يروى شهادته من قلب الميدان ويتحدث عن الحرب والفن والانتصار
الفنان أحمد نوار: تمكنت من اقتناص 15 من العدو خلال فترة تجنيدى
هبة محمد على
لم يكن الفن بعيدًا يومًا عن ميدان القتال، ففى لحظات المصير، تتحول الريشة إلى سلاح، واللون إلى صرخة، واللوحة إلى وثيقة خالدة تشهد على التاريخ، ومن بين من جسدوا هذا التلاقى الفريد بين الفن والواجب الوطنى، يبرز اسم الفنان التشكيلى الدكتور «أحمد نوار» الذى لم تقتصر رسالته على تجسيد الجمال، بل حملها معه إلى خنادق الحرب، مشاركا فى حرب الاستنزاف، مستغلا نظرية الظل والضوء التى يستخدمها فى لوحاته فى اقتناص العدو حتى لقب فى ساحة المعركة بـ(القناص) لكن «نوار» لم يكتف بكونه جزءًا مشرفًا من ذاكرة مصر العسكرية والفنية، لكنه وفى خلال ستة عقود من الفن لم يتوقف عن التعبير عن قضايا وطنه عبر لوحاته، واستمر فى مهمة توثيق كل تفاصيل الحرب بريشته بكل جراءة وصدق.
كانت لوحاته بمثابة شهادة بصرية على ملحمة بطولية خالدة، وفى هذا الحوار، نفتح صفحة من تاريخ فنان حمل الوطن فى قلبه وفى فنه، ونتحدث مع «د.أحمد نوار» عن تجربته الفريدة، وعن كيف يمكن للفن أن يكون مرآة للواقع، بل شريك فى صناعته.
تخرجت عام 1967 فى كلية الفنون الجميلة وهو عام صعب على كل المصريين بسبب النكسة وتزيد صعوبته بالنسبة لك كونك فنانًا مرهف الحس لا يزال يتلمس خطواته الأولى، صف لنا تلك الفترة وكيف قررت تحويل ريشتك إلى سلاح مقاومة رغم عدم استدعائك للتجنيد؟
- بالطبع، كان يوم 5 يونيو 67 كابوسًا عشته كسائر المصريين، وأذكر أننى كنت أرسم فى هذا الوقت لوحة (يوم الحساب) والتى كانت مشروع تخرجى من الكلية، لكن الدراسة توقفت، وأغلقت الجامعات، وتوجهت مع الشباب للمقاومة الشعبية وكانت مشاعر الحزن تتملكنى لأن المقاتل المصرى لا يستحق ما حدث، فنحن على أرض الواقع لم ندخل الحرب حتى ننهزم، وفكرت فى هذه اللحظات أن أرسم عملا فنيا يعبر عن المقاتل المصرى الذى يترقب ساعة الصفر للأخذ بالثأر وطرد العدو الإسرائيلى من سيناء، فكانت لوحة أطلقت عليها اسم (استعداد وترقب) كان حجمها 60 سم × 60 سم، رسمتها بالحبر الأسود على مسطح الخشب الحبيبى، وقد حصلت بسبب هذه اللوحة على الجائزة الأولى فى (بينالى إبيثا الدولي) فى إسبانيا عام 1968، وكانت الجائزة عبارة عن مبلغ مالى ومنحة دراسية لمدة أربع سنوات على نفقة الحكومة الإسبانية.
لكن هذه الجائزة كانت سببًا فى دخولك للجيش، أخبرنا عن هذا الأمر، وعن شعورك أيضا حينما تحولت بين ليلة وضحاها إلى مجند فى الجيش بدلاً من أن تسافر إسبانيا؟
- كان من الضرورى الحصول على موافقة القوات المسلحة على السفر نظرًا لحالة الحرب التى كانت تعيشها البلاد، وبالفعل توجهت إلى منطقة التجنيد التى أتبعها بمدينة الإسكندرية، وعندما قابلت الصول المسئول قرأ الأوراق بعناية، ونظر لى قائلا (لو حضرت من 4 أيام فقط كنت حصلت على الموافقة على السفر، لكن اليوم تم وقف إصدار تصاريح السفر نظرًا لحالة الحرب) وبينما كنت ألملم أوراقى متأهبًا للخروج، سألنى (إلى أين ستذهب؟) فأجبته متعجبًا بأننى سأعود إلى منزلى فى القاهرة، فقال لى (لا يمكنك العودة فقد أصبحت من الآن جنديًا مجندًا بالقوات المسلحة) فأبلغته أنه لم يصلنى استدعاء، وأننى معيد بكلية الفنون الجميلة، وصدر لى تأجيل من التجنيد حتى سن 27 عامًا، فقال لى (حتى هذه القوانين قد ألغيت.. لقد أصبحت من الآن جنديًا مجندًا فى القوات المسلحة) وبعد مرور ساعة من هذا الحوار كنت حاملا للمخلة، ومرتديا لزى القوات المسلحة المصرية.
