 
                            عادل حمودة
100 سنة معارك
عندما دافعت روزاليوسف عن شرف الصحافة المصرية
فجأة.. تعرضت الصحافة المصرية إلى حملة من النقد المتواصل كادت تجعل منها مهنة سيئة السمعة.. وتبادل المجتمع والصحافة الأدوار، فأصبح هو الذى يحاكمها، ويندد بعيوبها، ويتصدى لإصلاح شأنها.. مع أنه ما من إصلاح تم فى مصر إلا وكان للصحافة فيه دور أساسى، وفضل لا يقل عن فضل قادته.
كان ذلك فى الربع الأخير من السبعينيات.
فى حكم الرئيس الراحل أنور السادات، تغيرت القواعد والقيادات الصحفية، فهاجر عدد كبير من نجوم الصحافة إلى لندن وباريس، وراحوا ينتقدون الرئيس السادات، وترك عدد كبير آخر من نجومها مساحتهم المحدودة فى صحفهم القومية، وراحوا يفتشون عن مساحة أكبر فى الصحف المعارضة.. وفى هذه المساحة الجديدة.. الرحبة كان الانتقاد أشد وأقوى للرئيس السادات..
واغتاظ الرئيس السادات..
وراح من جانبه يتهم كل من يتعرض له بتهمة تشويه سمعة مصر.. وراح أيضًا يصف أولئك «النقاد» بأوصاف من عينة «الرذالات» و«السخافات» و«الأفنديات».
ثم كانت القوانين التى وصفت - فيما بعد - بأنها قوانين سيئة السمعة، ثم كانت الحملات الشرسة من جانب فريق الصحافيين الحكومى ضد كل الفرق الصحفية الأخرى.
ثم كانت الضربة الكبرى.. القاضية.. التى تمثلت فى تقييد حرية الصحافة تحت عنوان برّاق.. لامع.. جميل.. هو «قانون السلطة الرابعة».
وفى خلال هذه المراحل.. لم ينبه أحد للدفاع عن الصحافة.. ولا لرد التهمة عنها.. ولا لتخليصها من القيد الذى على وشك أن تكبل به..
إلا روزاليوسف!
حتى نجوم الصحافة المعاصرين سكتوا طوال هذه المحاكمة.. فلم يتقدموا بدفاع.. أو بشهادة نفى.. أو حتى بتلغراف عزاء.. وتركوا المحكمة تستمر غيابيًا.. كأن المتهمين ليسوا هم، وكأن الواقف فى قفص الاتهام مهنة أخرى غير مهنتهم.. وكان أكثر من أصابته الدهشة لهذا الموقف جيل الصحفيين الجديد، الذى يعد نفسه لمواصلة رسالة هؤلاء النجوم.. كان سكوتهم يزعجه، ويكاد يهز ثقته فى الرسالة التى أعد نفسه لها.
ولكن.. اثنين من هذا الجيل لم يكتفيا بالانزعاج.. أو لم يتحملاه.. وكنت أنا واحدًا منهما.. وكان الثانى: زميلتى فى روزاليوسف «فايزة سعد»..
ذهبنا نطرق بإلحاح أبواب النجوم الصائمة عن الكلام.. ورحنا نناشدها أن تفطر وتتكلم.
ونجحت المحاولة.. وتكلم الصائمون.. فكان ما قالوه - كما قال صلاح حافظ - أهم حملة صحفية منذ بدأت محاكمة الصحافة فى مصر.
ويضيف صلاح حافظ: وبلغ من نجاح الحملة أن مادتها كانت أول ملف يوضع أمام اللجان الرسمية المكلفة بتقنين أوضاع الصحف.. «أى اللجنة التمهيدية لصياغة قانون السلطة الرابعة».. وأنها عمليًا غيرت مناخ المحاكمة، وحولت معظم وكلاء النيابة فيها إلى محامين.. ولكن الأهم من هذا أنها كانت أول شهادة نفى جماعية يتقدم بها نجوم الصحافة المصرية المعاصرة، ويخرجون بها عن صمتهم المريب.. وهى شهادة أصبحت - منذ أدلوا بها - جزءًا من تاريخ الصحافة المصرية الحديثة.. لا يمكن أن يكتمل بدونها».
