ضابط المدفعية الدبلوماسى يروى حكاية أكتوبر بين الميدان والسياسة
السفير حسين هريدى: التضامن العربى فى حرب أكتوبر «درس» لا يُنسى
آلاء البدرى
فى ذاكرة الشعوب لحظات تبقى عصية على النسيان، تضىء التاريخ وتؤسّس لوعى جديد يتجاوز حدود الأجيال.
وحرب أكتوبر المجيدة 1973 كانت إحدى هذه اللحظات التى أعادت لمصر كرامتها الوطنية ومكانتها الإقليمية والدولية، وأثبتت أن الإرادة الجمعية قادرة على تحطيم أساطير القوة وتغيير خرائط السياسة.
وبين الضباط الذين خاضوا تلك الملحمة العسكرية، ثم انتقلوا لاحقًا إلى ساحات الدبلوماسية والسياسة، يبرز اسم السفير حسين هريدى، الذى جمع بين التجربة الميدانية كضابط مدفعية وعضو فى المقاومة الشعبية، وبين التجربة الدبلوماسية التى جعلته شاهدًا على التحولات العميقة التى أعقبت النصر.
وفى حواره مع «روزاليوسف»، يستعيد السفير هريدى ذكرياته عن حرب الكرامة، ويحلل أبعادها السياسية والدبلوماسية، ويرسم صورة نقدية لمسار الذاكرة الوطنية فى التعامل مع واحدة من أعظم محطات التاريخ المصرى الحديث.
بصفة سيادتكم أحد أبطال حرب أكتوبر نود أن نستعيد معكم ذكريات الحرب والنصر.
- فى البداية أريد التعقيب على لقب «بطل»، فقد أجد نفسى مترددًا فى قبوله، ليس تواضعًا بل لأن ما فعلناه لم يكن بطولة خارقة؛ بل واجب نابع من انتمائنا العميق للوطن الكبير مصر، نحن جيل الشباب الذى كان فى مقتبل العمر عندما وقعت نكسة 1967، ورغم قسوة الحدث لم تهتز قناعتنا بأن تحرير سيناء قادم لا محالة وكلمات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كانت نبراسًا لنا: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، و«ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة»، وقد آمنا بها إيمانًا مطلقًا لم نخشَ الموت، ولم نخطط لمستقبل أو زواج أو حياة شخصية بل كان هدفنا الوحيد هو تحرير الأرض والثأر لهزيمة 67، ولم يكن الأمر بطولة فردية؛ بل كان تجسيدًا لوطنية جماعية.
ما الدور الذى أسند إليكم خلال الحرب؟
- مهمتنا كانت حماية قلب الوطن: العاصمة القاهرة؛ تحسبًا لأى سيناريو محتمل. قد يبدو أن وجودنا بعيد عن خط النار، لكنه كان ضمانة بأن تبقى العاصمة محصنة من أى محاولة إسرائيلية للزحف.
هل هناك موقف إنسانى لا يزال عالقًا فى وجدانكم؟
- كل لحظة من الحرب محفورة فى ذاكرتى. وأتذكر زملائى الشهداء فردًا فردًا بأسمائهم ووجوههم وذكرياتنا المشتركة، كنا ننام فى نفس العنبر، نتقاسم اللحظات الصعبة والأحلام الصغيرة.
لكننى لا أنسى زميلى الشهيد حسن حمدى من المحلة الكبرى. سألته قبل الحرب: «ماذا تتمنى بعد النصر؟» فأجاب: «أعود لأرعى والدتى». كانت إجابته مؤثرة للغاية تحمل من النبل والوفاء ما يصعب وصفه لكن القدر شاء أن يستشهد فى ميدان المعركة تاركًا خلفه وصية صامتة من الحب والتضحية، لا تزال ترن فى أذنى حتى اليوم.
كيف انعكست تجربة أكتوبر على وعيكم السياسى؟
- فى الحقيقة وعيى السياسى كان قد شُكّل مبكرًا، وتحديدًا فى أعقاب نكسة عام 1967، وجاءت حرب أكتوبر كامتداد طبيعى لذلك الوعى لكنها لم تكن مجرد محطة عسكرية؛ بل كانت لحظة فارقة عمقت انتمائى الوطنى، ورسّخت فى داخلى تقديرًا عميقًا لدور الجيش المصرى وتضحياته. لم تكن مجرد حرب؛ بل كانت محطة فى مسيرة طويلة لصياغة وعى سياسى جماعى.
