الإثنين 20 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

تفاصيل الترتيبات الأمنية الجديدة بين دمشق وتل أبيب

اتفاق «ترويض» الجولانى و«تقويض» سوريا!

على طريقة ملوك العصور الوسطى.. فإن ساكن البيت الأبيض يمنح مجدا للجولاني.. لكنه مجد -بشروط بلاط الحكم- يبدأ بالإخصاء. وباعتبار أن إسرائيل هى إحدى ولايات أمريكا وولاياها.. فالقاعدة تقول إنه حتى يدخل العبد الحرملك لا بد أن يكون من الخصيان.  بهذه الصورة يمكننا أن نقرأ ونفهم طبيعة الترتيبات الأمنية بين دمشق وتل أبيب التى تديرها «سلطة أمر واقع» سورية من دون شرعية دستورية أو انتخابية.



تسارعت وتيرة المفاوضات السورية الإسرائيلية بشكل ملحوظ قبل الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، الأسبوع الماضى، مع ضغوط كبيرة مارسها المبعوث الأمريكى إلى سوريا، توم باراك، للتوصل إلى اتفاق مسبق. فيما أشار الجولاني/الشرع إلى إمكانية توقيع اتفاقية مع إسرائيل خلال إقامته فى الولايات المتحدة، قائلًا: «نحن قريبون جدًا من التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل بوساطة أمريكية». 

وعلى الرغم من تأكيد وزارة الخارجية السورية على أن «الاتفاقية مع إسرائيل ستكون مشابهة لاتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، ولا تعنى تطبيع العلاقات أو انضمام سوريا إلى اتفاقيات إبراهيم»، إلا أن الاتفاقية، المتوقع توقيعها فى سبتمبر المقبل، هى جزء من «سلسلة اتفاقيات متتالية» سيتم إبرامها مع الجانب الإسرائيلى قبل نهاية.2025

مفاوضات تحت النار

بعد انهيار نظام بشار الأسد فى 8 ديسمبر 2024، شهدت الجبهة السورية الإسرائيلية تحولات عسكرية وأمنية عميقة، حيث استغلت حكومة نتنياهو تفكك الجيش السورى لإعلان «بطلان الاتفاق حتى عودة النظام إلى سوريا».

 وتقدمت إسرائيل لاحقًا واحتلت المنطقة منزوعة السلاح فى مرتفعات الجولان (235 كم) التى أُنشئت بموجب الاتفاق.

 ووسعت سيطرتها وتوغلاتها فى الأراضى السورية، على مساحة إجمالية تقارب 600 كم. بالتزامن مع ذلك، شنت إسرائيل حملة جوية واسعة النطاق دمرت معظم أسلحة الجيش السورى ومعداته. 

فى يوليو 2025، اخترقت غارات جوية إسرائيلية محيط القصر الرئاسى فى دمشق، فى خضم أحداث السويداء. فى هذا السياق، أطلقت إدارة ترامب مفاوضات مباشرة بين إسرائيل وسوريا، بالتناوب بين باكو وباريس ولندن، بهدف ضم سوريا فى نهاية المطاف إلى «الاتفاقيات الإبراهيمية» التى أُطلقت خلال ولاية ترامب الأولى (2017-2021).

خلال لقاء ترامب مع الجولانى فى الرياض فى 14 مايو، وجه ترامب دعوة إلى سوريا للانضمام إلى عملية التطبيع مع إسرائيل، متعهدا فى المقابل برفع العقوبات المفروضة عليها. 

وربطت واشنطن بوضوح التقدم فى المفاوضات مع إسرائيل برفع العقوبات عن سوريا. وقد اتضح ذلك من خلال أنشطة وزير خارجية حكومة الأمر الواقع السورية أسعد الشيبانى، الذى سافر إلى واشنطن لمناقشة مسألة تخفيف العقوبات عقب محادثات فى لندن مع وزير الشئون الاستراتيجية الإسرائيلى، رون ديرمر. 

