عندما بكت غرناطة على «رضوى عاشور»

ايناس كمال
قبل أن تنهى آخر فصول سيرتها الذاتية «الصرخة» وهى الجزء الثانى لسيرة ذاتية لم تكتمل، رحلت صاحبة «غرناطة»، رضوى عاشور الكاتبة والمناضلة التى أثرت العمل الوطنى والأدبى عبر سلسلة حافلة من الكتابات، فقدتها مصر والعالم العربى الأسبوع الماضى عن عمر يناهز الـ68 عاما.
«عودى يا ضحكتها، عودى» هكذا دعا زوجها الشاعر الفلسطينى مريد البرغوثى طالبا شفاءها العام الماضى، لكن لم تعد هذا العام، احتار المقربون منها فى وصفها كونها يسارية أم أديبة أم مفكرة أم أستاذة بجامعة عين شمس أم مناضلة أم أم مثالية وزوجة وفية محبة ومخلصة لزوجها، لمحات من نور لا تليق بها لكننا اختزلناها قدر الإمكان لنلقى الضوء على حياتها.
السيرة الذاتية لها تحفل بإنجازات عديدة أوردت بعضا منها فى كتابها الأخير «أثقل من رضوى» والذى يروى صراعها مع المرض وفترة الثورة واستقبالها لخبر تنحى مبارك عقب إفاقتها بغرفة العناية المركزة بإحدى مستشفيات أمريكا.
ولدت الكاتبة الراحلة كابنة وحيدة فى 26 مايو 1946 فى القاهرة، ودرست الأدب الإنجليزى وحصلت على الماجستير فى الأدب المقارن من جامعة القاهرة عام 1972 ونالت الدكتوراه من «جامعة ماساتشوستس» فى الولايات المتحدة عام 1975 وعملت بالتدريس فى كلية الآداب بجامعة عين شمس، كما عملت أستاذا زائرا فى جامعات عربية وأوروبية.
وتنوع إنتاج عاشور، فشمل دراسات نقدية منها «الطريق إلى الخيمة الأخرى.. دراسة فى أعمال غسان كنفانى» 1977 و«التابع ينهض.. الرواية فى غرب أفريقيا» 1980 و«البحث عن نظرية للأدب.. دراسة للكتابات النقدية الأفرو - أمريكية» .1995 كما صدر للكاتبة مجموعات قصصية وروايات حظيت باهتمام كبير من النقاد العرب، ومنها «حجر دافئ»1985 و«خديجة وسوسن» 1989 و«قطعة من أوروبا» 2003 و«ثلاثية غرناطة» وتضم ثلاث روايات هى «غرناطة» 1994 و«مريم والرحيل» 1995 و«أطياف» .1999
وكتبت رضوى عاشور أعمالا تنتمى إلى السيرة الذاتية ومنها كتاب «الرحلة.. أيام طالبة مصرية فى أمريكا»1983 ليكون أول أعمالها الأدبية، إضافة إلى «تقارير السيدة راء»2001 والذى قالت عنه أنها كانت تشعر أنها إحدى الراءات التى تضمنتها الحكايات.
ورغم حصولها على عدة جوائز أدبية من مصر وخارجها، منها جائزة أفضل كتاب عام 1994 عن الجزء الأول من ثلاثية غرناطة، على هامش معرض القاهرة الدولى للكتاب، والجائزة الأولى من المعرض الأول لكتاب المرأة العربية عن ثلاثية غرناطة، وجائزة قسطنطين كفافيس الدولية للأدب فى اليونان، وجائزة تركوينيا كارداريللى فى النقد الأدبى فى إيطاليا، إلا أن خوفها من الكتابة ظل أعواما طويلة قبل الشروع فيها.
قالت رضوى إن قراءاتها ودراستها للأدب الإنجليزى جعلتها تعزف عن ممارسة فعل الكتابة كانت تشعر بأنها بينها وبينهم باع طويل، إلى أن تمكنت من الكتابة بعد دفع ودعم شديدين فى مطلع الأربعين من عمرها.
