هاني عبد الله
سنة أولى سياسة.. وبضع سنين أُخرى!
كانت مَجلة «روزاليوسف» فى بداية صدورها (26 أكتوبر 1925م) مَجلة فنية، تهتم بالفن الرفيع والأدب العالى.. وكان من الطبيعى أنْ تُصادف المَجلة فى ظل «نخبوية» المادة التحريرية نوعًا من الهبوط المضطرد فى التوزيع.. للدرجة التى نشب على خلفيتها العديدُ من الخلافات بين أفراد أسرة التحرير؛ إذ تمَسَّك المسرحى الكبير «زكى طليمات» بأنْ تحتفظ المَجلة بشكلها النخبوى!.. وفى المقابل، لم يَكُف الأستاذ «محمد التابعى» عن السخرية من هذا التمسُّك، مُذكرًا بأرقام التوزيع المنخفضة.. ولم يحسم هذا الجدل الساخن سوى «بريد القراء»؛ إذ تلقت المَجلة - بعد أشهُر قليلة من صدورها- العديدَ من الرسائل التى تُطالب «روزاليوسف» بدخول الكواليس والتنقيب عن الأسرار الشخصية والفضائح الفنية!

كان لا بُدّ من عمل شىء!.. كان لا بُدّ من تغيير يُنشّط التوزيع ويُلبّى مَطالب القراء من دون إسفاف أو ابتذال.. ومن ثَمَّ، بدأت الأبواب الخفيفة تظهر على صفحات المجلة، وفى مُقدمتها باب كان يكتبه الأستاذ محمد التابعى، الذى تولى رئاسة تحرير المَجلة ابتداءً من الأسبوع الثامن عشر (أيْ فى منتصف الشهر الخامس من صدورها)، تحت عنوان: «طورلى».
يقول الكاتب الكبير «مصطفى أمين» فى كتابه «مسائل شخصية»: «كان الأستاذ زكى طليمات متزوجًا من السيدة روزاليوسف فى تلك الأيام، وكان فى بِعثة فى باريس، فأرسل إليها خطابًا عنيفًا يهاجمها لانحطاط مستوى المجلة! ولكن زوجته لم تهتم بهذه الاعتراضات، وفضَّلت أنْ تبقى المَجلة حيّة بالتابعى على أنْ تموت وفيها جميع كبار الكُتّاب والشعراء ومقالات عن بيتهوفن وشكسبير وموزار!!».. ثُمَّ فاجأت السيدة «فاطمة اليوسف» أسرة التحرير بفكرة غريبة: لماذا لا نجعلها مَجلة سياسية؟!.. وعن تلك الروح المُقاتلة، يقول الأستاذ مصطفى أمين: «كان من أبرز ما فى روزاليوسف طموحها، وأنها لا تؤمن بالممكن وإنما تحلم بالمستحيل، ولم يكن يكفيها أنَّ مجلتها أصبحت فى مقدمة المجلات الفنية فى مصر؛ بل أرادت أنْ تكون أولى المجلات السياسية فيها»!
سنة أولى سياسة!
تقول السيدة فاطمة اليوسف فى كتابها «ذكريات»: «كانت الفترة التى قرّرت فيها تحول روزاليوسف إلى مَجلة سياسية من أيام مصر العصيبة».
وفى الواقع، كانت هذه الفترة عصيبة بالفعل؛ إذ قبل صدور «روزاليوسف» بنحو ثلاث سنوات، كانت الحكومة البريطانية تراوغ بكل قوة حول الاستقلال، وتسعَى لمنح المصريين استقلالاً شكليًّا لا فعليًّا.. ففى 28 فبراير 1922م، أعلنت إنجلترا سَحب الأحكام العرفية، وأنَّ مصر أصبحت دولة مُستقلة ذات سيادة (وهو ما عُرف تاريخيًّا بتصريح 28 فبراير).. لكنها بعد أسبوعين فقط (فى 15 مارس 1922م) أخطرت دول العالم أنَّ لها علاقات خاصة بمصر؛ وأنَّ هذه العلاقات لن تكون موضع مناقشة، وأنَّها تعتبر كل تدَخُّل من دولة أخرى عملاً عدائيًّا مُوجَّهًا لها!.. وعلى خلفية هذه الوقائع، أصبح عبدالخالق ثروت باشا أول رئيس وزارة لمصر بعد تصريح 28 فبراير، وأصبح لمصر وزارة خارجية خاصة بها، وتقرر أنْ يكون نظام الحكم مَلكيًّا دستوريًّا. وأُعلن دستور جديد للبلاد فى 20 أبريل 1923م (دستور 1923م).
بَيْدَ أنَّ الحالة السياسية لم تستقر؛ نظرًا لاستياء المصريين من مراوغات الإنجليز. واستمرت عمليات الاغتيال السياسى، فى مُقابل استمرار الأحكام العرفية وعدم سَحبها وَفقًا لتصريح 28 فبراير. كما ظلت مسألة بقاء الموظفين الأجانب فى الحكومة مُعَلقة. واستمرت هذه الاضطرابات طوال فترة وزارة ثروت، قبل أن تخلفها وزارة يحيى باشا، التى نجحت فى مَهمَّتِها وأجرت الانتخابات البرلمانية. ومع انعقاد أول برلمان مصرى فى ربيع 1924م، وزعامة «سعد زغلول» للأغلبية، لم يتراجع «سعد» عن الانتقاد الحاد لتصريح 28 فبراير، وازدادت حدة المواجهات مع تولى سعد نفسه الحكم وإجراء المفاوضات بينه وبين وزارة مستر رَمسى ماكدونالد (Ramsay Mac Donald) فى لندن خلال الفترة من 25 سبتمبر إلى 3 أكتوبر 1924م.

