جهاز استخباراتى إسرائيلى لتصفية الخصوم
«نيلى» الوريث الجديد لاغتيالات الموساد

آلاء البدرى
فى تحول استراتيجى واضح، اضطرت إسرائيل لإعادة تفعيل سياسة الاغتيالات عن طريق الموساد والشاباك بعد الانكشاف الأمنى الكبير الذى تعرضت له منظومتها العسكرية والأمنية، وذلك فى محاولة لتوجيه رسائل ردع للخارج، رغم ما يحمله ذلك من مخاطر دبلوماسية وأمنية كبيرة.
الوحدة نيلى
فى أعقاب عملية طوفان الأقصى التى نفّذتها كتائب القسام فى 7 أكتوبر 2023، أعلن جهاز الأمن العام الإسرائيلى (الشاباك) عن تشكيل وحدة خاصة تحمل اسم «نتسح يسرائيل لا يشكر»، وهى عبارة عبرية تعنى «أبدية إسرائيل لن تكذب»، ومستوحاة من سِفْر صموئيل، ويختصر اسمها بـ«نيلى»، وتتمثل مهمتها الأساسية فى تعقب وتصفية عناصر النخبة الذين شاركوا فى العملية سواء داخل الأراضى الفلسطينية أو خارجها، بما فى ذلك الدول التى يقيم فيها قادة حماس مثل قطر وتركيا.
وتعمل «نيلى» بشكل مستقل عن باقى وحدات القيادة والسيطرة، وتتمتع بصلاحيات واسعة لتنفيذ عمليات اغتيال دون الرجوع إلى القيادة العليا، فى إطار ما يُعرَف بـسلطة التفويض، مما يجعلها واحدة من أخطر التشكيلات الأمنية التى ظهرت فى سياق التصعيد الإسرائيلى ضد قطاع غزة.
وتُعَد هذه الوحدة امتدادًا مباشرًا لسياسات الاغتيال التى انتهجتها إسرائيل تاريخيًا مثل عملية «غضب الرب»، التى استهدفت قادة منظمة «أيلول الأسود» فى السبعينيات.
واختيار اسم نيلى يحمل دلالات رمزية وتاريخية؛ إذ يعود إلى شبكة تجسُّس يهودية تأسّست خلال الحرب العالمية الأولى فى فلسطين، وكانت مهمتها جمع المعلومات الاستخباراتية وتهريبها إلى القوات البريطانية ضد الدولة العثمانية، قبل أن يتم اكتشاف أمرها عام 1917.
استخدام هذا الاسم لوحدة اغتيالات حديثة، يعكس رغبة إسرائيل فى ربط عملياتها الأمنية الحالية برموز تاريخية تحمل طابعًا قوميًا وتبريرًا أخلاقيًا؛ وبخاصة فى ظل السعى لتأطير رواية 7 أكتوبر كحدث مؤسِّس للصراع، لا مجرد حلقة فيه.
وتضم نيلى عناصر استخباراتية ومدنية تعمل وفق تنظيم خاص، يتيح لها تنفيذ مهامها دون الالتزام بإطار زمنى محدد، أو العودة إلى المستويات القيادية العليا، وقد وصفت بأنها وحدة ذات طاقم قيادى متقدم، وتنفذ عملياتها بسرية تامة، مما يؤكد على أن إسرائيل تسعى لإعادة تعريف قواعد الاشتباك عبر أدوات استخباراتية وعملياتية، تحمل طابعًا انتقاميًا واستراتيجيًا فى آن واحد.
نجاحات محدودة
تعمل الوحدة الإسرائيلية الوليدة تحت إشراف «الشاباك»، وبالتنسيق مع جهاز «الموساد»، ويشاع أن عناصر من وحدة «كيدون»- المتخصصة فى الاغتيالات- تشارك فيها أيضًا، مما يؤكد تورط الوحدة فى عمليات غزة والضفة الغربية ولبنان وتركيا وقطر وحتى إيران؛ وفقًا لتصريحات مسربة لرئيس الشاباك السابق رونين بار، الذى أشار إلى أن العمليات قد تستغرق سنوات.
ونسبت للوحدة عدة عمليات اغتيال أبرزها فى قطاع غزة؛ حيث أعلنت إسرائيل تصفية بلال القدرة، قائد كتيبة خان يونس، وعلى قاضى، فى ضربات جوية، بعد تقديم معلومات مؤكدة من الوحدة.
وفى لبنان وقطر لم تسجل عمليات اغتيال مؤكدة، لكنّ هناك نشاطا استخباراتيًا مكثفًا، يعتقد أن نيلى جزء منه ضمن جهود تعقب قادة حماس فى الخارج.
وفى إيران لم تذكر عمليات محددة باسم الوحدة، إلا أن محللين أشاروا إلى احتمال دمج عمليات الموساد معها لاستهداف شخصيات داعمة للمقاومة الفلسطينية.
وتثير عمليات الوحدة جدلًا داخل إسرائيل، وحسب الصحفى يوسى ميلمان؛ فإن سياسة الاغتيالات لا تقدم حلولًا حقيقية؛ بل تعكس محاولة فاشلة لاستعادة الهيبة الأمنية بعد الفشل فى منع هجوم 7 أكتوبر، كما أشارت تقارير أخرى إلى أن الحديث المتكرر عن نجاحات نيلى الوهمية يخدم أهدافًا دعائية لطمأنة الجمهور الإسرائيلى، أكثر من كونه يعكس نجاحات ميدانية.
