبها الفقراء من القلب ويبوحون فيها ببساطة مطلقة بمشاعرهم الدافئة.. فكتب ديوانه العبقرى (جوابات حراجى القط.. إلى زوجته فاطنة أحمد عبد الغفار.. يصل ويسلم ليها بمنزلنا الكائن فى جبلاية الفار).. وتوالت الرسائل لتسجل فى مجموعها عبر ديوانه الفريد نضال الشعب المصرى فى معركته مع الطبيعة القاسية لتحويل مجرى نهر النيل ليصف بعمق ووعى المثقف.. مشاعر المواطن البسيط.. وعندما تقع نكسة .1967 ينتقل الأبنودى إلى مدينة السويس ويعيش هناك على شاطئ القناة مع الجنود والمواطنين البسطاء الذين رفضوا الهجرة وقرروا أن يعيشوا بين الحرائق والقنابل والغارات دون خوف دفاعا عن الأرض التى زرعوها بأيديهم.. وكتب أروع أعماله الصادقة (وجوه على الشط).. وقدم من خلاله شخصيات من لحم ودم.. كائنات مصرية حقيقية جميلة: (جمالات، إبراهيم أبو العيون، بياع الدندورمة... إلخ).. وتأمل إبراهيم أبو العيون حين يسأله الأبنودى لماذا لم تهاجر؟.. ألست خائفا على عمرك؟.. فيرد عليه عم إبراهيم: كيف أخاف على عمرى وعمرى هنا أفنيته فى هذه الأرض التى أمامك التى كانت رملة صفراء وحولتها إلى أرض خضراء عبر السنين.. وتأملوا معى الصياغة الشعرية لهذا المعنى.. لنتذوق معا طعم الكلام البسيط.. وفلسفة المواطن المصرى الذى يدرك قيمة الأرض.. ونكاد نشم رائحة هذه الأرض الطيبة من خلال تلك الصورة الشعرية التى يرسمها لنا الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى:
إبراهيم أبو العيون..
لو ماضحكش اليوم كله يموت
ويقولك:
خمسين سنة وأكتر
كانت رملة
وقعدنا عملنا دروة خشب أنا وأم على
كنا نشتغل اليوم كله
ونفر نلاقى حتة ضل
أحلى ما يعمل إنسان فى حياته يا ولدى
يزرع ضل..
أحلى ما تحس
لما الضل اللى زرعته
تشوفوه مرمى على وشوش الناس
.... ويكمل الأبنودى قصيدته الرائعة.. ليصل إلى عمق فلسفة إبراهيم أبو العيون:
عمرى خمسة وسبعين
إحسبها لون
تلقى الأرض دى كانت رمل أصفر
وبقيت طين
طيب أسيب عمرى وأروح على فين
الواحد يمشى عشان ينجى بعمره وأنا عمرى أهه.. فى الأرض
قصاد عينك.. كيف حا خده معاى..!!
ويمضى الأبنودى فى تجربته بالسويس طوال حرب الاستنزاف ليسجل لنا يوميات الحرب الشرسة، وبطولات رجال المقاومة، وصمود شعب السويس ثم التحدى، ثم الردع، ويكتب أغنيته البديعة:
 يا بيوت السويس يا بيوت مدينتى
استشهد تحتك وتعيشى إنتى
 هيلا هيلا هيلا يا لله يا بلديا
 شمر دراعاتك الدنيا أهيه
وإن باعوا العمر فى سوق المنية
 رفاقة هانروح السوق نجيبه
 ونعود ونغنى ع السمسية
ليكى يا مدينتى
ياللى صمدتى.. إلخ.