وفى أعقاب اغتيال «السردار» أو «السير لى ستاك» (Sir Lee Stack) فى 19 نوفمبر 1924م، انتهز الإنجليز الفرصة لإقصاء الحكومة السعدية، وحلَّت محلها حكومة «أحمد زيور باشا». وأعلن «زيور باشا» حلَّ البرلمان!.. تقول السيدة فاطمة اليوسف فى كتابها «ذكريات»: جاء «زيور باشا» بإسماعيل صدقى وزيرًا للداخلية ليُجرى انتخابات جديدة. وعندما اجتمع البرلمان الجديد، تبيّن أنَّ الأغلبية فيه لا تزال وفدية تؤيد سعد زغلول، فأعلن حل البرلمان الجديد بعد انعقاده بساعات.. وعاشت مصر بلا دستور أو برلمان أو حريات!
وقتئذٍ.. تحايل الوفديون بطرُقٍ شتّى للحصول على رُخَص جديدة يصدرون بها صُحُفًا جديدة تستأنف المعركة.. ومن الحيل التى لجأ إليها الوفديون أنْ جعلوا السيدة «منيرة ثابت» تتقدم بترخيص جريدة عربية باسم «الأمل» وأخرى فرنسية باسم «لاسبوار».. ولم يدر بخلد الوزارة أنَّ السيدة منيرة ثابت ستعطى الرخصتين للوفد.. فتصدر الجريدة الفرنسية بإشراف «جورج دومانى» سكرتير سعد زغلول، والجريدة العربية بإشراف «عبدالقادر حمزة».. وعندما طلبت السيدة فاطمة اليوسف تحويل «روزاليوسف» إلى مَجلة سياسية، ظنت وزارة الداخلية أنَّ الوفد يستتر خلفها، فرفضت الطلب!.. ذهبت السيدة فاطمة اليوسف إلى وكيل الوزارة (حسن رفعت) فرفض هو الآخر الطلب!.. ومن ثَمَّ، توجهت بصورة مباشرة لرئيس الوزراء (أحمد زيور باشا). فاستدعى زيور باشا «حسن رفعت» ليقول له: «أعطوها الترخيص.. خلوها تاكل عيش»!.. وهكذا بدأت «روزاليوسف» سنة أولى سياسة، بعد خمسة أشهُر من صدورها كمجلة فنية (وتحديدًا فى مارس 1926م).
قضية اغتيال السردار!
تزامَن، كذلك، تحوُّل «روزاليوسف» إلى السياسة مع بداية محاكمة القياديين الوفديين: أحمد ماهر والنقراشى فى قضية اغتيال السردار وعدد آخر من الإنجليز.. ومن ثَمَّ، ارتبط أول عمل صحفى [سياسى] مارسته السيدة فاطمة اليوسف بنفسها بوقائع تلك المحاكمة.. ولم يكن الإنجليز- وَفقًا للسيدة فاطمة اليوسف- يريدون من هذه المحاكمة رقبتىّ ماهر والنقراشى فحسب؛ بل دمغ الوفد كله بالتآمر والجريمة.. وبَعد أن حضرت سبع جلسات متعاقبة من جلسات المحاكمة، كتبت فى 21 أغسطس 1926م مقالاً [لاذعًا، وشبهَ ساخرٍ] من مَشاهد المحاكمة، بعنوان: «فى محكمة الجنايات. ملاحظات ممثلة وصحفية»؛ إذ قارنت بين أداء القاضى «كرشو» (أحد قضاة الإنجليز) وأداء الممثل بشارة يواكيم أفندى (بشارة واكيم) الذى أدى دور رئيس قضاة المحكمة فى رواية «جاكلين»!
كتبت السيدة فاطمة اليوسف: لا أستطيع إلا أنْ أبتسم! فبينما بشارة يواكيم يرى من واجب القاضى أنْ يجلس على كرسى القضاء منتفخ الأوداج «مكشر» يتكلم بعظمة و«ثقل» ويكثر من «الزغر» نحو المتهم.. إذ بى أرى «مستر كرشو» جالسًا فى هدوء وطمأنينة. ابتساماته كثر من زغراته. يلعب بقلمه تارة ويداعب زر طربوشه تارة أخرى. وقد أمسك بيده منديلاً حريريًّا زاهى الألوان لا تخجل أى غانية حسناء من حمله بيدها يمسح به وجهه أو يُخفى وراءه فمَه وهو يتثاءب!

سعد سعد يحيا سعد!