كيف استقبلت الخبر؟ وما الذى تذكره عن أيامك الأولى فى الجيش؟
- كانت صدمة، ليس بسبب ضياع المنحة، أو انضمامى للقوات المسلحة الذى هو شرف لكل مصرى، لكن للطريقة التى انضممت من خلالها إلى الجيش والتى لا تخلو من عنصر المفاجأة، أما عن أيامى الأولى فى الجيش، فقد تم ترحيلنا من منطقة التجنيد بالإسكندرية إلى منطقة التدريب بالصحراء، وبدأت فى أن أتعايش مع زملائى، وأن أدرك أهمية تجنيد الشباب المتعلم.. وأثناء التدريب على الرماية بالذخيرة الحية، لاحظ قائد الفصيلة تميزى فى التصويب بدقة، وأخذ يشجعنى، وعندما انتهت فترة التدريب الأساسى والتى كانت 45 يومًا فوجئت بقائد الفصيلة يبلغنى بأن القيادة قررت انضمامى لفرقة أخرى للتدريب على سلاح القناصة، وكانت مفاجأة سارة لى، زادت من شعورى الوطنى، لأنى شعرت بأننى أقترب من قناة السويس، وأن لحظة اصطياد العدو الإسرائيلى تقترب، وفى مكان آخر بالصحراء حصلت على تدريب جديد لمدة ٤٥ يومًا على سلاح القناصة، وكانت التدريبات صعبة للغاية، لأن السلاح مجهز بتلسكوب ويتطلب تحقيق بعض الحسابات الرياضية قبل التصويب على الهدف، لكن فترة التدريب انتهت، وقد تفوقت فى كل مراحل الإعداد والتصويب، وتوجهت بعدها إلى جبهة القتال بمنطقة الدفرسوار شمال البحيرات المرة، بالقطاع الأوسط لقناة السويس.
احكى لنا عن عمليات القنص التى قمت بها على الجبهة، وكيف استطعت أن تتوج بلقب (القناص) متفوقا على جميع من زاملك فى الكتيبة؟
- كدت أموت فى أول عملية قنص لى، فقد أطلق فوق رأسى مباشرة أكثر من 70 طلقة وكنت أصوب تجاه أول هدف لى، فتمالكت أعصابى وصممت على قتل من أطلق على النار، كانت لحظة صعبة، إذ أوقفت كل حركة فى جسدى، حتى أننى كنت أسمع نبضات قلبى واستعدت دروس التكتيك والتمويه، وعدت إلى موقعى وقرأت بعض آيات القرآن الكريم وأطلقت رصاصاتى فأصابت الهدف، وفى خلال فترة تجنيدى تمكنت من اقتناص 15 إسرائيليًا من بينهم قناصون مسجلون وموثقون لدى القوات المسلحة، وخلال هذه الفترة شكلت جماعة فدائية مكونة من 11 جنديًا من الجنود المميزين من حيث الخبرة التكتيكية واللياقة البدنية، بالإضافة إلى قائد برتبة ملازم أول وتدربنا بقسوة لمدة شهور، وبعدها عبرنا قناة السويس 6 مرات خلف خطوط العدو للاستطلاع وكشف مواقع فى عمق سيناء.
وكيف استطعت استغلال النظريات الفنية فى عملية القنص؟
- كان الإسرائيليون قد لجأوا إلى حيلة لتحميهم، فرفعوا ساترًا من الخيش على سطح الخندق ليتخفى خلفه الجندى، ويراقب المواقع المصرية على الضفة الغربية، ولكن الخيش ساعدنى على إصابة الأهداف لأننى استفدت من خيال الظل فى المسرح الإغريقى القديم، فكلما كبر حجم الظل على الخيش يعنى ذلك أن الفريسة أبعد، وكلما قل حجم الظل تأكد لى أنها خلف الخيش مباشرة، من خلال هذه النظرية، نجحت فى قنص الفريسة، وحصلت على مكافأة قدرها خمس جنيهات من قائد الفرقة، ورغم ضآلتها فإنها كانت تساوى عندى كنوز الدنيا.