لم يكن الأبنودى لديه أدنى شك فى قدرة الشعب المصرى على استرداد أرضه التى أخذت منه على حين غفلة فى حرب .67 وكأن لديه يقيناً بأن هذا الشعب قادر على الثأر والنصر وطرد العدو المتغطرس الذى غرس رايته الكريهة فى لحم الوطن عشية النكسة على شط القنال الشرقى.. فكتب الأبنودى قصيدة لم تنشر حتى الآن وكان يرفض نشرها من شدة قسوتها وجلد الذات.. (ولكنى بحكم العلاقة التاريخية بشاعرنا الكبير منذ عام 68 احتفظ بها بداخلى).. حيث يقول مطلعها:

عيب ع الرجال الملاح
 يمشوها مطاطين
يشربوا الرايقة
قلب الرايقة عكران طين
ضاحكين على بعض
ولا على مين ضاحكين
دى البصة للراية
فى الأرض الغريبة الملك
وكسرة العين تسوى العد بالملايين
بصيت على الراية
من خلف الخجل والبحر
عوى فى ضلوعى الألم
وأذانى ناب القهر... إلخ
ولكن الأبنودى الذى رفض الهزيمة مثله مثل كل المصريين الذين خرجوا فى 10 ,9 يونيو.. عاد بعد مرارة الألم وذل الهزيمة ليزرع الأمل من جديد بأغنيته الرائعة (عدى النهار) التى أودعها فى البداية كل مرارة النكسة.. وأنهاها.. بكل الإصرار والتحدى.. وانطلقت حنجرة عبدالحليم الدافئة بالحزن والشجن.. يغنى على نايات موسيقى العبقرى بليغ حمدى.. ليحمل لنا الأبنودى البشارة بالنصر حين يبدأ بالحزن.. وينتهى بالتفاؤل:
عدّى النهار والمغربية جاية
 تتخفى ورا ظهر الشجر
وعشان  نتوه فى السكة شالت من ليالينا القمر
 وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها
 جانا نهار مقدرش يدفع مهرها
 يا هل ترى الليل الحزين أبو النجوم الدبلانين
 أبو الغناوى المجروحين
 يقدر ينسيها الصباح.. أبو شمس بتشر الحنين
 أبدا.. بلدنا للنهار.. بتحب موال النهار
 لما يعدى فى الدروب
 ويغنى قدّام كل دار
...... ويمضى الأبنودى ليأخذنا على جناح الحلم:
 تحلم بلدنا بالسنابل والكيزان
 تحلم ببكرة واللى ح يجيبه معاه
تنده عليه فى الضلمة وبتسمع نداه
 تصحى له من قبل الآذان
 تروح تقابله فى الغيطان
 فى المتاجر فى المصانع
 فى المدارس والساحات
 طالعه له صحبة صفوف جنود
 طالعه له رجال أطفال بنات
 كل الدروب واخدة بلدنا للنهار
 وإحنا بلدنا للنهار.. بتحب موال النهار
 لما يعدى فى الدروب..
 ويقف قدام كل دار
وبعد هذه القصيده غادر الأبنودى القاهرة وجاء إلى مدينة السويس.. ليسجل ويرصد يومًا بيوم كل ما يدور حوله من بطولات ومعاناة وأحداث.. وكتب أروع أغانى المقاومة.. وربما لا يعلم الكثيرون لماذا أطلق الجميع على الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى لقب (الخال).. ففى فترة حرب الاستنزاف.. وقت أن كان الظلام الدامس يكسى الوجوه والمبانى والبيوت والمصانع والغيطان.. وكنا نسهر فى ليل السويس نتجمع عند الكابتن غزالى لنغنى جميعا مع فرقة أولاد الأرض التى أسسها وكتب أشعارها كابتن غزالى.. فى هذه الأيام التى صنعت منا جميعا رجالا أشداء كتب الأبنودى ولحن الموسيقار إبراهيم رجب وغنى الصوت الشجى الحزين محمد حمام.. أغنيته الرائعة:
 والله لا بكرة يطلع النهار يا خالة
 والله لا بكرة يطلع النهار يا خال
 وتبقى الدنيا عال..
