الأحد 9 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الهيبة التى بنتها مصر

رسائل القدرة والقوة من داخل افتتاح المتحف المصرى الكبير

الهيبة التى بنتها مصر

هذه مناسبة أريد أن أسَجّل فيها، كَمّ المشاعر التى عاصرتُ بها حدث افتتاح المتحف المصرى الكبير، بالتأكيد مشاعر الفخر كانت حاضرة، بالمناسبة والحدث والمشارَكة فيها، ولكن أيضًا إحساس الاعتزاز بالهوية والحضارة المصرية، كهوية فريدة وخالدة، كان طاغيًا، إضافة إلى عظمة إبداعها من آلاف السنوات، الذى فاق حتى تقنيات العصر الحديث من الذكاء الاصطناعى.



حينما حضرتُ إلى مقر المتحف المصرى الكبير، يوم الافتتاح فى الأول من نوفمبر الحالى، كنت أستشعر، ومعى كثيرٌ من الزملاء، أننا أمام حدث تاريخى استثنائى، وكأنه واحدٌ من السيمفونيات العالمية الخالدة، حدث سَيُسجله كل من عايش أحداثه من داخل المتحف فى تاريخه المهنى، فالمناسبة هنا ليست مجرد افتتاح مشروع جديد أو صرح كبير؛ وإنما هى مناسبة عمرها آلاف السنين، تتعدى دلالاتها حدود الحدث نفسه، لتَعبر بالزمان والمكان إلى عصور طويلة من الحضارة المصرية.

قبل موعد الافتتاح بنحو ست ساعات، كنتُ داخل المتحف الكبير، كانت الغاية تسجيل ما لا تراه عدسات عشرات الكاميرات، التى جاءت خصيصًا لهذا الحدث من مصر ومختلف أنحاء العالم، فليس مَن شاهَد وسمَع كمَن عايش وحضر، وقفت لرصد تحركات مَن يشارك فى هذا الحدث، كمسئولين ومنظمين وضيوف، وصولاً لكواليس وأجواء الاحتفال نفسه.

رغم زيارتى السابقة للمتحف أثناء التشغيل التجريبى؛ فإن هذه المرة بدَا بصورة مغايرة تمامًا، وكأنى أتفقد أروقته لأول مرة، كانت أجزاء هذا الصرح الكبير مهيأة للحدث التاريخى، معبرة عن قيمته ورسالته؛ فقد جذبنى كثيرًا هذا البُنيان، كيف جرى تصميمه بهذا الإبداع من روح الحضارة المصرية القديمة، ليُعبر عن خلودها، ويقدم كنوزها القائمة منذ آلاف السنين؛ للحاضر.

ربما أول ما دوّنته، هذا الكم اللافت من ممثلى وسائل الإعلام الأجنبى؛ لنقل هذا الحدث؛ فقد اصطف عشرات المراسلين لتقديم ما يحدث، والمَعنَى هنا كيف تحافظ الحضارة المصرية على قيمتها الجاذبة للرأى العام الدولى، ثم حديث رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى، وعدد من شركاء حفل افتتاح المتحف، والذى ركز على مسألة أن «المتحف يعيد صياغة الصورة الذهنية عن مصر، ويعيد بث الحضارة المصرية للحاضر، ويبعث برسالة فى نفس الوقت أن التحديث فى كل مجال».

وإعادة صياغة الصورة الذهنية عن الدولة المصرية، أحد أهم المعانى التى تستحق التوقف أمامها فى حدث افتتاح المتحف الفريد؛ ذلك أن باقى ما دوّنته من أحداث يوم الافتتاح كانت تلخصه هذه الرسالة، فبعيدًا عن مشاعر الفخر التى تحدّث بها كثيرٌ ممن قابلتهم من المشاركين فى عروض الافتتاح، إلى جانب تفاعلات ضيوف الحدث، من وفود رسمية وصلت إلى 79 وفدًا، بينهم 39 وفدًا يتقدمهم ملوك ورؤساء دول وحكومات مع كنوز المتحف، استوقفتنى هندسة تنظيم الاحتفالية، لتخرج بصورة مُعبرة عن هوية المتحف نفسه، وعن الهوية المصرية.

حينما وقفت لأشاهد الافتتاح، لم تبهرنى فقط سيمفونيات العرض، بقدر المعانى التى قدمتها، فالرسالة تتجاوز حدود حدث افتتاح متحف أو صرح حضارى، ذلك المتحف أكبر من مجرد مَبنَى، وأكثر من مشروع ثقافى وأثرى؛ وإنما رمز مهم لصورة مصر الحديثة، للدولة العصرية القائمة على أساس حضارى راسخ، ودلالة مهمة لقوة وقدرة الدولة المصرية.

الرمزية التى قدمها افتتاح المتحف، فى عرض قوة وقدرة الدولة المصرية الناعمة، القائمة على تاريخ عريق وحضارة عابرة لآلاف السنين، لا تزال تبعث برسائلها للحاضر، هذه القوة والقدرة، تمتلك من سرعة التأثير ما يفوق السلاح نفسه؛ لأنها عابرة للمكان، ونافذة للعقول والقلوب.