بَعد وقائع المحاكمة، والحكم بالبراءة على ماهر والنقراشى، اقتربت السيدة فاطمة اليوسف من العديد من القيادات الوفدية.. وتدريجيًّا، أخذ ميل المَجلة إلى زعيم الأمة «سعد زغلول» يظهر.. واشتدت هجمتها على الإنجليز وأصدقائهم.. وبدأ «سعد زغلول» يسأل عن المَجلة ويهتم بها.. وبدأ أعضاء الوفد الكبار يقبلون على قراءتها.. ويترقبون صدورها.. لكنهم كانوا إذا دخلوا بيوتهم أخفوها فى جيوبهم، حتى لا يراها أهل بيوتهم؛ إذ كان غريبًا أنْ تحمل مَجلة سياسية مرموقة اسم سيدة.. وفنانة أيضًا!.. وارتباطًا بهذا الموقف، تقول السيدة فاطمة اليوسف: بمناسبة الحديث عن «سعد زغلول» ورجال الوفد.. أذكر أنَّ السيدة أم المصريين (صفية زغلول) كان لها مِنّى موقفٌ آخر. فحين كانت المَجلة فنية، أرسلت خطابًا إلى كلٍّ من: أم المصريين وهدى شعراوى لتأييد المجلة. ولم ترد «أم المصريين». وحزَّ هذا الإهمال فى نفسى. فلما أصبحت المَجلة سياسية، كانت «أم المصريين» تنتهز فرصة بعض قضاياى السياسية فترسل مُشجعة أو مهنئة.. لكننى التزمت الصمت من ناحيتى أيضًا. فلم أذهب إليها أو أقابلها قَط!.. وعلى العكس من ذلك، أسرعت هدى شعراوى بالرّد. وكانت لا تكف عن تشجيعى وتأييدى. وتوثقت بيننا صلات التقدير. وفى إحدى المناسبات السياسية اشتركنا فى قيادة مظاهرة عنيفة طافت شوارع القاهرة.. كانت هدى شعراوى تتقدمها متعبة، مُجهدة، هاتفة.
استقرت أوضاع المَجلة نسبيًّا فى هذه الفترة.. وثبتت أقدامها فى سوق السياسة.. وعلى خلفية هذا النجاح النوعى، قررت السيدة فاطمة اليوسف أنْ تعطى نفسَها إجازة. وسافرت إلى «باريس».. وفى صباح حزين من أيام أغسطس 1927م، قرأت نبأ وفاة «سعد زغلول» (فى 23 أغسطس 1927م) بصحيفة «بارى سوار».. فقررت إصدار المَجلة متشحة بالسواد، تحمل على صدرها صورة مهيبة لزعيم الأمة.. وكانت هذه هى المرّة الأولى التى تظهر فيها صورة رجل سياسى على غلاف المجلة.
تقول السيدة فاطمة اليوسف: أعقبت وفاة سعد فترة من الاضطرابات والحيرة، فالفراغ الذى تركه سعد كبير.. والموقف السياسى دقيق جدًا.. كان هناك برلمان يرأس سعد مجلس النواب فيه. وكانت الوزارة ائتلافية يرأسها ثروت. وكان ثروت منهكًا فى مفاوضة الإنجليز بشأن القضية الوطنية. وبات متوقعًا أنْ ينتهز الإنجليز والسراى فرصة وفاة سعد للعصف بالوفد مرّة أخرى. وبدت طلائع هذه المحاولة على صفحات الجرائد المعادية للوفد، التى أخذت تخوض فى الحديث عمّن سيخلف سعدًا فى رئاسة الوفد، مُحاولة أنْ تُوقع الشقاقَ بين أعضاء الوفد الكبار!
وفى مقابل محاولة الوقيعة تلك، هاجمت روزاليوسف (فى عددها الصادر 22 سبتمبر 1927م) الصحف المعادية للوفد (ولا سيما صحف حزب الاتحاد) التى بدأت تُرشح المرحوم فتح الله بركات لرئاسة الوفد وتفضله على «مصطفى النحاس»؛ إذ كانت تقصد صحف حزب الاتحاد بهذه الترشيحات إيقاع الفُرقة بين أعضاء الوفد.. وكان الخلاف على الاختيار موجودًا بالفعل لكنه كان مستورًا، ولم يكن من المصلحة أنْ يتسع، وكان أغلب الأعضاء يميلون إلى اختيار النحاس؛ لأنه أقرب إليهم من فتح الله بركات الذى كانوا يخافون من شخصيته الطاغية.. وبَعد اختيار النحاس رئيسًا لحزب الوفد، انغمست «روزاليوسف» فى السياسة إلى قمّة رأسها. وأصبح لها دَورٌ إيجابى فى كل مشكلة من مشاكل الساعة.. وبدأ طابع المَجلة يتطور بالكامل.. ونشرت المَجلة أول رسم كاريكاتيرى لمصطفى النحاس، رسمه الرسام «حسين فوزى» (المخرج السينمائى فيما بعد).
مصادرة روزاليوسف!
ظلَّت العاطفة القومية حية نامية بعد وفاة «سعد زغلول»؛ إذ رفض رئيس الوفد الجديد (مصطفى النحاس باشا) الحلول الإنجليزية التى لا تعترف بحقوق مصر فى السودان. وضاقت الحكومة البريطانية ذرعًا بالحكومة المصرية الجديدة (إذ كان النحاس قد تولى الوزارة الجديدة منذ مارس 1928م)، وأعلنت أنها لن تعترف بغير تصريح 28 فبراير. فأقال الملك فؤاد حكومة الوفد بعد أشهُر قليلة، وحلَّ محلها وزارة «محمد محمود باشا». ولم تلبث وزارة محمد محمود باشا (التى احتفظ فيها رئيس الوزراء بحقيبة الداخلية لنفسه) أنْ عطَّلَت العمل بالدستور والحياة النيابية لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد!
