سجن طره.. وإن طال الحبس!

أكرم السعدني
مع تجارب الولد الشقى السعدنى الكبير - طيب الله ثراه - فى السجون المصرية، تعرفنا بنماذج رائعة من ضباط الشرطة.. والناس نوعان.. نوع يتشرف بالمنصب ونوع آخر يتشرف المنصب به، ومن هذا النوع الأخير كان الرائد محسن السرساوى الذى كان أحد المشرفين بل والمقيمين فى سجن القناطر الخيرية، حيث قضى الولد الشقى عقوبة السجن لمدة عامين كاملين بتهمة قلب نظام حكم الرئيس الراحل أنور السادات وفى هذه الأيام كان لى من العمر عشر سنوات ولكننى استطعت أن أفرز البشر.
خصوصا هؤلاء الذين أصبحوا حراسا على السعدنى ومن خلالهم وحدهم كان علينا أن نزور الولد الشقى فى محبسه ومنهم المأمور نظمى الجولى قدس الله روحه، رجل شديد الانضباط أشد الطيبة واللواء محمد صبحى والعقيد حسن البندارى عماشة وضباط أشكال على أنواع، ولكن أكثرهم تميزا كان شابا فى مقتبل العمر، عمره ربما فى عمر العم صلاح السعدنى كان نحيفا طويل القامة ترتسم على وجهه علامات السماحة وعلى شفتيه ابتسامة لا تفارقه على الإطلاق وكان يحمل على كتفيه رتبة رائد والغريب أن الضابط السجان كان ينادى أبويا الجميل المسجون السعدنى الكبير قائلاً: ياعم محمود.. فهو أحد عشاق ما يكتبه السعدنى فى مجلة «صباح الخير» أيام مجدها التليد فى الستينيات من القرن الماضى.. هذا الرجل استطاع أن يكسب ودنا وفوق ذلك احترامنا ومع الأيام لم يصبح قريباً منا فقط ولكن أيضاً قريب لنا، فهو يتعامل مع البشر وليس مع المناصب أو الجاه والنفوذ والسلطان وهو ينحاز للفقير وينتصر للمظلوم ويقف فى وجه المفترى والظالم.. والمساجين كلهم يحلفون بحياته لدرجة أن السعدنى الكبير - رحمه الله - بعد تجربته فى السجن قال.. لو أراد الله الخير لمصلحة السجون فى بر مصر لعهدوا بأمرها إلى هذا الرجل، وهو الضابط الإنسان محسن السرساوى.. وقد وقعت حادثة لا أزال أذكرها وكأنها وقعت بالأمس القريب، فقد حان موعد الزيارة وتوجهنا إلى سجن القناطر وفى المكان المخصص للزيارة اجتمعنا حول الولد الشقى كما فعل بقية الزائرين مع ذويهم من المساجين، وفجأة دخل ضابط رتبة كبيرة وقام الجميع فانتفضنا معهم واقفين ونظر الرجل محدقا فى الوجوه وأشار إلى أحد المساجين وكان شعره طويلاً بشكل لافت للنظر وقال له.. أنت مسجون سياسى.. فرفع الرجل يده بالنفي وقال.. فشر يا أفندم.. أنا حرامى!!