وكان يجب أن تسجلها وتنشرها روزاليوسف بالذات.. لأن كل ما يمس تاريخ الصحافة المصرية وحريتها تشعر «روزاليوسف» بمسئولية خاصة عن حمايته من الضياع.. فنصف هذا التاريخ على الأقل حدث على صفحاتها. وصناعه ينتمون إليها، ومعظم شهود النفى - إن لم يكونوا جميعًا - من أبناء مدرستها».
وهذا صحيح تمامًا..
فرغم الضغوط «الرسمية» التى تجعل من الصعب تبرئة الصحافة، فقد تمردت روزاليوسف على هذه الضغوط وأعلنت أنها ستفتح صدرها وصفحاتها لكل من يدافع عنها.. مهما كان الثمن.. ومهما كان الغضب.
وفوجئ الناس بمصطفى أمين يخرج عليهم فى روزاليوسف فيقول: «المجلس الأعلى للصحافة هو مجلس آباء لتلاميذ فى مدرسة ابتدائية.. من مصلحة الحكومة إطلاق حرية الصحافة ولو كانت الصحافة حرة ما وقعت هزيمة 67».. وأن الحكومة تقصد كلمة «سلاطة» رابعة بعبارة «السلطة الرابعة».
وأضاف مصطفى أمين: «تسمية الصحافة سلطة رابعة مثل أن تضع لافتة مكتوب عليها «سرايا قصر عابدين العامرة» على سجن ليمان طرة مع بقاء المسجونين على حالهم، كما هم، والزنازين كما هى، والبرش كما هو.
المسألة ليست وضع لافتة على الصحافة.. المسألة هى إعطاء حرية الصحافة وهذا يعنى فتح الزنازين.. إذا لم تفتح الزنازين فأى اسم يطلق عليها لا يغير من طبيعتها فى شىء.
وفوجئ الناس بإحسان عبدالقدوس يقول على صفحات روزاليوسف أيضًا.. وبالمانشيت الكبير على الغلاف: «الحكومة هى رئيس التحرير الوحيد فى صحافتنا».. واستفزت هذه العبارة الرئيس السادات.. واستفزت رجاله فى بلاط صاحبة الجلالة فخرج موسى صبرى يهاجم إحسان عبدالقدوس.. ولحق به صبرى أبو المجد وغيرهما.
وتوقع الناس أن تضع روزاليوسف لسانها فى فمها وتخرس.. لكن.. هذا لم يحدث.. بالعكس.. اعتبر رئيس تحريرها فى ذلك الوقت «مرسى الشافعى» المسألة بالنسبة له مسألة حياة أو موت.. فسمح بآراء جريئة أخرى لصلاح حافظ.. وحافظ محمود، وعلى حمدى الجمال.. وعبدالرحمن الشرقاوى، وكامل زهيرى، ومحمود المراغى، ولطفى الخولى، وعبدالله عبدالبارى، والدكتور جمال العطيفى، وغيرهم من نجوم الصحافة.
وقبل أن تنتهى الحملة.. انتقل رئيس التحرير مرسى الشافعى إلى جوار ربه.. وكان موقفه من هذه الحملة هو أفضل ما كتب فى رثائه.
ومرة أخرى تصور الناس أن الحملة ستتوقف بتوقف الحياة فى قلب وجسد رئيس التحرير، ومرة أخرى خاب ظنهم.. واستمرت الحملة، وكان ذلك طبيعيًا جدًا، خاصة للذين يعرفون أن روزاليوسف، تعلم أبناءها- أول ما تعلمهم- أن شرف الصحافة هو شرفهم وأن كل إهانة توجه إليهم إنما هى إهانة شخصية لهم.. وخاصة الذين يعرفون أن روزاليوسف صحيفة ولدت لتقاتل.. لا لتستسلم.
لقد بدأت هذه الحملة يوم الاثنين 9 يوليو 1979.. واستمرت 12 أسبوعًا متتالية.. ونقلت موضوعاتها الصحف العربية والأجنبية.. ووصفت بأنها «أشجع حملة صحفية لرد كرامة الصحافة المصرية»..
ثم.. كان الهدف المهم الذى حققته، وهو تراجع الحكومة عن مناقشة أمور الصحافة بعيدة عن الصحفيين.. وشكلت لجنة «تقنين الصحافة» من الصحفيين.. وكانت موضوعات الحملة أول وثائق توضع أمام أعضائها.
ثم.. كان الهدف الأهم.. رد كرامة الصحافة المصرية.. ورد اعتبارها.. والتعامل معها كسيد لا كخادم.. كسلطة فعلية لا كسلطة اسمية.. كتاريخ محترم لا كمهنة سيئة السمعة.
 
 
 
                        

 
                        