إزاء هذا الموقف، اتخذت المَجلة- وَفقًا للسيدة فاطمة اليوسف- خطة للدفاع عن الدستور والهجوم العنيف على وزارة محمد محمود باشا. وصدر العدد (رقم 134) من روزاليوسف متضمنًا حملة على حق الملك فى إقالة الوزارات، ورسم كاريكاتيرى يُصوِّر «محمد محمود باشا» يدوس على الدستور وهو صاعد إلى مقعد الوزارة!.. لكن.. بعد طباعة كل نسخ المَجلة، حوصرت المَجلة بقوات البوليس لمصادرة العدد (وكانت هذه هى تجربة المصادرة الأولى التى شهدتها المَجلة).
وكان هذا هو السبب الظاهر لعملية المُصادَرة.. غير أنَّ الكاتب الصحفى الكبير «رشاد كامل» (رئيس تحرير مَجلة صباح الخير الأسبق)، يكشف من واقع «الوثائق البريطانية» سببًا آخر لعملية المصادرة؛ إذ يقول كامل فى دراسته التى قدَّم بها مجلدات مَجلة «الصرخة» (الصادرة عن سلسلة تراث روزاليوسف): بعد سنوات طويلة من تلك المصادرة، كشفت الوثائق السرية البريطانية عن تقرير للمندوب السامى البريطانى عن الصحافة المصرية، جاء فيه:

«قام البوليس بِناءً على أوامر رئيس الوزراء ووزير الداخلية «محمد محمود باشا» بمصادرة العدد الأخير من مَجلة روزاليوسف. وهى مَجلة أسبوعية هزلية (كاريكاتيرية)، والسبب الرئيس للمصادرة، هو مقال تضمنته المَجلة يروى قصة هجوم الأمير سيف الدين على صهر الأمير فؤاد عام 1898م. وكانت روزاليوسف تُحيى بهذا ذكريات قديمة حاول جلالة الملك مرارًا أن ينساها وينساها الناس من قبله»!
وكان لمصادرة روزاليوسف دوىٌ واسعٌ؛ إذ لم يسكت أغلب الصحف والمَجلات المصادَرة على تلك المصادَرة.. فكتبت صحيفة الأهرام (أول يوليو 1928م): «كان لحادث مصادرة روزاليوسف وقع سيئ فى نفوس النواب والجمهور، وخشوا أن يكون مقدمة للاعتداء على حرية الصحافة المقدسة».. وهاجمت «كوكب الشرق» حكومة محمد محمود باشا فى مقالين: الأول تحت عنوان: «جبن الوزارة وضعفها. مخالفتها لأبسط مبادئ الحرية وأحكام الدستور»، والثانى تحت عنوان: «الحرية فى عهدهم: مصادَرة أعداد مَجلة روزاليوسف».. أمّا صحيفة «البلاغ» فتمكنت من الحصول على نسخة من العدد المصادَر ونشرت معظم وأهم ما تضمنه تحت عنوان: «مصادرة روزاليوسف. ماذا فى العدد المصادر؟!.. صوره ومواويله ومقالاته».. كما تقدّم النائب الوفدى «صبرى أبو علم» باستجواب حول الواقعة لرئيس الوزراء ووزير الداخلية (محمد محمود باشا).
بدائل روزاليوسف!
على الرُّغم من تلك المصادرة؛ فقد تابعت المَجلة حملتها العنيفة للدفاع عن «دستور 1923م» والهجوم على وزارة محمد محمود باشا.. وجرَّاءَ هذا الموقف، صادفت المَجلة رواجًا جماهيريًّا واسعًا. فقابلت الحكومة هذا الإصرار بالعنف المفرط؛ إذ صادرت المَجلة وعطَّلت صدورها مرات عديدة.. وكانت الحكومة لا تُصادر المَجلة إلا بعد طباعتها كاملة، حتى تكون خسارتها المالية كبيرة!
وحدث فى تلك الفترة أنْ أرسل «محمد محمود باشا» (بوصفه وزيرًا للداخلية أيضًا) إنذارًا للمَجلة فى 18 أغسطس 1928م. وهو إنذار نشرته روزاليوسف فى عددها (رقم 141)، الصادر فى 28 أغسطس من العام ذاته. وعقبت عليه، تحت عنوان: «سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير»!.. ولم يمضِ أسبوعان على استلام إنذار الحكومة للمَجلة إلا وصادرت العدد (رقم 144)، بتاريخ 15 سبتمبر 1928م. وبلغ عدد النسخ المصادَرة 28 ألف نسخة، وتعطيلها لمدة أربعة أشهُر!.. وكان سبب المصادرة كاريكاتير يصور المندوب السامى البريطانى «لورد لويد» ممسكًا بأذن محمد محمود، وبينهما الحوار التالى:
(اللورد لويد): قل لى أعمل فيك إيه؟.. سمَّعونى كلام فارغ كتير علشان خاطرك!!
(محمد محمود باشا): وأهون عليك تعمل فيّ حاجة.

