الإثنين 13 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

فى ذكرى رحيله الخامسة نقتفى أثر البدايات ونحاور أصدقاء الصبا

محمود ياسين من نادى المسرح فى بورسعيد إلى ذاكرة الوطن

بينما أسير فى حى شرق بمدينة بورسعيد، وتحديدًا فى شارع ممفيس، كانت عيناى تتجولان بين الأبنية المتراصة على جانبى الطريق، أبحث عن (نادى المسرح) ذلك المكان الذى استقر فى ذاكرتى رغم أن قدمى لم تطأه يومًا، فقد عرفته من خلال حديث الفنان القدير «محمود ياسين» عنه، فلطالما ذكره بفخر واعتزاز فى مقابلاته، كان صوته يتردد فى أذنى، فيفصل بينى وبين ضجيج السيارات، وحديث المارة، وهو يقول (بورسعيد هى البلد الوحيدة التى بها نادى للمسرح... حتى بلد شكسبير نفسه لا يوجد بها نادى للمسرح).



 

فى مطلع الخمسينيات، كان الفتى النحيل يسير ذات يوم فى هذا الشارع، وهو لا يزال تلميذًا فى المرحلة الإعدادية، حين لفتت نظره فيلا بديعة فى أرقى مناطق المدينة، تعلوها لافتة نحاسية كُتب عليها بخط جميل (نادى المسرح) هناك، تشكلت أولى ملامح الحكاية، وقف الفتى يتأمل اللافتة، وعيناه يتلألأ فيهما بريق الحلم، لم يكن يُدرك، وهو يلقى أولى كلماته على الخشبة، أنه بعد سنوات سيُصبح أحد أعمدة التمثيل العربى، وأن صوته الأجش ستتردد نبرته فى ذاكرة جيل بأكمله، وبعد مرور خمسة أعوام على رحيله، قادتنى قدماى إلى بورسعيد، تلك المدينة التى لا تُنجب العابرين، لم أذهب لأتحدث عن نجم صعد إلى المجد، بل لأقتفى أثر بدايات فنان لم ينسَ جذوره، بل ظل يحمل صوت مدينته فى داخله، تمامًا كما حملت هى صوته فى ذاكرتها.

 تتر البداية

عبرت بوابة النادى وفى ذهنى كثير من الأسئلة التى أبحث لها عن إجابات، تخيلته صبيًا يعبر بجوارى، بخطى مترددة، حاملا فى داخله حلمًا أكبر من عمره، سرت حتى نهاية الحديقة المحيطة بالفيلا دون أن يعترضنى أحد، وهناك ظهرت ملامح مسرح صغير، تتراص أمامه كراسى خشبية، تخيلته فى تلك اللحظة يحيى الجمهور الذى يسمع تصفيقه لأول مرة، بينما يرتجف قلبه من أثر الرهبة التى لا يعرفها إلا من وقف يومًا على خشبة المسرح، لكن قطع خيالاتى رجل خمسينى، بدا من هيئته أنه موظف بالمكان، جاءنى من بعيد ينفث دخان سيجارته، ويسألنى عن مبتغاى، وما إن أخبرته حتى انفرجت أساريره، وقال باسمًا (المكان هنا صاحب فضل على نجوم كتير، محمود ياسين مش أولهم، قبله كان محسن سرحان، وملك الجمل) طلبت منه أن يصطحبنى فى جولة داخل النادى، لكنه فاجئنى بأنه لا يستطيع فعل ذلك فى غياب مدير النادى ونائبه، فطلبت منه أن يتصل بأحدهما، ويسمح لى أن أشرح له الأمر، وهو ما حدث بالفعل، حيث وافق السيد «أحمد عبد المغيث» نائب مدير النادى على أن أتم جولتى، وانطلقت فى جولة تبدو أنها داخل نادى المسرح، لكنها فى الحقيقة كانت داخل ذاكرة الفن.