هل هناك مجندون زملاء لك كنت شاهدا على بسالتهم وشجاعتهم فى الحرب ولا تزال تذكرهم حتى الآن؟
بدون شك أتذكر أبطال أفذاذ قاموا بعمليات فى عمق سيناء، ودمروا مواقع المدرعات بالعمق وأذكر خاصة مجموعة القائد البطل الفذ «إبراهيم الرفاعي» حيث قاد مجموعة ٣٩ التى نفذت عمليات فدائية كلها حققت انتصارات مذهلة فى عشرات العمليات، والحقيقة أن بطولات الجنود فى الجيش المصرى تحتاج إلى مجلدات لذكرها.
أمضيت عامين فقط على الجبهة، وخرجت من الجيش سنة ٧٠ لماذا كانت فترة تجنيدك قصيرة؟ وهل كنت تتمنى أن تبقى لتشهد لحظات الانتصار وأنت فى الميدان؟
- خرجت من الجيش بقرار من الرئيس «جمال عبدالناصر» الذى قرر خروج معيدى ومدرسى الجامعات، وعودتهم إلى جامعاتهم، وقد حدث ذلك بعد قرار وقف إطلاق النار سنة 1970، وبالطبع، حزنت لأننى كنت أتمنى أن أحضر ساعة الصفر لتحرير سيناء، وأن أكون مع زملائى المقاتلين على الجبهة لحظة النصر.
كيف انعكست الفترة التى قضيتها داخل الجيش على الفن الذى تقدمه، وكم عدد اللوحات التى قدمتها حتى الآن تتحدث فيها عن المقاتل المصرى وصموده؟
- منذ عام ١٩٦٥ وأنا مهموم بالقضايا الإنسانية على مستوى العالم، ورسمت لوحات عن فلسطين وما زلت حتى الآن، رسمت عن حرب فيتنام، ورسمت عن التفرقة العنصرية بجنوب أفريقيا وحتى الآن أعمالى تدور فى فلك الحرب والسلام، وقد أقمت عشرات المعارض على مدار 60 عامًا ترتكز جميعًا على القضايا الوطنية، منها (فلسطين 52 سنة احتلال، وفلسطين 54 سنة احتلال) وفى عام 2010 أقمت معرضًا كبيرًا عنوانه (العبور) وفى عام 2014 أقمت معرضًا عن (الشهيد) وأرسلت دعوة للرئيس «عبدالفتاح السيسي» لافتتاح المعرض، ونظرًا للظروف السياسية لم يتحقق ذلك، لكنه أرسل لى صحبة من الورود وأرفق بها تهنئة خاصة، والحقيقة أننى اعتبرت هذه التهنئة تكريمًا لكل الفنانين المصريين.
هناك مهام عديدة قمت بها كمسئول ونفذتها بروح المحارب منها مثلا (إنقاذ آثار النوبة) وغيرها ما هى أقرب المهام إلى نفسك؟ ولماذا؟
- الحقيقة أننى فى كل المسئوليات الإدارية التى ألقيت على عاتقى اعتمدت على ما أمتلكه من إرادة وخبرة كفنان، بالإضافة إلى اطلاعى على المؤسسات المتحفية والثقافية فى العالم، بداية من تأسيس كلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا ومتحف الفنون الجميلة بها عام 1982، ورئاسة المركز القومى للفنون التشكيلية وقطاع المتاحف وصندوق إنقاذ آثار النوبة، كما كنت خبير متاحف لدى هيئة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة، وعملت على وضع دراسة لمتحف قطر الوطنى وتصور لتطويره وتحديثه، وكذلك وضع دراسة لتطوير وتحديث عدة متاحف بدولة الإمارات، ومتحف محمود خليل، وغيره من المتاحف، والمهام التى يطول ذكرها، كما أعددت مشروعا كبيرا عنوانه (متاحف مصر والاستثمار الاقتصادي) وهو مشروع لمائة عام.
فى رأيك كيف تظل حرب أكتوبر حاضرة فى ذاكرة الأجيال الجديدة من الشباب؟
- ستظل أكتوبر فى ذاكرة الأمة، أما ذاكرة الأجيال فتفتقد إلى اهتمام القائمين على التعليم، والإعلام، والثقافة، وأنا أتساءل أين الدراما التى تجسد انتصار حرب أكتوبر؟ أين السينما؟ أين كتب التلاميذ عن أبطال ونصر أكتوبر؟ وكلها أمور ضرورية لتوثيق الحدث، وجعله حاضرا فى ذاكرة الشباب.