هل شعرت أن النصر كان كافيًا لمحو آثار هزيمة 67؟ أمْ أنّ الجرح ظل مفتوحًا؟
- لا، وبكل يقين لا يمكن لأى حرب أن تمحو آثار نكسة عام 1967، فما ارتكبه العدو من جرائم بشعة بحق الضباط والجنود المصريين يفوق الوصف، ويترك ندوبًا لا تكفى مئة حرب لمداواتها أو للثأر لها، تلك اللحظات القاسية، وما حملته من فظائع لا تزال حاضرة فى الذاكرة الوطنية شاهدة على حجم التضحيات التى قدمها أبناء مصر دفاعًا عن أرضهم وكرامتهم.
كيف تعاملتم مع غطرسة الجيش الإسرائيلى قبل اندلاع المعركة؛ خصوصًا مع التصريحات حول حصانة خط بارليف واستحالة عبوره؟
- كانت حربًا نفسية شرسة. قيل إن «حتى القنبلة الذرية لا تستطيع هدم بارليف». ثم خرج رئيس الأركان الإسرائيلى الجديد قائلًا: «لو فكر المصريون فى العبور سندك عظامهم». لكننا رأينا من الذى دُكت عظامه. ولولا الجسر الجوى والبحرى الأمريكى الذى بدأ فى 9 أكتوبر وزود إسرائيل بما قيمته 55 مليار دولار؛ لكان جيشنا قد واصل تقدمه حتى ما وراء الحدود.
وكيف تقيِّمون الدعم العربى فى تلك اللحظة؟
- كان حاسمًا وتاريخيًا. لقد شهدت بعينى الدبابات الجزائرية وهى تشارك فى المجهود الحربى، وكان الالتفاف العربى حول مصر فى تلك اللحظة التاريخية تجسيدًا حقيقيًا للوحدة والمصير المشترك، ويكفينا الموقف الشجاع للملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز الذى أصدر أوامره بوقف تصدير البترول للدول الداعمة لإسرائيل، فى خطوة استراتيجية قلبت موازين الضغط الدولى.
معظم الدول العربية وقفت إلى جانب مصر، وهذا الموقف يجب ألاّ يُنسَى أبدًا، إنه درس فى التضامن العربى، يجب أن يبقى حيًا فى الذاكرة الجماعية، لا كحدث عابر؛ بل كخطة متكاملة جسّدت الإرادة المشتركة للأمة.
برأيك.. كيف يمكن ترسيخ ذاكرة أكتوبر لدى الأجيال الجديدة؟
- لا شك أن الأجيال قد تغيرت، وأصبح من الضرورى أن تولى وزارة التربية والتعليم اهتمامًا أكبر فى مناهجها لحرب أكتوبر ليس فقط من حيث سرد الأحداث العسكرية؛ بل من خلال تسليط الضوء على الشهداء والأبطال والقادة الذين صنعوا هذا النصر، أسماء مثل الفريق عبدالمنعم رياض، والفريق محمد عبدالغنى الجمسى، والفريق سعد الدين الشاذلى، والعميد إبراهيم الرفاعى، والرؤساء محمد حسنى مبارك، والسادات وعبدالناصر، وغيرهم كثيرين، يجب أن تخلد مسيرته وسيرتهم فى ذاكرة الطلاب؛ لأن معظم شباب اليوم لا يعرفون شيئًا عن هؤلاء الرموز إذا سُئلوا عنهم، وأتمنى أن يكون يوم ذكرَى الحرب ومن ضحُّوا من أجل الوطن مناسبة وطنية حقيقية داخل المدارس.
ما تعليقكم على الروايات الإسرائيلية التى تقلل من الضربة الجوية وتحمِّل الجيش مسئولية الثغرة؟
- من المهم التأكيد على أن الجيش المصرى لم يكن ليتمكن من اقتحام قناة السويس وعبورها بخمس فرق خلال ست ساعات، لولا نجاح الضربة الجوية المصرية، التى كانت جزءًا أساسيًا من خطة التمهيد النيرانى، فبدءًا من الساعة الثانية ظهرًا، شارك الطيران المصرى إلى جانب المدفعية الميدانية فى الجيشين الثانى والثالث فى قصف مكثف دك خلاله خط بارليف، ودمر مراكز القيادة الإسرائيلية والقواعد الرئيسية، مما مهد الطريق لعبور القوات المصرية وتحقيق المفاجأة الاستراتيجية، وما تروج له وسائل الإعلام الإسرائيلية حول أسباب الثغرة التى حدثت مساء 15 أكتوبر بعد أكثر من أسبوع من اندلاع الحرب غير حقيقى، والسبب الرئيسى لتلك الثغرة كان تدمير حائط الصواريخ المصرى.