الفصل الأول 

دلفت معه من الحديقة إلى داخل الفيلا، أخرج الرجل ميدالية مفاتيح من جيبه، وفتح بأحد مفاتيحها بابًا موصدًا فى الدور الأرضى، خلف الباب، انكشفت لى غرفة واسعة تبدو أنها غرفة للضيافة، بها أنتريه بنى عتيق، وتتوسطه طاولة خشبية مستطيلة، وعلى أحد جدران الغرفة صورة كبيرة محاطة ببرواز ذهبى لشخص يرتدى طربوشًا ومعطفًا ينتمى للحقبة الملكية، مكتوب فى أسفلها (حضرة الدكتور الحاج محمد أبو الغيط رئيس نادى المسرح 1931) ويشير هذا العام للسنة التى أنشئ فيها النادى، حيث كونه مجموعة من الطلبة المثقفين، وقد استأجروا شقة كبيرة جعلوها مركزًا لناديهم، وشيدوا بداخله مسرحًا، وكانوا يقيمون كل شهر حفلة سمر، يدعون إليها كبار الموظفين وأعيان الثغر، ليشاهدوا عروضًا تمثيلية بديعة يقدمها الأعضاء، وظل الحال هكذا حتى عام 1933، حيث انتقل النادى إلى مقره الحالى بجوار فنار بورسعيد القديم المُطل على القناة، مما يعنى أن النشاط المسرحى داخل النادى كان نشاطًا أهليًا، حتى عام 1963 ليبدأ النادى نشاطه رسميا فى تدريب الهواة بتبعية مباشرة لـ (الثقافة الجماهيرية) والتى عرفت لاحقًا باسم (الهيئة العامة لقصور الثقافة).

قطع الموظف حبل أفكارى، وأشار بإصبعه إلى الكنبة الكبيرة الموضوعة فى صدارة الغرفة وقال (كان يجلس هنا، ويحتسى الشاى مع الموظفين ومع أصدقائه من المسرحيين حتى بعد أن أصبح نجمًا سينمائيًا معروفًا). سألته عن صور يحتفظ بها النادى لهذه اللقاءات فأجاب بالنفى، ثم أشار علىً أن أصعد إلى الطابق الثانى لاستكمال الجولة، وأثناء صعودى على الدرج، لفت نظرى مرآة معلقة على الجدار، مرسوم عليها باللون الأزرق الملكى ستائر منسدلة على الجانبين ومكتوب بينهما بخط بديع (نادى المسرح).

وفى الطابق الثانى، يوجد غرفتان، إحداهما مخصصة للبروفات، والأخرى للترفيه، حيث تتراص فيها عدد من طاولات البلياردو، لكن الموظف أشار إلى واحدة منها وقال (هذه الطاولة أثرية، لأنها مصنوعة منذ العشرينيات، ومهداة إلى المسرح من أحد الأعيان، أما بقية الطاولات فهى حديثة نسبيًا، أحضرها المسؤولون عن النادى فى أزمنة مختلفة، لذلك فلتلك الطاولة مكانة خاصة جدًا هنا، حتى أنها لم يعاد طلائها لتبقى على حالها، وفى ظنى أن أغلب الفنانين الذين احتضنهم النادى قد قضوا أوقات فراغهم أمامها).

كان الموظف يتحدث بينما كنت أنا أستطلع المنظر من شرفة الغرفة، لاكتشف أنها تطل على المسرح الصغير الموجود فى الحديقة، والذى شاهدته بمجرد دخولى، فسألته إذا ما كانت قد جرت تغيرات على المسرح أم ظل كما كان حين وقف على خشبته «محمود ياسين»، فأومأ برأسه إيماءة لا تحمل اليقين، ونصحنى أن أتحدث إلى أحد المسؤولين عن النادى، فغادرت وبداخلى يقين بأن كل زاوية فى هذا المبنى تخفى حكاية بطلها «محمود ياسين».