ووَفقًا لما سرده الكاتب الصحفى «رشاد كامل»: علم التابعى من مصادره أنَّ الحكومة كانت قد انتهت إلى قرار التعطيل يوم الثلاثاء، لكنها تعمدت عدم تبليغ القرار إلاّ يوم السبت (أى بعد إتمام عملية الطبع)؛ لتكون الخسارة خسارتين!.. وتحكى السيدة فاطمة اليوسف فى كتاب «ذكريات»، عن فترة المصادَرات تلك: أصدرت مَجلة «الرقيب» التى كان يملكها المرحوم جورج طنوس. وشمَّ الناس بين صفحاتها رائحة «روزاليوسف» فأقبلوا عليها. وعُطِّلت المَجلة بعد أربعة أشهُر.. فأصدرنا من «روزاليوسف» عددين، ثُمَّ صدر قرار بتعطيل المَجلة نهائيًّا.. فأصدرت مَجلة «صدى الحق» فصودر عددُها الأول!.. ثُم جاء دَور مَجلة «الشرق الأدنى» (صدر العدد الأول منها منتصف مارس 1929م)، فلم تصدر أكثر من ثلاثة أشهُر (وصودرت فى 20 يوليو 1929م).. ثُم مَجلة «مصر الحرة» التى لحقت بسابقاتها.. وكانت كل مَجلة تصدر يكتب على صدرها: تشترك فى التحرير السيدة روزاليوسف.. وهكذا اضطررنا إلى الصدور بأربعة أسماء مختلفة فى أقل من عام!
عرض لشراء الذمة!
فى غمرة هذا الصراع، أرادت وزارة محمد محمود باشا أنْ تُجرِّب سلاحًا آخر مع «روزاليوسف» يستهدف شراءَ ذمتها الصحفية!.. تقول السيدة فاطمة اليوسف: زارنى يومًا موظف كبير فى الداخلية يعرض علىَّ أموال الحكومة نظير تخفيف الحملة على محمد محمود وحكمه المُطلق.. لكننى رفضت.. ثُمَّ تبين أنَّ الموظف الكبير ظل يقبض مَبلغًا شهريًّا كبيرًا بدعوَى أنَّه يوصله إلينا.. وكان محمد محمود يعجب حين يعرف أنَّ النقود تُدفَع، فى حين أنَّ المَجلة ماضية فى موقفها المناهض لحكومته، حتى اكتشف أخيرًا أنَّ النقود تذهب إلى جيب الموظف الكبير.. فطرده شر طردة!.. وما حدث مع السيدة فاطمة اليوسف تكرر أيضَا مع «الأستاذ محمد التابعى»؛ إذ وَفقًا للكاتب الصحفى «رشاد كامل»: كان «التابعى» فى زيارة للإسكندرية، يمضى عطلة نهاية الأسبوع؛ حيث أقام فى فندق «سان استيفانو». وتشاء الصدفة أن يكون «محمد محمود باشا» فى الفندق ذاته. وذات مساء، قابل «التابعى» فى الطريق لغرفته صديقًا لوالده (إبراهيم الطاهرى بك، عضو حزب الأحرار الدستوريين)، فأخذه من ذراعه إلى باب الجناح الخاص بمحمد محمود باشا، ودفع التابعى أمامه وهو يقول: «أنا جبت لدولتك محمد التابعى»!
فقال له رئيس الوزراء: «باين عليك ذكى ونبيه، وإزاى بأه واحد نبيه زيك يؤيد النحاس باشا»؟!.. يقول التابعى: سكت ولم أجب، وعندما وقفت مستأذنًا فى الانصراف، قال لى: «أنا تحت أمرك فى أى حاجة تطلبها»!.. وكان المعنى واضحًا. لقد كان مُستعدًا أنْ يعطينى من المصاريف السرية المَبلغ الذى أطلبه!.. فعدت إلى القاهرة وطلبت من صاروخان أنْ يرسم غلافًا للمَجلة فيه ساق آخرها حذاء ضخم يركل «محمد محمود باشا»، وتحته عبارة: هذا ما تريده مصر!
كما جربت حكومة محمد محمود باشا (ومؤيدوها) سلاح «الحرب النفسية» على كل من: مَجلة «روزاليوسف» و«حزب الوفد» معًا؛ للوقيعة بين الوفد والمجلة؛ إذ أطلقت جريدة السياسة (الناطقة بلسان حزب الأحرار الدستوريين) على الوفد اسم «حزب روزاليوسف!».. بَيْدَ أنَّ مصطفى النحاس لم يبتلع هذا الطُّعم، ولم يجد غضاضة فى هذه التسمية؛ بل وقف مرّة- وَفقًا للسيدة فاطمة اليوسف- يخطب فى حشد من أنصاره، وقال إنَّه:
«يفخر بأنْ يكون الوفد حزب روزاليوسف، هذه المَجلة المجاهدة الشجاعة، التى لا تُبالى بالاضطهاد». وفى الواقع، كانت وزارة «محمد محمود باشا» وزارة مُعادية للدستور والحريات (ولا سيما حرية الصحافة) بصورة كبيرة؛ إذ يصفها المؤرخ الكبير «عبدالرحمن الرافعى» بأنها (أىْ الوزارة): غير ممثلة للأمة، ولا هى وليدة إرادتها، فعطلت الدستور ولجأت إلى سياسة الاضطهاد واليد الحديدية، والاعتداء على المعارضين بالضرب والحبس والإيذاء، ثُمَّ الإسراف فى اضطهاد الصحافة. وفى هذا السياق؛ كان أنْ أعادت العمل بقانون المطبوعات القديم (الصادر عام 1881م)، الذى يُجيز تعطيل الصحف وإلغاءها إداريًّا. وبهذه الوسيلة ألغت رخص نحو مائة صحيفة!

“صرخة” روزاليوسف!