 

 

 

ركزت المحادثات السورية - الإسرائيلية، التى أجراها توم باراك، على مسودة اتفاقية أمنية اقترحتها إسرائيل. وقد سبقت هذه المناقشات مفاوضات فى باريس، ركزت على تدابير خفض التصعيد، بالإضافة إلى مراقبة وقف إطلاق النار فى السويداء - وهو اتفاق تم التوصل إليه بوساطة أمريكية فى يوليو 2025، والذى تضمن أيضا إعادة تفعيل اتفاقية عام 1974. 

ورغم التصريحات الرسمية التى تصف الاتفاقيات المقبلة بأنها «اتفاقيات أمنية»، إلا أن المفاوضات لم تجر بين مسئولين عسكريين، بل بين شخصيات سياسية رفيعة المستوى فى اجتماعات مباشرة.

ملامح الاتفاقية الأمنية المرتقبة

تسعى إدارة الجولانى إلى إحياء اتفاقية فك الارتباط لعام 1974، مع إظهار استعدادها لقبول بعض التعديلات (1974+).

 فى المقابل، تسعى إسرائيل إلى فرض اتفاقية جديدة، مستغلة ضعف سوريا الحالى وعجز حكومتها الجديدة عن صياغة إجماع وطنى من شأنه أن يصون وحدة البلاد واستقرارها. وعلى هذا الأساس، قدمت إسرائيل إلى سوريا مقترحا مفصلا لاتفاقية أمنية جديدة تتعلق بجنوب غرب البلاد.

لم يتم الكشف عن التفاصيل الكاملة للاتفاقية بعد، ولكن وفقا لتقارير إعلامية، فإن جوهرها يعتمد على التزامات إسرائيلية بسحب قواتها تدريجيا إلى خطوط اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974، باستثناء موقعين أماميين على جبل الشيخ، مع تأجيل أو تجاهل مسألة احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان.

 من جانبها، ستتعهد سوريا بمنع استخدام أراضيها لشن هجمات ضد إسرائيل، بينما تتعهد إسرائيل بعدم التدخل فى الشئون الداخلية لسوريا والاعتراف بحكومة الجولاني. يعد هذا الشرط الأخير غريبا، لأنه يتطلب من سوريا ضمان اعتراف دولة معادية لا تزال تحتل الأراضى السورية بحكومتها

بحسب ترتيبات «دمشق- تل ابيب» سيتم تقسيم جنوب سوريا إلى ثلاث مناطق، فيما تخضع كل منطقة لقيود محددة على أنواع القوات والأسلحة المسموح بها، حيث تحظر الوجود العسكرى أو الأسلحة الثقيلة فى المنطقة منزوعة السلاح، وتسمح فقط للشرطة وقوات الأمن الداخلي. 

كما يتضمن الاقتراح توسيع المنطقة منزوعة السلاح بمقدار كيلومترين على الجانب السورى، وتعيين المنطقة بأكملها من جنوب دمشق إلى الحدود كمنطقة حظر طيران للطائرات السورية. على هذا النحو، تكشف الخطة الإسرائيلية عن محاولة لإعادة هندسة النظام الأمنى فى جنوب سوريا من خلال تقسيمه إلى مناطق جغرافية متميزة، لكل منها وضع محدد يقيد السيادة السورية.. تأتى على النحو التالى:

-- المنطقة 1 (المحتلة من إسرائيل فعليا): سيبقى هذا القطاع تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، وسيكون بمثابة قاعدة للعمليات الاستخباراتية والعسكرية الاستراتيجية.

- المنطقة 2: وهى المنطقة المجاورة مباشرة للحدود، والمعروفة تاريخيا باسم منطقة فك الاشتباك بموجب اتفاقية عام 1974، والتى ستدار تحت إشراف دولي.

المنطقة 3: منطقة منزوعة السلاح تمتد هذه المنطقة إلى عمق أكبر فى الأراضى السورية، وستحظر فيها وجود أسلحة ثقيلة، وربما تقييد الانتشار العسكرى السورى المنظم، دون ترتيبات متبادلة من الجانب الإسرائيلى، ما يخلق منطقة عازلة بحكم الأمر الواقع بين الحدود ومنطقة السيطرة السورية المباشرة.