وهنا ضجت القاعة بالضحك.. بينما أصابنا الغم فكيف يمكن للحرامى أن يتبرأ من السياسة ويفتخر بأنه ليس سياسياً بل ولله الحمد.. حرامى.. بكينا جميعاً لهذا الوضع وتلك الواقعة فوجدنا أمامنا الضابط الجميل محسن السرساوى يهدئ نفوسنا وهو يقول بصوت هادئ ونبرات يغلفها الحنان.. يا أولاد إنتم لازم تفتخروا بأبوكم ده سجين رأى يعنى دفع الثمن حريته ووظيفته واتحرم من أسرته وأهله علشان يقول رأيه، وفى مرة أخرى كانت الزيارة من النوع السلكاوى يعنى السجين يفصله عن زواره سلك.. والحق أقول أننا لم نقم بهذه الزيارة على الإطلاق لأن مسئول السجن كان يمر ذات يوم ويتفقد الزيارة فبلغت أسماعه صوت أم ترجو ولدها السجين أن يمرر إصبعه من فتحات السلك لكى تطبع عليه قبلة ومنذ ذلك اليوم أمر الرجل بأن يتم معاملة النزلاء بشكل أكثر إنسانية خلال الزيارة السلكاوى وهكذا كان الضابط النوباتشى يخلى لنا مكتبه لكى ننفرد بزيارة الولد الشقى ولكن ذات يوم وكان مخصصاً باسم زيارة سلكاوى اتجهنا كعادتنا إلى مكتب الضابط النوباتشى.. وكان جديداً على السجن فارتسمت علامات الدهشة على وجهه وهو يسألنا التصريح فين.. فتشنا شنطة الوالدة وأخرجنا التصريح ودقق الرجل فى كل كلمة مكتوبة، وكان مكفهر الوجه وفجأة حضر العسكرى وفى يده الولد الشقى.. فنظر الضابط إلى العسكرى وصاح فيه صيحة عنترية.. إنت إزاى تجيب المسجون هنا لحد مكتبى والزيارة أساساً من وراء السلك.. نظر العسكرى فى الأرض وقد أسقط فى يده وأخذ السعدنى يجز على أسنانه ولم نتمالك أنفسنا من البكاء.. وهنا كان على الضابط الإنسان محسن السرساوى أن يظهر لينهى هذا الموقف بشكل راق.. فاصطحب السعدنى إلى خارج الغرفة وذهبنا خلفه وطالبنا بالسلام على الوالد والبقاء معه لمدة خمس دقائق فقط لا غير ثم الانصراف بعد ذلك فيما ثار الضابط إياه وهاج وهو يصرخ بالصوت الحياني.. أنا ما عنديش هنا خيار وفاقوس.. ده سجن مش لوكاندة يا حضرة الضابط من هنا ورايح الزيارة السلكاوى من وراء السلك واللى مش عاجبه يكتفى بالزيارة مرة واحدة فى الشهر. وخرج الرائد محسن السرساوى من مكتب الضابط النوباتشى وهو يقول.. ماحدش يزعل.. ده عقيد أول يوم له فى السجن النهاردة ولازم يعمل كده.. معلش امسحوها فىّ وبالطبع ارتفع مقام محسن السرساوى داخلنا جميعاً بفضل تراكم كم هائل من المواقف الشديدة النبل والتى تنبئ عن معدن إنسان يندر أن يجود الزمان بمثله خصوصاً هذا المكان وبالطبع كان لهذا المعدن الفريد أن يكون عنصر جذب للسعدنى فتوطدت العلاقة بين المسجون والسجين والشىء الأغرب أن الضابط النوباتشى صاحب الموقف البايخ والذى أصر على أن ننفذ زيارة السلك تغير من النقيض إلى النقيض، فقد تبين أنه يرتبط بقرابة للعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ وجاءت سيرة السعدنى فى الحديث بينهما.