وقد وصف زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد الحكومة بأنها مزيج من اللامسئولية والغطرسة.. داعيًا إلى تغييرها بسبب فشل كثير من عمليات الاغتيال.
اغتيالات وهمية
رغم الضجة الإعلامية التى أثيرت حول الوحدة منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة؛ فإن أداءها كشف عن إخفاقات كبيرة وفشل واضح، فالوحدة التى شكلت خصيصًا لتعقب واغتيال عناصر النخبة فى كتائب القسام؛ خصوصًا أولئك الذين شاركوا فى عملية طوفان الأقصى، لم تنجح فى تنفيذ عمليات نوعية مؤثرة؛ بل نسبت لنفسها إنجازات تبين لاحقًا أنها غير دقيقة أو زائفة، وظهرت الادعاءات الكاذبة للعلن بعد التوصل إلى اتفاق تبادل الأسرى والمحتجزين ووقف إطلاق النار؛ حيث ظهرت مَشاهد واسعة لتواجد عناصر وقيادات من كتائب القسام، بما فى ذلك وحدات النخبة والظل التى سبق للاحتلال أن أعلن القضاء عليها.
ومن أبرز مظاهر فشل الوحدة إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلى فى ديسمبر 2023 اغتيال هيثم الحواجرى، قائد كتيبة الشاطئ التابعة لكتائب القسام، قبل أن يقر لاحقًا فى بيان رسمى للمتحدث العسكرى دانيال هاجارى بفشل العملية، وعدم تحقيق الهدف، كما ظهر حسين فياض قائد كتيبة بيت حانون فى مقطع فيديو بعد ثمانية أشهر من إعلان جيش الاحتلال اغتياله، وهو ما فضح زيف الرواية الإسرائيلية.
وفى سبتمبر 2024 أعلن الاحتلال نجاح عملية مشتركة بين الشاباك والجيش فى تصفية محمود حمدان، قائد كتيبة تل السلطان، واحتفى بالعملية باعتبارها ضربة قاصمة للجناح العسكرى لحماس، لكن الحركة لم تعلق حينها لتصدر بعد شهر بيانًا تنعى فيه حمدان، وتؤكد استشهاده فى معركة حى تل السلطان، برفقة رئيس المكتب السياسى للحركة يحيى السنوار، ما يعنى أن العملية لم تكن ناجحة كما ادعى الاحتلال.
وعلى مدار شهور الحرب استمرت المنظومة الأمنية والسياسية الإسرائيلية، فى الترويج لرواية تفكيك كتائب القسام وتحولها من تشكيلات نظامية إلى مجموعات عشوائية، وهى رواية كذبتها الوقائع الميدانية؛ خصوصًا خلال مراسم تسليم الأسرى التى أظهرت انضباطًا تنظيميًا واضحًاووجودًا فعالًا للكتائب، هذه الإخفاقات المتكررة إلى جانب البيانات الكاذبة كشفت عن ثغرات كبيرة فى أداء وحدة نيلى التى روج لها كأداة حاسمة فى الحرب.
«نيلى» الوجه الأمنى لـ «هاسبراه»
نيلى ليست مجرد وحدة اغتيالات؛ بل جزء من منظومة دعائية متكاملة تستخدم لتغليف السياسات الأمنية الإسرائيلية بغلاف أخلاقى وتاريخى، وتروج عبر أدوات رقمية عالمية فى معركة لا تخاض فقط بالسلاح، لكن بالكلمة والصورة والخوارزمية.
وتشكيل نيلى بالتزامُن مع انطلاق حملات «الهاسبراه الدعائية الضخمة» التى تمولها إسرائيل عبر شركات عالمية مثل جوجل وميتا بمنصاتها المختلفة، لم تكن من قبيل الصدفة؛ بل هو تخطيط دنىء لنشر روايات رسمية كاذبة وتضييق الخناق على المحتوى الفلسطينى، وحذف أو تقييد الحسابات التى توثق جرائم الحرب فى غزة، وتبرير للعمليات العسكرية بما فيها الاغتيالات التى تنفذها وحدات الشاباك والموساد داخل الأراضى الفلسطينية المحتلة أو خارجها، وتبرير السياسات الإسرائيلية وتقديمها بصورة إيجابية أمام الرأى العام العالمى.. هذه الوحدة لا تعمل فقط كأداة أمنية ميدانية؛ بل توظف أيضًا كرمز دعائى ضمن استراتيجية متكاملة تسعى إسرائيل من خلالها إلى إعادة صياغة سردية الصراع.
والربط بين نيلى والهاسبراه لا يقتصر على الترويج الإعلامى؛ بل يمتد إلى البعد الرمزى؛ حيث اختير اسم الوحدة من شبكة تجسُّس يهودية تاريخية فى محاولة فاشلة لإضفاء شرعية تاريخية على عمليات الاغتيال الحديثة، ويخدم سردية الهاسبراه التى تسعى إلى تصوير إسرائيل أنها صاحبة الأرض، وأن الاغتيالات ما هى إلا امتداد لمحاولات تحرر تاريخية، فى مقابل تصوير المقاومة الفلسطينية كمغتصب وإرهابى.