من هذا المنطلق، لم يكن غريبًا مَثلاً تفاعل الصحف الإسرائيلية «القلق»، مع حدث افتتاح المتحف الكبير، وكيف نظرت إليه بِعَدّهِ تعبيرًا عن «هَرَم السيسي»، والمقصود به هَرَم القوة الناعمة المصرية فى المنطقة والعالم الذى يقدمه الرئيس عبدالفتاح السيسي، ويستهدف فى نفس الوقت تكريس تأثيرها وحضارتها وتاريخها، وهى نقطة تَمَيُّز لا يملكها أحدٌ فى المنطقة.

لقد أعاد المتحف المصرى الكبير، صياغة الصورة الذهنية الصحيحة عن مصر، عبّر عن حضارتها وتراثها وحاضرها، وعن ثمار بناء الجمهورية الجديدة، التى من أساسيات أركانها الثقافة والحضارة والقوة الناعمة، عبّر عن الهيبة التى تعمل القيادة السياسية على بنائها داخليًا وإقليميًا على مدار أكثر من عقد؛ لتنسف بذلك ما دأب عليه العدو ومعه «أهل الشر»، بتصدير صورة داخلية عن مصر، تزعم أنها تعانى من هشاشة وأزمات داخلية وغيرها.

الواقع قدّمه افتتاح المتحف، فحالة الاصطفاف كانت حاضرة، والصورة الذهنية تغيرت.

تلك هى المعانى الحقيقية التى استوقفتنى فى افتتاح المتحف، وهى تتجاوز حدود الحدث بكثير؛ لتشكل رمزًا للهيبة المصرية، وهرمًا من الوعى والهوية والاصطفاف الداخلى، وانعكاسًا لسيطرة وتأثير قوة مصر الناعمة خارج حدودها.

فى مشهد يختصر آلاف السنين من العبقرية الإنسانية، افتتحت مصر المتحف المصرى الكبير، أحد أضخم وأهم المشاريع الثقافية فى العالم، وأكبر متحف على الإطلاق مُكرّس لحضارة واحدة، فهو ليس مجرد مبنى لحفظ الآثار أو قاعة عرض للقطع التاريخية؛ بل مشروع وطنى عالمى الهوية، يجسد روح مصر القديمة وقدرتها الخالدة على الإبداع والتجدد، ويعيد صياغة علاقتنا بالماضى من خلال لغة الحاضر وتكنولوجيا المستقبل.

حينما نتوقف مع رسالة المكان، الذى شُيّد على أرضه المتحف، فى موقع استراتيجى على خط واحد مع الأهرامات الثلاثة، وكأنه امتداد طبيعى للميراث الذى تركه المصرى القديم للعالم، وهذا الاختيار ليس صدفة؛ بل هو انعكاس لفلسفة المشروع نفسها، أن يكون المتحف «الهرم الرابع» الذى يربط بين أعظم ما شَيّده الإنسان فى الماضى، وأعظم ما يبنيه فى الحاضر، تصميمه المعمارى نفسه مستلهم من روح الحضارة المصرية القديمة التى نظرت إلى الكون كوحدة متكاملة.

قدمت مَشاهد افتتاح المتحف، دلالات أعمق تتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ، فمن قلب أرض قدمت للعالم أول مفاهيم الدولة والقانون والعدالة، وقفت مصر اليوم لتعلن أن الماضى لا يُحبَس فى المتاحف؛ بل يُعاد تقديمه كقوة فاعلة فى بناء المستقبل، الرسائل التى حملها الافتتاح كانت متعددة الأبعاد، فثقافيًا أكد المتحف أن الحضارة المصرية كانت ولا تزال مصدر إلهام للبشرية فى مجالات القانون والطب والهندسة والفلك والفن، وسياسيًا جاءت كلمات الرئيس السيسي لتجسد رؤية مصر لدورها فى العالم، باعتبارها قوة سلام وإنسانية، إذ شدّد على أن السلام هو الطريق الوحيد لبناء الحضارات وأن العِلم لا يزدهر إلا فى مناخ من الأمن والاستقرار، والثقافة لا تثمر إلا حين تتوافر بيئة من التعايش والتفاهم.

افتتاح المتحف المصرى الكبير ليس مجرد احتفال بإنجاز عمرانى أو أثرى؛ بل إعلان عن رؤية شاملة لمصر الحديثة التى ترى فى ماضيها مصدرًا لقوتها الناعمة، وفى تراثها أداة لبناء المستقبل.. إنه رسالة تقول إن الحضارة التى بَنَت الأهرامات لا تزال قادرة على إبهار العالم، لا بالحجر فقط؛ بل بالفكر والمعرفة والإنسان.. ومع ذلك فإن المتحف ليس نهاية الحكاية بل بدايتها الجديدة.