شهدت أحداث النصف الأخير من عام 1929م، نهاية وزارة «محمد محمود باشا» (فى بداية أكتوبر 1929م). كما شهدت نهاية صديقه المندوب السامى «لورد لويد»؛ إذ استُدعى من مصر فعلاً قبل استقالة وزارة صديقه، وتولى بَعده السير بيرسى لورين (Percy Loraine) منصب المندوب السامى البريطانى.. ثُمَّ ألَّفَ الوفد (برئاسة مصطفى النحاس باشا) الوزارة فى يناير 1930م.. وأصر مصطفى النحاس مُجددًا على مَطالب وزارته السابقة أمام الإنجليز (ولا سيما مسألة السودان)، فانقطع بذلك حبل المفاوضات، فاستقالت وزارة النحاس بَعد أقل من ستة أشهُر من تأليفها!
وجاءت وزارة «إسماعيل صدقى باشا». وهى الوزارة التى حلت- فيما بَعد- البرلمان، وألغت دستور 1923م (أىْ لم تكتفِ بتعطيله فقط كما فعلت وزارة محمد محمود)، ووضعت دستورًا جديدًا للبلاد (دستور 1930م). وهو دستور أعطى المَلك وحده حق اقتراح القوانين المالية. فاحتج الوفد على هذه السياسات، فرَد صدقى على هذا الاحتجاج بتقييد حرية الاجتماعات وتعطيل صحف الوفد!
عن وقائع تلك الفترة، تقول السيدة فاطمة اليوسف: قضى الوفد فى المعارضة ما يزيد على السبع سنوات، لم يجلس خلالها على مقاعد الحكم إلا مرّة واحدة فى سنة 1930م. ولم يطل جلوسُه عليها أكثرَ من ستة شهور تقريبًا، كانت هدنة بين انقلابين شهيرين (أىْ: انقلاب محمد محمود سنة 1928م، وانقلاب صدقى سنة 1930م).. وقضت «روزاليوسف» هذه المُدة فى صفوف المعارضة التى لا تلين.. متحملة كل مشقات الجهاد، والإصرار، خلال هذين الانقلابين.
.. وكان الشعب المصرى قد أدرك [بحساسيته] أنَّ وزارة صدقى الجديدة تُبيت النية لدستور 1923م، فانفجرت المظاهرات فى كل مكان. وخرج الطلاب والعمال يهتفون ضد الوزارة الجديدة.. وقابل صدقى هذه المقاومة بالعنف الشديد!.. وفى أثناء تلك المواجهة العنيفة، صدر العدد (رقم 184) من روزاليوسف وعلى غلافه صورة كبيرة بعنوان «حكم الإرهاب» تصوّر مصر بلدًا مُحترقًا يشيع فيه الخراب ويدوس عليه إسماعيل صدقى، وقد حمل مسدسًا فى يده، يتصاعد من فوهته الدخان.. وكتب تحتها: «إسماعيل صدقى يحكم البلاد بالعناصر الرشيدة: الحديد والنار»!
تقول السيدة فاطمة اليوسف فى كتابها «ذكريات»: هذا العدد كان يجب أن يصدر فى 5 أغسطس 1930م. وقد فرغنا من طباعته وسافرت إلى الإسكندرية وسافر التابعى إلى رأس البر لقضاء عطلة نهاية الأسبوع. وفى الإسكندرية، جاءنى النبأ: إسماعيل صدقى صادر العدد، ومجلس الوزراء قرر إلغاء رخصة المَجلة.. إلى أجلٍ غير مسمى!
ويروى الأستاذ «محمد التابعى» فى يومياته أحداث الفترة التالية لقرار إلغاء ترخيص المَجلة، قائلاً: فى 4 أغسطس 1930م، صدر قرار من مجلس الوزراء بتعطيل «روزاليوسف» تعطيلاً نهائيًّا، ونشر فى اليوم التالى (5 أغسطس).. وفى 15 أكتوبر 1930م أصدرنا «الصرخة»!
تقول السيدة فاطمة اليوسف: صدرت «الصرخة» فى حجم جديد على المَجلات هو حجم الجرائد اليومية. وكانت هذه هى المرّة الأولى التى تعرف فيها الصحافة المصرية مَجلة أسبوعية بهذا الحجم. على أنَّ هذا الحجم- بعد أنْ أصدرت عددين منه- لم يعجبنى.. واستبدت بى رغبة العودة إلى حجم «روزاليوسف» الأصلى، فأصدرنا «الصرخة» صورة طِبْق الأصل من «روزاليوسف» الأصلى، لا تختلف عنها إلا فى اسمها.. وحتى يعرف الناس أنَّ المَجلة الجديدة هى «روزاليوسف» كتبت على غلافها: «روزاليوسف ومحمد التابعى ومحمد على حماد يحررون هذه المجلة».. فعرف الناس فيها مَجلتهم الأصلية وأقبلوا عليها إقبالاً شديدًا.. وقد صدر منها 42 عددًا قبل أن تعود «روزاليوسف» إلى الصدور.
صرخات “الصرخة”!
