قرن من الخيانة
قرار فى يد الشعب المصالحة المستحيلة

ماهر فرغلى
لم يحدث مرة أن تفاوضت أجهزة الدولة المصرية وجهًا لوجه فيما يطلق عليه الإخوان (المصالحة) وهى التى تسوى بين تنظيم مدرج على قوائم الإرهاب ودولة بحجم مصر، لكن لم تقف فى ذات الوقت دعوات الترويج والدعاية خاصة خلال الفترة الماضية، بأن هناك (مصالحة مقبلة) وأن هناك قوائم معدة للإفراج عنها، وهو ما نفته الداخلية جملة وتفصيلاً لأسباب تتناولها هذه السطور.
بدأ حديث الجماعة عن المصالحة يأخذ منحى أكثر وضوحاً، بدءاً من مبادرة كمال الهلباوى القيادى الإخوانى التى تبناها إبراهيم منير، فى مطلع أغسطس 2018، وحتى عام 2021، حيث بلغت هذه المبادرات 11 دعوة للمصالحة قام بها قيادات ومقربون من الجماعة، وكان رد الدولة واضحًا واضحاً وهو: «قرار المصالحة فى يد الشعب»، وفى سبتمبر 2015، أكد الرئيس السيسى فى حوار له مع وكالة «أسوشيتد برس» الأمريكية، أن جماعة الإخوان أزمتها مع الشعب المصري، وليست مع النظام أو الحكومة، قائلا: «الجماعة قدمت خلال العامين الماضيين انطباعًا للشعب من الصعب نسيانه لما قاموا به من أعمال شغب وعنف».
وفى أكتوبر 2017، خلال مؤتمر الشباب بشرم الشيخ، علق الرئيس على إمكانية المصالحة مع جماعة الإخوان حاليًا، قائلا: «أنا أكتر واحد أتحت لهم فرصة فى 3-7، والبيان الذى تم إصداره (خارطة الطريق) كان متزنًا للغاية، وأنا مش طالب من حد يغير أفكاره علشانى، أنا بقبل كل الأفكار، لكن مارسوا أفكاركم دون ما تهدوا بلدكم»، وفى 2021 تحدث عن عدم إجبار أحد على ترك أفكاره طالما لا يجبر الآخرين.
إذن الخلاصة أن الرؤية المصرية للدولة العتيقة أن الإخوان موظفون رسميون عن أجهزة معادية للدولة، وبان هذا مؤخرا عقب أحداث غزة، وأنهم تقاضوا تمويلات كثيرة، وصنعوا إعلاماً مضاداً، لذا فموضوع المصالحة مرفوض جملة وتفصيلاً من أجهزة الدولة، لكن لما وقعت أحداث غزة رأت الجماعة أن الوقت حان لإطلاق الدعوات للمصالحة، المصاحبة بضغوط حصار السفارات والمظاهرات والدعاية الكاذبة حول منع المساعدات الإنسانية عن الفلسطينيين، مما سيسهل استعداد البعض لـ«التوسط» فى مصالحة أو طرح أفكار لها هى فى مجملها نفس المطالب الخاصة بالإفراج عن محكومين، وإرجاع إرهابيين هاربين خارج البلاد.
وتستهدف الإخوان من حملتها تحقيق عدة أهداف: أولًا: إرسال رسالة لأتباعها أو غيرهم أنها قوة أمام قوة النظام، يجب أن تجلس معه وجهاً لوجه.
وثانيًا: الاستجابة لشبابها الضاغطين على القيادات لحل مشكلة ملف المساجين.
ثالثًا: توفيق أوضاع الجماعة الحريصة على ألا تخرج منها دعوات للتراجع وقبول وجودها مرة أخرى.
وبناء عليه تنطلق أحاديث المصالحة من 3 نواحٍ، الأولى من متحالفين وشركاء ومتعاطفين مع الجماعة سواء من الجماعات أو الكيانات والشخصيات المستقلة، أو من منشقين بالفعل تنظيميًا أو فكريًا داخل السجون بفعل سنوات الحبس الطويلة، أو من إعلام الجماعة المكلف بالدعوة لهذا الغرض.
وهناك سبب مهم لإطلاق دعوات المصالحة، وهو أزمة الانشقاقات الإخوانية، التى طفت بوضوح بسبب مشكلات تتعلق بالصف الإخواني، ومن يقود ومن يسيطر على الأموال، واختلف الشباب وبعض فى الداخل فى ظل عدم القدرة على سيطرة طرف على آخر، ما أدى إلى وجود أزمة تتعلق فى الملاذات وإيواء طرف ودعمه على حساب آخر والأهم هو الولاء وتحول البعض إلى أفكار حرس الجماعة الجديد، والتبنى لما يسمى (العنف الثورى)، وكانت دعوات المصالحة مهمة لإشغال عناصر الجماعة ورفع معنوياتهم.