الفصل الثانى

حين يكون ما تبحث عنه قد حدث قبل أكثر من سبعين عامًا، يصبح الزمن أولى العقبات، وتصبح ذاكرة من ظلوا أوفياء لذاكرتهم هى الملجأ الوحيد، هكذا كانت رحلتى فى تعقب البدايات المسرحية للفنان «محمود ياسين» الذى هوى المسرح، ومارس هوايته منذ أن كان فى الإعدادية، وبالتالى عدت مجًددا لـ «أحمد عبد المغيث» نائب المدير لكنه أحالنى بدوره إلى «مجدى مصطفى» عضو مجلس إدارة النادى ومدير الأنشطة الذى قال (نادى المسرح كان سببًا فى شهرة عدد كبير من نجوم بورسعيد، حيث شهد بداياتهم، والمراحل الأولى لتشكيل موهبتهم، قد تكون بدايات «محمود ياسين» محفورة فى أذهان من عاصروه من مبدعين، لكن هناك أجيال أحدث من الفنانين مثل «حمدى الوزير، وفاطمة التابعى» وغيرهما تابعنا انطلاقاتهم الفنية التى كان أساسها (نادى المسرح) وأنصحك بالحديث مع المخرج «صلاح الدمرداش» فقد عاصر الفنان «محمود ياسين» ويعلم الكثير عن بداياته).

 هذا المقترح سمح لى بأن أمسك بطرف خيط جديد قد أصل فى نهايته إلى الهدف، والمفاجأة أن «صلاح» عاصره بالفعل لكن كطفل، حيث قال (أعرف محمود جيدًا، فهو يكبرنى بعشر سنوات، وقد كان صديقًا لشقيقى الفنان الراحل «السيد الدمرداش» الذى شاركه التمثيل فى العديد من المسرحيات، أذكر منها حتى اليوم مسرحية (مجنون ليلى) لأمير الشعراء «أحمد شوقى» فقد كان «السيد» يلعب دور «قيس» بينما كان «محمود» يخرج المسرحية).

وفى ختام حديثه، ألقى علىّ اسم المخرج «عباس أحمد» واصفًا إياه بمخزن الأسرار الذى يحتفظ بذكريات نادرة عن تلك الفترة.

 الفصل الثالث

من بورسعيد إلى القاهرة حيث يعيش حاليًا المخرج «عباس أحمد» أحد رواد المسرح فى بورسعيد، فهو أول من أسس فرقه قصر ثقافة بورسعيد فى منتصف الستينيات، وتتلمذ على يديه عشرات النجوم، لدرجة أنهم لقبوه بـ (شيخ المخرجين) لكن ماذا عن بداياته المشتركة مع محمود ياسين؟

 يقول «كان جارى فى شارع المغرب فى حى الأفرنج، وكان يسكن مع أسرته فى فيلا أنيقة خاصة بالعاملين بهيئة قناة السويس، لأن والده كان موظفًا كبيرًا بها، وكان فى طفولته شغوفًا بلعب كرة القدم فى الشارع، بينما كنت أنا أهوى لعب الجمباز. وقد بدأ اهتمامنا المشترك بالفن من عمر الخامسة عشر، حيث كنا نستمع إلى برنامج (ساعة لقلبك) فى الإذاعة، ثم نلتقى فى الشارع لنقلد شخصياته.

كنا أيضًا نُشارك فى حفلات السمر وفرق الكشافة، ونقدم مسرحيات على مسرح المدرسة، لكن هذا كله لم يكن يشبع رغبتنا فى التمثيل، حتى جاء صديق مشترك اسمه «السيد طليب» ليُشاركنا نفس الشغف، كان مهووسًا بالمسرح، وكانت لديه رغبة فى تكوين فرقة مسرحية، ورغم أن الفكرة تبدو غير منطقية بالنسبة لصبية فى أعمارنا، لكن ساعدنا على تنفيذها مبلغ ثمانية جنيهات كان «السيد» يدًخره من مصروفه، وكونا (فرقة بورسعيد لهواة التمثيل).