على صفحات «الصرخة»، وبامتداد 42 عددًا (من 15 أكتوبر 1930م، حتى 16 أغسطس 1931م)، يُمكننا أن نُلاحظ أنَّ قضية الدفاع عن الحريات والحقوق الدستورية كانت قضية رئيسة بصورة لا تقبل الجدل؛ إذ أعربت مَجلة «الصرخة» بصورة مباشرة عن عدم اعترافها [الكامل] بدستور 1930م.. وجاء فى افتتاحية عددها (رقم 12) فى 4 نوفمبر 1930م، تحذيرٌ واضحٌ ومباشر، تحت عنوان: «الخطر فى مناقشة الدستور الجديد!»؛ إذ جاء بافتتاحية العدد: «أخذ بعض الزميلات (أىْ المطبوعات الصحفية الأخرى)، منذ صدور الدستور الجديد، يجهد نفسه فى مقارنة نصوصه بنصوص الدستور القديم ويدلل على فساد الدستور الجديد ويُعَدّد عيوبَه وسيئاتِه... وفات حضرات الكُتَّاب الزملاء أنَّ مَن يُعدد نقائص شىء ما؛ إنما يعترف ضمنًا باستعداده لسماع محاسن هذا الشىء الذى يعيب فيه! فهل حضرات الزملاء مستعدون للإصغاء إلى محاسن الدستور الجديد؟!».. وتمسكت الافتتاحية بأنَّه ليس من حق «السلطة التنفيذية» المساس بدستور الأمة (أىْ دستور 1923م).. لا بخير أو سوء.. وأنَّ الطريق الوحيدة لتغيير شىء مما جاء فى الدستور؛ إنما هى الطريق الوحيدة التى نصَّ عليها هذا الدستور نفسه.. وتضمّن العدد ذاته رسمًا كاريكاتيريًّا يُصور إسماعيل صدقى باشا وهو يضم إليه بقوة محمد محمود باشا من رقبته، فى إشارة إلى محاولة حكومة صدقى ضم حزب الأحرار الدستوريين إليها.. وكان محمد محمود يصرخ قائلاً: «أنت عايز تضمّنى... ولا عايز تخنقنى؟!».. كما تضمّن العدد نقدًا لاذعًا لتصريحات صاحب الدولة رئيس الوزراء (إسماعيل صدقى) عن احترامه لحرية الصحافة، التى عاد واتهمها بأنها تثير الاضطراب.. وجاء هذا النقد تحت عنوان جرىء يقول: «اللى ما يعجبوش يشرب من البحر.. هكذا يقول صاحب الدولة إسماعيل صدقى باشا». ثُمَّ تلى هذا المقال رسم كاريكاتيرى لإسماعيل صدقى مع مدير الأمن العام (حسن بك) وهو يضع خلف مكتبه صورة للدكتور محمد حسين هيكل (تحت عنوان: زبون جديد) إلى جوار كلٍّ من: التابعى والعقاد وروزاليوسف وعدد آخر من كبار الكُتّاب، وتحت الرسم هذا الحوار:
(دولة رئيس الوزراء): بتعمل إيه يا حسن بك؟.. صورة مين دى اللى بتعلقها؟
(مدير الأمن العام): دى صورة الدكتور حسين هيكل بتاع السياسة.. باعلقها فى لوحة الصحفيين المشبوهين اللى تحت المراقبة!
وفى تصريح واضح بأنَّ الدستور الجديد وضع لإرضاء الاحتلال الإنجليزى، وضعت المَجلة على غلاف عددها الصادر فى 11 نوفمبر 1930م رسمًا كاريكاتيريًّا لإسماعيل صدقى باشا منحيًا أمام المندوب السامى وفى يده نسخة من الدستور الجديد، وتحتها الحوار التالى:
(دولة رئيس الوزراء): تسمح لى فخامتك أقدّم لك هدية نسخة من الدستور الجديد؟
(المندوب السامى): لا... على إيه... متشكر! أنا شفته فى لندن وعارفه وعارف اللى فيه!
على صفحات العدد ذاته، تصدت المَجلة لأزمة الصحافة بكل جرأة، وكتبت تحت عنوان: «الصحافة بين عهدين: حرية الصحافة والدستور»، تقول: قل فى الصحافة ما تشاء، وقل إنها صاحبة الجلالة إنْ أردت، وإنها السلطة الرابعة، وإنها لسان الشعب ومرآة الرأى العام، وإنها، وإنها... إلى آخر تلك الجُمَل البراقة الخداعة التى إن دلت على شىء فليس أكثر من أنَّ خُدام صاحبة الجلالة ينافسون باعة الترمس فى نعته باللوز، والعنب الذى لا يرضى باعته بأقل من لفظة جواهر فى وصفه!.. والحق أنَّ الصحافة فى مصر مهدورة الكرامة، مهيضة الجانب، وأنَّها موضع الاضطهاد والتعسف، وحوادث السنوات الأخيرة لا تزال ماثلة فى الأذهان!
وعلى غلاف عددها (رقم 15) الصادر فى 25 نوفمبر 1930م، تصدر غلاف «الصرخة» كاريكاتير تحت عنوان: «بدلة سعد زغلول؟!»، يُصور كلاًّ من: إسماعيل صدقى باشاـ وعلى ماهر باشا (حزب الاتحاد) يرتديان بدلة فضفاضة للغاية (بدلة سعد زغلول)، ودار بينهما الحوار التالى:
(إسماعيل صدقى باشا): بعد الانتخابات القادمة، سوف أصبح زعيم الأغلبية وخليفة سعد زغلول! (على ماهر باشا): على مهلك شوية!... بدلة سعد باشا دى مافيش حد يعرف يلبسها غيرى!!

وعلى هذه الوتيرة الحادة، التى لا تلين أمام استبداد الحكومة، والصراع بين على ماهر وإسماعيل صدقى على رئاسة الوزراء، تضمّن العدد (رقم 22) من «الصرخة»، الصادر فى 13 يناير 1931م، رسمًا كاريكاتيريًّا للاثنين أمام محل «ترزى أفرنجى» يعرض بدلة الوزارة، ودار بينهما الحوار التالى:
(على ماهر باشا): بدلة الرياسة دى عاجبانى قوى…
(إسماعيل صدقى باشا): بدلة كويسة صحيح... بس تبقى واسعة عليك!