لقد تفاقمت أزمة الجماعة مع مرور السنوات، وأصبحت هناك منعطفات ضاغطة عليها، أهمها: الانشقاقات الحاصلة داخل السجون وتقديم العديد من الشباب مشاريع وكتابات ورسائل للمراجعات، وضغطهم المتواصل على الجماعة، لدرجة أنهم عرضوا الخروج على الشاشات وإعلان بيعتهم للدولة والنظام. انقسام الجماعة إلى ثلاث فرق متصارعة وهى: الحرس القديم، الحرس الجديد، فريق ضد الاثنين معًا.
إذن فبفعل المشكلات وانخفاض المعنويات، وكذا لتقيم أى عمل للممول يتم إطلاق دعوات المصالحة، وعلى سبيل المثال فإنه وفق مصادر فقد تم نقل صلاح عبد الحق إلى تركيا للسيطرة على الجماعة، وأصدر بعد وصوله فى سبتمبر 2022 ما أطلق عليه (وثيقة الأولويات)، وهى ورقات جاءت ردًا على استراتيجية وضعها جناح الجماعة الآخر (المكتب العام) تتحدث عن استراتيجيات ثورية دائمة، وعدم التخلى عن الصراع عن السلطة، والتمسك بالمواجهة واعتبارها حتميات شرعية وتاريخية.
وكان من أجل نجاح تلك الجهود العمل وفق الخطة التالية:
(1) إعادة هيكلة الإعلام الإخوانى.
(2) العمل عن طريق عناصر فى الخارج أولًا ثم الداخل ثانيًا لترويج أزمات الجماعة فى تركيا والتضخيم منها، وأن الجماعة محاصرة وتطارد، وأن عناصرها ينتقلون لدول أخرى.
(3) التضخيم من حجم الانشقاقات بين أجنحة الإخوان.
(4) العمل مع عناصر معارضة لا تتبع التنظيم مثل (أيمن نور) للدعوة للمصالحة، وهو ما جرى بالفعل.
(5) العمل على إغراق المتابعين بأن تلك الجهود هى من تخطيط الدولة وليس الجماعة، وأن كل ما يحصل يحوز رضا النظام المصرى، وأنه من الخطورة مجابهة المصالحة المقبلة، والعناصر الداعمة لها.
(6) الترويج لما يسمى مراجعات داخل السجون، والتى أعلن عنها فى 2022 برسالة مسربة من سجن الفيوم وقّع عليها 300 سجين إخوانى، دعوا فيها التنظيم للتراجع خطوات للوراء، وأنهم نظموا ورش عمل ومنتديات فكرية وسياسية لبحث الأمر، وهو ما لم يحصل مطلقًا.
ونقلت بعض العناصر أن خطة الجماعة تقضى بأن يتم إطلاق الدعوة للمصالحة قبل أحداث غزة فى السابع من أكتوبر، إلا أن ما جرى أخّر تلك العملية، وأن هذا كان سيتم بالتوافق مع حملة إعلامية يتم فيها نشر فيديوهات وتوقيعات من السجون... إلخ من أجل الضغط على الدولة وإجبارها على مناقشة أمر المصالحة.
اختارت الجماعة فى البداية ماجد عبدالله لطرح الأمر على قناته الخاصة، ثم مناقشة ما حصل بقناة الشرق، ولما حدث رد فعل من الداخلية المصرية فى بيان رسمى استنكرت فيه أحاديث المراجعة بالسجون وكذّبتها، صمت المروجون، وخرج حلمى الجزار ببيان أنكر فيه ما جرى، وقال إنه لم يقل له إن الجماعة ستتخلى عن العمل السياسى. وكما قلنا إن الحديث مجددًا عن المصالحة، مقصود به إعادة الجماعة للضوء، وتوفيق أوضاعها الحريصة على ألا تخرج منها دعوات للتراجع وقبول وجودها مرة أخرى.
ويرى البعض أن معنى المصالحة المقصود هو المراجعة لكل الأخطاء والاعتراف بكل وضوح بذلك، وهنا تبقى الدولة هى المحتضنة فيما بعد للمخطئين، وآخرون يرون أن المصالحة هى حل التنظيم جملة وتفصيلاً، لكن المصالحة كما بدت مؤخرًا هى القبول بالجماعة والإفراج عن مسجونيها!، وهو ما يثبت أن الإخوان تعانى أزمة مزدوجة غير مسبوقة ذاتية وموضوعية، على الصعيدين الداخلى المتعلق بإدارة التكيّف الأيديولوجى والتنظيمى، والخارجى المتعلق بتدبير العلاقة مع الدولة التى انتصرت، أما الجماعة فهى من عانت الضعف والتراجع والانقسام، وأصبحت رهينة أزمتها الذاتية الأيديولوجية والتنظيمية، ومصالحتها مستحيلة.