يقول عباس: «لم تكن إمكانياتنا تسمح لعمل الدعاية اللازمة، لكن ساعدنا فى انتشار أخبار الفرقة أن بورسعيد مدينة صغيرة، يمكن أن تجوبها بالدراجة وتخبر كل من تلقاهم بأمر الفرقة، وتواصلنا مع مسارح المدينة لاستضافتنا، وكان أول من رحب بنا سينما ومسرح ديانا الذى تملكه القنصلية الإيطالية، وعرضنا عليه مسرحية نيرون».

كان المسرح العالمى يستهوى أعضاء الفرقة الوليدة، حتى حدث العدوان الثلاثى سنة 1956، فبدأ الفريق يقدم أعمالا مسرحية جادة، وطنية، عن المقاومة الشعبية. يستكمل عباس: «كان فاروق شقيق محمود ياسين لديه مكتبة ضخمة بها مجموعة كبيرة من الكُتب وهو ما حفزنا على الاطلاع وتزويد خبراتنا فى المسرح، فتعرفنا من خلاله على توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ويوسف السباعى».

اعتادت الفرقة التى كان يزيد عددها يومًا بعد يوم على عقد مناقشات عمل تشبه ورش الإعداد للأعمال المسرحية، ووقع اختيارهم على مقهى وبار «بوخيه توليس» بجوار سينما ماجيستى ليكون مقر جلساتهم، وكان صاحبه خواجة يحب الفن، يقول عباس «كان الخواجة مؤمنًا بما نقدمه، وكان يقبل أن نؤخر دفع ثمن ما نحتسيه من مشروبات لحين ميسرة، وخلال هذه الجلسات ولدت فكرة تشكيل فرقة الطليعة المسرحية، وكان «سمير العصفورى» مسؤولًا عن التأليف، وأنا المخرج، ومحمود ياسين البطل، وكان عرض (مشهد من الجسر) لـ «آرثر ميلر» هو باكورة أعمال الفرقة».

مشهد لم تغلق الستارة بعده

 نجاح «محمود ياسين» ورفاقه شجعهم على البحث عن مقر لهم لعمل البروفات، وتقديم العروض، يقول عباس: «نادى المسرح كان له دور كبير فى هذه المرحلة، وقد سمح لنا رئيسه فى تلك الفترة «محمد حسن رشدى المحامى» أن يكون مقرًا لبروفات الفرقة، حيث لم يكن يصلح لتقديم عرض جماهيرى، فلم تكن خشبة المسرح قد بنيت بعد، وأذكر أن مطعم النادى كان يقدم مشويات شهية، وكانت رائحتها تعذبنا، لأننا لا نملك نقودًا لنشتريها».

فى مطلع الستينيات ذهب «محمود ياسين» إلى القاهرة ليلتحق بكلية الحقوق جامعة عين شمس، وعندما ذهب إلى الجامعة، كان أول ما قام به هو الانضمام إلى الفرقة المسرح بالكلية، كان الطلاب فى الفرقة هم من يقومون بالتأليف والإخراج، فأقنعهم بضرورة تقديم نص من الأدب العالمى، واقترح عليهم مسرحية (الأشباح) لـ «هنريك إبسن» والأجرأ من ذلك أنه قرر أن يقنع المخرج الكبير «عبد الرحيم الزرقانى» بإخراج المسرحية، فذهب إليه فى المسرح القومى، وعرض عليه الفكرة، فوافق «الزرقانى» وتحت إشرافه، فازت الفرقة بمعظم جوائز مسرح الكلية والجامعة.

 وقبل تخرجه بعام، التحق «محمود ياسين» بالمسرح القومى رسميًا، فكان بوابة عبوره إلى السينما، وإلى قلوبنا.