استهلت رضوى كتابة سيرتها الذاتية فى «أثقل من رضوى»، بعبارة «علىَّ أن أعترف بالذنب لإشراكك فى كل هذه التفاصيل لكن كيف أكفِّر عن ذنبى» وواصلت فى كتابها رواية معايشتها للمرض والثورة، وبحسب كلماتها فهى لم تكن تري فى نفسها سوى تلك الفتاة القصيرة ذات الشعر القصير التى تتحرك متخبطة يمينا ويسارا ولديها من الطموح ما يغير عوالم فوق عالمنا.
وكأنها تقرأ نهايتها فاختتمت عاشور «أثقل من رضوى» بعبارة «هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا»، لكن فى حوار صحفى سابق لها أكدت أنها تعمل على الجزء الثانى من السيرة وقالت «عندما قرأت الكتاب مطبوعاً انتبهت إلى أننى كنت قلقة من اضطرارى لجولة علاجية جديدة وبدا لى واضحاً أننى كنت فى عجلة من أمرى فأنهيته بسرعة. قطعت شوطاً لا بأس به فى هذا الجزء الثانى الذى عنونته بـ «الصرخة»، وهو عنوان مؤقت، لا أدرى إن كنت سأبقيه بعد انتهائى من العمل».
كان القدر حليف «مريد» أن تسوقه قدماه عقب نكسة 1967 إلى أن يقابل فتاة كانت تشبه الذكور فى هيئتها ومشيتها كما قالت عن نفسها فتاة قصيرة «تقع على نفسها» لتدخل فى صراع مع عائلتها لفرضهم زواجها من فلسطينى الجنسية مهجر من وطنه وبلا منزل لكن ينتصر الحب فى النهاية وتتوج قصة حب استمرت 42 عاما كما كتب مريد على صفحته والذى لم يستطع المقربون اختزال حبهم بكلمات فكانا أخوين وحبيبين وتوأمين فى الكفاح والعمل والنجاح والحياة.
بمرارة وحزن شديدين رثى مريد زوجته بكلماته الدافئة قائلا: «كما يدخل الماء جوف الصخور.. بقريتنا فى فصول الشتاء.. يشق له ألف درب بباطن أعلى الجبال ويخلد فيها كالثعلبة ترقب ويصغى لوقع خطى المزارعين.. وشق المحاريث للأرض عاما فعاما.. ويخرج نهرا ونبعا ونافورة تسكب ويهتف كالطفلة: ها قد أتيت، تعالوا اشربوا.. فيشرب منه اليمام وأهل القرى.. وقوافل ضلت، وسنجابة تلعب.. وتنغمر الأرض بالبرتقال.. وتحمرّ فيها الورود، وتنضج كل الثمار الوليدة كذلك حبك يدخلنى.. ويشرق وجه القصيدة».
أما نجلها الوحيد تميم والذى ورث موهبة أبيه الشعرية فكتب فى قصيدة سابقة عن أمه قائلا:
لكنى عارف بإنى ابن رضوى عاشور
أمى اللى حملها ما ينحسب بشهور
الحب فى قلبها والحرب خيط مضفور
تصبر على الشمس تبرد والنجوم تدفى
ولو تسابق زمنها تسبقه ويحفى
تكتب فى كار الأمومة م الكتب ألفين
طفلة تحمّى الغزالة وتطعم العصفور
وتذنِّب الدهر لو يغلط بنظرة عين
وبنظرة أو طبطبة ترضى عليه فيدور
العاشقان فرقت بينهما زيارة السادات للكنيست الإسرائيلى، والذى قال عنها مريد فى حوار له «زيارة السادات إلى الكنيست كانت السبب فى تشريدى وجعلى بلا أسرة أو إخوة» وتميم كان لا يزال ذا أشهر خمسة.
وقالت عن هذه الفترة: «حدث ذلك فى نوفمبر 1979 عندما أبعد مريد البرغوثى عن مصر، فتشتتت أسرتنا سنوات طوال كنت خلالها أزور زوجى، بين حين وآخر، وقد حدث ذلك بعد الزيارة التى قام بها أنور السادات للكنيست الإسرائيلى، ليبدأ «السلم» الذى ليس له علاقة بالسلام ، وبقينا فترة طويلة، يقيم كل منا فى مكان، لأنه لم يكن يسمح لزوجى بالإقامة فى مصر».