 والشمس تيجى من ورا الجبال.. يا خال
 باحلم يا خال.. بحلم بيوم معدول..
وشغلة شريفة يا خال..
وضحكة مرتاحة..
 ولقمة نضيفة يا خال
 باحلم أنا.. سنة ورا سنة يا خال..
 رغم الألم.. حلمى لا ضاع منى ولا انتهى يا خال
..
باحلم يا خال.. بحلم بيوم..
 يفرش ضياه ع الفلاحين..
يملى صوامعهم غلال ويبيض العجين
 باحلم أنا.. سنة ورا سنة يا خال..
 وتبقى الدنيا عال.. والشمس تيجى من ورا الجبال
ونلاحظ هنا.. الوعد والحلم والتفاؤل المرتبط ارتباطا شرطيا بوجود (الخال) فهو يرمز هنا للمواطن المصرى.. واختار الأبنودى الخال لأن الخال فيه من حنان الأم الكثير.. ودائما ما يصاحب الأبناء الخال.. ولا يصاحبون العم.. لحميمية العلاقة بينه وبين أبناء أخته وفى الصعيد ينادى الناس المقربون إلى نفوسهم بالــ(الخال).. والقسم هنا فى الأغنية يحمل الوعد والعهد والحلم بتحرير الأرض أيضا رغم الألم.. (والله لا بكرة يطلع النهار ياخال.. رغم الألم.. حلم لا ضاع منى ولا انتنى يا خال).. وصار هذا اللقب بعد ذلك شعارا على ألسنة كل الذين عاشوا تلك الأيام فى السويس.. حينما كان الظلام يكتنف المدينة.. وصارت تحية مثل (مساء الخير، وصياح الخير..).. فعندما تسير فى الظلام وترى ظلال القمر الكابية على الوجوه نقول لبعضنا البعض: (والله لا بكرة يطلع النهار يا خال).. وكان الأبنودى هو الأحق بهذا الشعار كلما رأيناه نقول له: (والله لا بكره يطلع النهار ياخال).. ومن هنا جاء لقب (الخال).. وتمضى بنا الأيام.. وتتحقق النبؤة وتنتصر كل أغنيات وشعارات شاعرنا الكبير.. هذه كلمات كتبت فى عجالة ولم نتحدث عن دواوينه.. ولم نتحدث عن جهده الرائع فى جمع ولملمت أشلاء السيرة الهلالية.. فقد أمضينا معا أجمل أيام العمر منذ عام .1968 ولكن لا شك أن أكثر هذه الأيام جمالا وثراءً هى تلك الأيام التى قضيناها معا فى مكتبى.. وسط مخطوطات السيرة الهلالية المهولة.. وأنا أحولها إلى رسومات لأغلفة السيرة الهلالية للخمسة أجزاء الأولى.. وعدد هائل من الرسومات الداخلية والموتيفات الصغيرة المعبرة عن هذا الجهد الرائع.. كنا نصل الليل بالنهار.. دون كلل أو ملل.. وكان تحديا كبير عام .1987 وخرجت السيرة فى طبعتها الأولى.. لا يكفى أن تحدث عنها هنا..ولم نتحدث عن أغنياته الوطنية والعاطفية.. ولم نتحدث عن دوره فى السينما والأعمال الدرامية.. فشاعرنا الكبير صاحب الوجه النبيل الذى تجمعت فيه كل ملامح الإنسان المصرى ليعطى لنا وللحياة طعما ورائحة ومذاقا مصريا أصيلا نابع من أعماق صعيد مصر العامر والغنى حتى الآن بالحب والخير والجمال.. لا يكفيه مقال أو كتاب.. إنه يحتاج إلى مجلدات ووقت بامتداد سنوات عطائه السخى لمصر ولأمته العربيه.. رحم الله الأبنودى وبارك لنا فى زوجته الإعلامية الكبيرة السيدة نهال كمال وبنتيه الرائعتين آية ونور.∎