وفى الواقع؛ فإنَّ أعداد الصرخة كافة، كانت صرخة حقيقية؛ بل كانت «صرخات حادة» فى وجه الاستبداد وانتهاك أحكام الدستور وإهدار الحقوق والحريات وتلاعب الإنجليز بحقوق المصريين، بصورة لم تعرف لها الصحافة المصرية مثيلاً!
عودة روزاليوسف!
فى النصف الأخير من سنة 1931م، أجرى إسماعيل صدقى تعديلاً فى قانون المطبوعات. وقد أباح هذا التعديل لمن يملك جريدة سبق إلغاؤها أنْ يُعيد إصدارها، شريطة دفع تأمين قدره 150 جنيهًا (نقدًا) أو يُقدم ضمانًا من أحد البنوك. فاتصلت السيدة فاطمة اليوسف بمدير مكتب صدقى باشا. فغاب وقتًا قصيرًا، ثم عاد وأخبرها بأنَّ الحكومة ستكتفى منها بضمان شخصى! تقول السيدة فاطمة اليوسف فى كتابها «ذكريات»: عجبت لتصرف إسماعيل صدقى هذا. وكنت أسأل نفسى: كيف يتبرع لى بهذا التسهيل وأنا أشن عليه حملات بالغة العنف والقسوة؟!.. ثم مرّت سنوات.. وقد علمت بعد ذلك أنَّ صدقى كان يحترم «روزاليوسف» احترامًا شديدًا؛ إذ كانت المَجلة الوحيدة التى تقتصر فى هجومها على تناوُل المسائل السياسية العامة فقط من دون التعرض للشخصيات كما كانت تفعل الصحف الأخرى.
وعلى الرُّغم من تساهل إسماعيل صدقى فى إعادة ترخيص روزاليوسف؛ فإنَّ المَجلة- فى مقابل إصراره على سياساته المناهضة للإرادة الشعبية- لم تتراجع عن موقفها النقدى لسياسات وزارته!
كان صدقى وقتها يسعى لأن يستكمل حكمه أشكال الشرعية كافة.. حزب جديد (أسَّس حزبًا أسماه حزب الشعب)، وبرلمان، وأغلبية، وجريدة.. من دون أن يمتلك جوهر الشرعية لحكومته (أىْ التأييد الحقيقى لأغلبية المواطنين).. حتى إنَّه عندما فتح باب الانتخابات أعلنت الأحزاب مقاطعتها للمعركة.. وكانت الدوائر الانتخابية خاوية.. ومع ذلك، أعلن صدقى فوز حزبه، وأنَّ عدد المشاركين فى الانتخابات 67 % من الناخبين! (وصارت تلك الانتخابات وهذه النتيجة نكتة مُدوية)!.. وفى مقابل هذا التزييف السياسى، صدر العدد (رقم 205) من روزاليوسف متضمنًا رسمًا كاريكاتيريًّا لإسماعيل صدقى باشا، وهو يُلقى خطابًا فى سرادق (أقرب إلى سرادقات العزاء)، تحت عنوان: «الذين يصدقونه!».. وتحت الرسم عبارة على لسان رئيس الوزراء مُفادها: «... وأعتقد أنكم.. جميعكم.. تصدقوننى حين أقول لكم إنَّ نظام الحكم الحاضر قد استقر والحمد لله...».

وعلى الرُّغم من سعى صدقى الدؤوب للقضاء على الوفد وقتئذ؛ فإنَّه لم يتمكن من القضاء على ما كان للوفد من قوة، حتى نهاية عهد وزارته سنة 1933م. وخلفتها «وزارة محمد توفيق نسيم» التى استمرت فى الحُكم حتى سنة 1936م.. لكن.. كانت سنوات حكم وزارة «توفيق نسيم» الثلاث حُبلى بالعديد من المفاجآت بالنسبة لـ«روزاليوسف»؛ إذ فجأة (وَفقًا للكاتب الكبير مصطفى أمين فى كتابه «مسائل شخصية»): «قررت فاطمة اليوسف أن تُصدر جريدة يومية، وكانت هذه مغامرتها الكبرى. وعبثًا حاول أصدقاؤها إقناعَها بأنَّ إصدار جريدة يومية عمل هائل لا يستطيع أن يقوم به فرد!».. ومع ذلك؛ قررت المضى قُدمًا فى إصدار جريدتها اليومية!.. ويتابع الأستاذ مصطفى أمين: «... وأصدرت [السيدة فاطمة اليوسف] جريد روزاليوسف اليومية، ونجحت نجاحًا رائعًا، وهددت جريدة الأهرام القديمة وجريدة الجهاد الواسعة الانتشار.. وأصبح الدكتور محمود عزمى رئيس تحريرها وعباس محمود العقاد كاتبها الأول.
بَيْدَ أنَّ فترة «وزارة توفيق نسيم» (التى كان يؤيدها النحاس باشا وقتئذٍ) كانت محورًا لخلاف رئيس بين روزاليوسف (المَجلة والجريدة والسيدة) وبين الوفد.. وهو خلاف تطور بشكل حاد، وامتدَّ حتى انتهاء وزارة مصطفى النحاس الثالثة (من 10 مايو 1936م- يوليو 1937م).. وتلك قصة أخرى!