وهنا طلب الفنان صاحب الحس المرهف عبدالحليم من قربيه أن يبعث من خلاله للسعدنى علبة سجائر كنت وزجاجة كولونيا ويا سبحان الله تحول الرجل القاسى القلب إلى ملاك منزّل من السماء.. كان إذا وقعت عيناه علينا فتح ذراعيه بالمراحب الحارة وترك لنا السعدنى ومكتبه لكى نمضى ما نشاء من الوقت.. ولكن ظل الموقف الأول هو الذى طبع فى الذاكرة وحفر أسوأ الذكريات.. على عكس ما تحمله نفس الذاكرة للرجل صاحب السلوك القويم والأداء الإنسانى الخالص لوجه الله الرجل الذى كان يصفه السعدنى بأنه (بنى آدم بحق وحقيقي) إنه الضابط الإنسان محسن السرساوى ولكن الشىء العجيب أن السعدنى لم يحفظ فى ذاكرته ولم يدع مكانا أيضا لهذه الأحداث الأليمة، بل العكس هو الصحيح فقد أصبح حريصا بعد الإفراج عنه على أن يقوم بزيارة السجن مرة واحدة فى كل شهر وفى كل مرة كان يصحب معه أحد الأصدقاء من أهل الفن مرة العم صلاح السعدنى ومرة الفرفور الجميل عبدالسلام محمد ومرة العم الرائع محمد رضا.. وكان ضباط السجن يأمرون حراس الأبواب بعدم فتح الأبواب حتى يشبعوا من جلسات السعدنى وحكاياته وقفشاته وحلو حديثه وقد أقسم اللواء حسن البندارى عماشة وهو قريب عبدالحليم حافظ بأن القعدة فى السجن أصبحت مملة ذلك لأن السجن أيام السعدني قد اختلف كثيرا بعد السجن من غير السعدنى وكان العم محسن السرساوى يتذكر الأيام والأحداث والنوادر وتكاد الدموع تخدعه.. وهو يقول.. صحيح يا عم محمود أجمل ما يمتلكه الإنسان هو حريته.. ولكن إحنا افتقدنا روح البهجة والمرح وحواديت المماليك البرية والبحرية وتاريخ مصر الذى استمعنا إليه منك وتمنيت لو أنهم فى المدارس استعانوا بك لكى تجعل من التاريخ مادة جاذبة للأولاد ويعد السعدنى عمنا محسن السرساوى بأنه سوف يقوم بزيارة السجن كلما أمكنه الوقت.
وبعد سنوات طويلة من العمل العام قرر عمنا اللواء محسن السرساوى أن يكتب ذكرياته مع سجون مصر التى خدم فيها ومنح كل جهده ووقته وأحيانا ماله من أجل أداء المهمة على الوجه الأكمل، وقد منحنى شرف كتابة هذه المذكرات واتفقنا على العنوان (يوميات ضابط فى الليمان) والتى يستعرض فيها اللواء محسن السرساوى مساعد أول الوزير لمصلحة السجون الأسبق.. شخصيات التقى بها فى غياهب السجون بعضها أضاء حياتنا الفكرية والأدبية والسياسية وما كان لها أن تدخل السجون على الإطلاق بل كان الأولى بالدولة أن تكرمها وترفعها إلى أعلى مكان والبعض الآخر كان يستحق الإعدام ألف مرة..
على هذه الصفحات سوف نلتقى بشخصيات ساهمت فى صنع أحداث جسام مثل الوزير السيد شمس بدران وشخصيات لها وزن فكرى وسياسى عبقرى كما هو حال العم الراحل مصطفى أمين وأحمد فؤاد نجم شاعر العامية الأعظم والكبير محمد حسنين هيكل والسياسى البارع فؤاد سراج الدين وسنلتقى أيضا بالجاسوسة هبة سليم ومن هم على شاكلتها.
ولكن سيبقى أهم ما فى مذكرات اللواء محسن السرساوى أنه كتب ما كتب دون أن يفرض وجهة نظر أو يدون رأيا أو ينتمى ويروج لتيار بعينه فالرجل ضابط بوليس ملتزم بل من طراز فريد أفنى سنوات العمر فى أداء مهمته خالصة للوطن كما ينبغى أن تكون وهو كمواطن مصرى كان همه وشاغله الأسمى هو الهم العام ولا شىء سواه، ولذلك فإن مذكرات اللواء السرساوى ليست من باب الاجتهاد ولا تندرج تحت بند المذكرات السياسية ولكن الرجل سوف يروى لنا الأحداث كما شهدها والحكايات كما استمع إليها والوقائع كما جرت..
لذلك فأنت لا تملك أن تختلف مع الرجل فهو يروى الحقيقة كما شهدها وشأنه هنا شأن تشيكوف الأديب العظيم الذى اتهمه الأعداء والأصدقاء بأنه يشوه صورة مواطنيه فقال.. إنما أنا شأنى كشأن كاميرا التصوير تنقل الواقع بدون رتوش أو ترويق وبلا أية زينة.. وهكذا أيضا ستكون شهادة الرجل الذى اعتبره الجميع وعن تجربة أفضل ضابط فى مصلحة السجون على الإطلاق !!