كما يتضمن الاتفاق أن تكون المنطقة التالية لتلك المناطق الثلاثة منطقة حظر الطيران، تغطى أجزاء كبيرة من محافظتى درعا والسويداء وتمتد باتجاه ضواحى دمشق، يتم فيها فرض قيود على الطيران العسكرى السورى، ما يحد من قدرة سوريا على نشر قوتها الجوية فى المسرح الجنوبى كله.

فى مواجهة منظري الجولاني

بعض منظري الجولانى، يحاولون التسويق لاتفاق «دمشق- تل أبيب» بأنه يتشابه مع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل.. وهى «تنظيرة» تليق بعقلية الجهاديين التى تعترف بوطن ولا تدرك قيمة حدود.

فمصر وقعت كامب ديفيد وهى تجلس على كرسى المنتصر فى الحرب. كما استعادت القاهرة كامل أراضيها المحتلة.

وبالتالى كان اتفاق يضمن سيادة الدولة المصرية على كامل أراضيها. 

وذلك على العكس تمام من اتفاق يرسخ الاحتلال الإسرائيلى للأراضى السورية، ويأتى بعد أكثر من ألف غارة إسرائيلية على الجنوب السوري.

تحديات الاتفاقية الأمنية

يعكس الاقتراح الإسرائيلى محاولة لفرض واقع سياسى وعسكرى جديد، حيث تفصل مناطق شاسعة من جنوب سوريا عسكريا عن السلطة السورية وتوضع تحت إشراف إسرائيلى مباشر أو غير مباشر. 

وبالتالى فإنه اتفاق من شأنه أن يرسخ النفوذ الإسرائيلى فى جميع أنحاء المحافظات الجنوبية من سوريا (درعا، القنيطرة، السويداء، وأجزاء من ريف دمشق الجنوبى الغربي). 

وبدعوى ضمان الاستقرار والأمن وتنفيذ الاتفاقيات، ستكتسب إسرائيل القدرة على تنفيذ عمليات توغل عسكرية فى هذه المناطق متى شاءت.

أيضا من شأن الاتفاق أن يفتح الباب أمام تدخلات إسرائيلية واسعة النطاق فى الشئون الداخلية السورية، لا سيما فى المناطق التى يتركز فيها الدروز، بحجة الحماية.

 ويشمل ذلك القنيطرة وريف دمشق والسويداء. وبالتالى، فإن الاقتراح الإسرائيلى يحمل تداعيات خطيرة، إذ يقوض السيادة السورية على الجنوب ويهدد وحدة أراضيها، حيث يتم التعامل مع هذه المناطق فعليا على أنها خارجة عن سيطرة الدولة السورية، ويعيد تشكيل وضعها الأمنى من خلال ترتيبات مع قوة احتلال أجنبية، بدلا من استعادة الجولان والتفاوض على الترتيبات الأمنية هناك.

كما يأتى الاقتراح بمثابة «الثمن الذى يدفعه الجولانى مقابل كرسى الحكم»، وأول اختبار «ولاء» من الإدارة الأمريكية، خصوصا أن قبول مثل هذه الترتيبات يستلزم تقديم تنازلات سيادية كبيرة.

ومن الملفت أن ذلك الاتفاق قد ظهر بعد وقت قصير من إعلان سوريا والأردن والولايات المتحدة عن خارطة طريق أولية لتهدئة التوترات فى السويداء وتلبية مطالب سكانها.

لكن فى الوقت نفسه يتم الترتيب للتدخل الإسرائيلى كنظام أمنى بديل، ما يُقوّض إمكانية البناء على خريطة الطريق تلك كخطوة أولى نحو الاستقرار الداخلي؛ ما يُعطى انطباعا بأن الترتيبات الأمنية مع القوى الأجنبية لها الأسبقية على الحلول السياسية الداخلية الهادفة إلى حماية الوحدة السورية.

مناطق نفوذ إقليمية 

يمكننا النظر للترتيبات الأمنية بين دمشق وتل أبيب باعتبارها أول سكينة تمد فى «التورتة السورية». إذ يهدف لتجزئة سوريا إلى مناطق نفوذ إقليمية ودولية متنافسة.