الغربة تعنى الكثير للعاشقين والتى لخصتها عبارة لمريد كتبها لزوجته أثناء سفرها لأمريكا «حين عدتُ للبيت، شعرتُ بالوحشة، وازداد الوطن وحشة» مأساة التهجير يعيشها مريد وتجعله يذهب إلى عدة دول، لكن العاشقين يتمكنان من اختطاف اللقاءات فى مصر يعود بعدها مريد لمصر ويبدأ مرض رضوى.
كانت ترى أن علاقتها بمريد علاقة من نوع خاص كللها الحب على مدار 40 عاما قالت عنها: «هى علاقة جميلة وصعبة، جميلة كونى زوجة الأديب مريد البرغوثى، وهذا يشرفنى لأنه شاعر وناثر كبير وإنسان عظيم، وهو بالنسبة لى، كان ويظل، سندا كبيرا، وهو لم يحل بينى وبين أن أتقدم أو أن أتعلم».
عقب شفائها من أزمة صحية ألمت بها العام الماضى نشر مريد صورتها عبر صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعى فيس بوك وذيلها بكلمات «(حين ضحكت)، حقل من عَبّاد الشمس تَلَفَّتَ نحوك عادت ضحكتها، وعادت، وعُدنا بالسلامة».
قالت عاشور فى كتابها «أثقل من رضوى»: «ولدت عام 1946 أى بعد عام واحد من نهاية الحرب العالمية الثانية، وقبل عامين من هزيمة العرب فى حرب فلسطين لا أؤرخ الآن لحياتى ولكن أشير إلى أن السنوات الممتدة من احتلال الساحل الفلسطينى عام 1947ـــ1948 إلى احتلال بغداد 2003 والمجازر اليومية فى الحالتين تشكل كل سنوات عمرى».
ولأن رضوى تعتبر قضية التحرر الإنسانى وتحرر الأوطان وتحرر الرجل والمرأة جسدت معاناة التهجير فى صورة رقية الفلسطينية من قرية «لطنطورة» فى معاناة ومأساة تتنوع بتنوع تنقلها بين عدة دول عربية فى رواية «الطنطورية» ثم معاناة مريم فى ثلاثية غرناطة وتجربة السجن التى عاشتها فى روايتها «فرج».
الناقدة والكاتبة سمية رمضان إحدى رفيقات الدرب لرضوى والتى تعد رضوى خسارتها الثانية بعد لطيفة الزيات، قالت بحزن بالغ إن رضوى عاشور علمتها كيف تعيش الحياة بلون جديد ومختلف وأفكار جديدة للأدب وكيف تكون فى الوقت ذاته الأم المخلصة والتى ترعى البيت بدون زوج لمدة أعوام وكانت مناضلة حقيقية بدون متاجرة.
وأضافت «سمية»: ربما لكون رضوى يسارية ونساء العالم اليسارى أكثر قدرة على التأثير لأنها تتميز بشجاعة أدبية وقدرة على التضحية ولديها انحياز واضح للفقراء والعدالة، جعلاها مناضلة وشجاعة لتلحق بلجنة الدفاع عن الثقافة القومية، واللجنة الوطنية لمقاومة الصهيونية فى الجامعات المصرية، ومجموعة «9 مارس لاستقلال الجامعة المصرية» فهى لم تنس العمل النضالى حتى مع اقترابها من السبعين وفور قدومها من الولايات المتحدة نزلت إلى ميدان التحرير لتشارك المتظاهرين.
أما عن علاقتها بالشاعر مريد البرغوثى زوجها قالت «كان هناك حالة توحد بينهم ويشبهون بعضهم البعض وكان هناك عمل جاد بينهم ورسالة ولم يكن حديثهم أبدا كلاما غير مهم وإنما حديثا مفيدا على الدوام».
وعلى صعيد النضال الثقافى والسياسى شاركت رضوى عاشور مع الدكتورة لطيفة الزيات فى تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، التى لعبت دورا مهما فى صد الهجوم على الثقافة الوطنية بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، كما كانت رضوى عضوا فاعلا فى مجموعة 9 مارس لاستقلال الجامعات التى دافعت عن استقلال الجامعات فى ظل الحكم الاستبدادى لنظام مبارك.∎