 نجاح إسرائيل فى إنشاء منطقة أمنية عازلة فى جنوب سوريا من شأنه أن يشجع قوى إقليمية ودولية أخرى على المطالبة بترتيبات مماثلة وفرض قيود سيادية على الدولة السورية من خلال الضغط العسكرى فى حال فشل المفاوضات.

الاتفاق بين سوريا وإسرائيل.. باطل

النقطة الأهم.. أننا أمام سلطة أمر واقع لا تملك الشرعية الدستورية والتفويض الشعبى لإبرام مثل هذه الاتفاقية، ما يجعل مثل هذه الاتفاقية تواجه تحديات قانونية. لأن أى اتفاق مع إسرائيل خصوصا المتعلق بالسيادة والأراضى يتطلب تفويضا قانونيا وسياسيا، بما فى ذلك تصديق برلمان منتخب، وهو أمر غير متاح حاليا. 

وبالنظر إلى أن الحكومة الحالية، بموجب أحكام الإعلان الدستورى، انتقالية، فإن توقيع مثل هذه الاتفاقية سيكون محل نزاع قانونى حاد، حيث يعتبرها البعض باطلة دستوريا.

كما أن إبرام اتفاقيات أمنية مع قوة احتلال معادية تاريخيًا للشعب السورى، خاصة فى الوقت الذى تشن فيه حرب إبادة جماعية ضد فلسطين، دون إجماع وطنى واسع، قد يؤدى إلى تفتيت المجتمع السورى والقوى السياسية، ومن المحتمل أن يعيد سوريا للحرب الأهلية خاصة إذا ظهرت معارضة حتى داخل الفصيل الحاكم، من فصائل أخرى غير راغبة فى التنازل عن السيادة.

بالإضافة إلى لكل هذه الخروقات، فإن قبول منطقة منزوعة السلاح فى الجنوب من شأنه أن ينشئ سابقة خطيرة، وينتهك حق سوريا القانونى فى السيادة الكاملة على أراضيها، ويسلم ضمنيا بالنفوذ الإسرائيلى الذى يتطلب ترتيبات خاصة. 

فبدلا من تأكيد حق سوريا فى استعادة الجولان المحتل وتعزيز قدراتها الدفاعية، ستقرأ إسرائيل مثل هذه الاتفاقية على أنها موافقة سورية على نظام أمنى خاص للجنوب، ما قد يمهد الطريق لحدود فعلية جديدة تفصل المنطقة عن بقية البلاد، فضلا عن الوجود العسكرى الإسرائيلى المباشر على جبل الشيخ.

يحمل الاتفاق أيضًا مخاطر أمنية طويلة المدى، لأنه سينزع سلاح جزء كبير من الأراضى السورية، مما يتركها عرضة للتوغلات والاعتداءات الإسرائيلية المستقبلية. 

ومن شأن قبول مقترح المنطقة العازلة أن يرهن الجنوب بمعادلة غير متكافئة لسنوات قادمة، ما يضعف موقف سوريا التفاوضى تجاه الاحتلال فى أى محادثات مستقبلية حول استعادة مرتفعات الجولان.

الطريق الوحيد

فى ضوء هذه المعطيات.. لا طريق آخر إلا أن تبقى أى ترتيبات أمنية تبرمها سوريا مع إسرائيل ضمن إطار اتفاقية فك الارتباط لعام 1974، دون تقديم اعتراف سياسى، ضمنى أو صريح، بالنفوذ الإسرائيلي. 

ولا سبيل إلا أن تحافظ سوريا على موقف مبدئى لا يسمح لها بالتنازل عن حقوقها تحت الضغط، والامتناع عن توقيع أى اتفاقية تقوض أمن سوريا وسيادتها وسلامة أراضيها، والتأكيد على ضرورة العودة إلى استشارة الشعب السورى من خلال استفتاء أو التصديق عليها من خلال برلمان منتخب، لا أن يحدد مصير سوريا فصائل إرهابية.



وبغير هذا.. سنكون أمام اتفاق بين من لا يملك (الجولاني) ومن «يسحق» الأراضى السورية (نتنياهو)!.