الجمعة 19 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

تصدع المحاور الإقليمية وارتباك واشنطن

الرابحون والخاسرون فى لعبة توازنـات الشرق الأوسط

فى لحظة واحدة بدت المنطقة وكأنها على صفيح ساخن، ضربة إسرائيلية مركزة تطيح برأس حكومة الحوثيين فى صنعاء، وانفجار الغضب فى حى الزيتون بعد قرارات نتنياهو التى فجرت الشارع الإسرائيلى، وصولًا إلى زيارة وفد من الكونجرس الأمريكى إلى رفح، حيث انهارت رواية «المساعدات الإنسانية» التى حاولت تل أبيب تسويقها للعالم.



 

سلسلة من الأحداث المتلاحقة تظهر ليس مجرد تصعيد عسكرى أو سياسى، بل تحولات أعمق فى بنية الصراع الإقليمى، حيث لم يعد بالإمكان عزل الجبهات عن بعضها البعض؛ فما يجرى فى البحر الأحمر ينعكس على غزة، وما يهتز فى شوارع تل أبيب يجد صداه فى ممرات واشنطن السياسية، ومن هنا يمكن تقسيم الأحداث وتبعتها على أربع محاور ربما توضح لنا ماآلت له الأوضاع فى غليان الشرق الأوسط.

المحور الأول: رسائل تتجاوز الحوثيين

الضربة الإسرائيلية فى صنعاء مثلت نقطة مفصلية. فبحسب تحليل نشرته صحيفة «واشنطن بوست» أوضح أن اغتيال أحمد غالب الرهوى، رئيس وزراء الحوثيين، لم يكن هدفه إضعاف جماعة مسلحة بقدر ما كان رسالة مزدوجة إلى إيران والمحور الداعم لها.

فإسرائيل، التى أخفقت فى غزة واصطدمت بصلابة حزب الله فى لبنان، أرادت أن تثبت قدرتها على الوصول إلى «العمق البعيد» وإلى عاصمة يفترض أنها بمنأى عن صواريخها وطائراتها المسيرة. وهنا يقول مايكل نايتس، الباحث فى معهد «واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، إن العملية تمثل تحولًا واضحًا من ضرب القدرات العسكرية إلى استهداف الرموز السياسية، بما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الصراع حيث يصبح رأس القيادة هدفًا مباشرًا.

لكن الحوثيين، وكما أشار، تشاتام هاوس، ليسوا مجرد مجموعة مقاتلين يمكن تحييدها بضربة، بل حركة متجذرة فى بيئة اجتماعية وعقائدية تسمح لها بالاستمرار رغم الخسائر.

المحور الثانى: نتنياهو فى مواجهة الشارع الإسرائيلى

وفى الداخل الإسرائيلى، لم تكن الساحة أقل اضطرابًا، فقرارات نتنياهو المتعلقة بعمليات حى الزيتون فى غزة فجرت موجة غضب غير مسبوقة داخل إسرائيل نفسها، حيث خرج آلاف المحتجين يرفعون لافتات «الحرب بلا نهاية»، فى مشهد وصفته صحيفة «هآرتس» العبرية، بأنه «لحظة تآكل شرعية القيادة».

 أكدت القاهرة أن عدم تجاوب إسرائيل حتى الآن مع الصفقة المطروحة من مصر وقطر فى إطار جهود التوصل لوقف إطلاق النار فى قطاع غزة يعكس غيابا كاملا للإرادة الإسرائيلية فى خفض التصعيد وإحلال الهدوء والسلام، ووجود نوايا واضحة للاستمرار فى العدوان على الأبرياء فى قطاع غزة، وهو ما يهدد بمضاعفة العواقب الكارثية الوخيمة على الوضع الإنسانى فى غزة، ولا سيما فى ظل سياسات التجويع والحصار التى ينتهجها الاحتلال الإسرائيلى ضد المدنيين العزل فى القطاع.

المحور الثالث: سقوط سردية المساعدات

الانقسام الإسرائيلى ألقى بظلاله على علاقات نتنياهو مع واشنطن. فبينما يسعى إلى الحفاظ على دعم غير مشروط من إدارة ترامب، يجد نفسه أمام مشهد سياسى أمريكى أكثر تعقيدًا، خصوصًا بعد زيارة وفد من الكونجرس الأمريكى إلى رفح. تلك الزيارة التى كانت، فى ظاهرها، جولة تفقدية للمساعدات الإنسانية، تحولت إلى فضيحة دبلوماسية، بعدما اكتشف المشرعون أن «الممرات الإنسانية» الإسرائيلية لم تكن سوى دعاية سياسية لا تصمد أمام صور الجوع والدمار. مجلة «Foreign Policy» الأمريكية، نقلت عن أحد المساعدين فى الكونجرس قوله إن «إسرائيل تحاول بيع وهم إنسانى، لكن الصور القادمة من رفح أقوى من أى بروباجندا إسرائيلية».

 

هذه اللحظة وضعت الإدارة الأمريكية فى مأزق داخلى، إذ لم يعد من الممكن التوفيق بين الخطاب السياسى فى واشنطن الذى يتحدث عن «دعم حليف فى وجه الإرهاب»، وبين الحقائق على الأرض التى تظهر كوارث إنسانية.

المحور الرابع: واشنطن بين الضغوط والتوازنات 

فى هذا السياق، تبدو واشنطن وكأنها تتخبط بين خيارين كلاهما مكلف: إما استمرار الدعم المطلق لإسرائيل بما يحمله من ثمن سياسى داخلى ودبلوماسى خارجى، أو مراجعة تكتيكية قد تفسر كعلامة ضعف وتراجع. 

ريتشارد هاس، الرئيس السابق لمجلس العلاقات الخارجية، يرى أن ترامب يواجه «خطر الانكشاف»، إذ وعد بإنهاء حرب أوكرانيا وإعادة الاستقرار للشرق الأوسط، لكنه يجد نفسه اليوم محاصرًا بجبهات مفتوحة من كييف إلى غزة وصنعاء. أما مؤسسة RAND البحثية، فحذرت من أن «تراجع واشنطن الآن سيُقرأ كدعوة مفتوحة لإيران وحلفائها لملء الفراغ».

الولايات المتحدة – التى وعد رئيسها دونالد ترامب أن يعيد لها مكانتها وهيبتها – وجدت نفسها أمام اختبار قاسٍ. فهى من جهة مطالبة بحماية إسرائيل وتقديم الدعم العسكرى والسياسى لها فى حرب غزة، ومن جهة ثانية مطالبة بضمان أمن الملاحة فى البحر الأحمر، حيث تهدد هجمات الحوثيين واحدًا من أهم الممرات التجارية العالمية.

التحدى المزدوج كشف هشاشة الوعود الأمريكية: ترامب كان قد تعهد بإنهاء حرب أوكرانيا فى أيام، لكن الواقع ألقى بواشنطن فى مواجهة جديدة فى غزة وصنعاء، بينما الحرب فى أوروبا ما زالت مفتوحة. النتيجة أن صورة «أمريكا المنقذة» تتآكل تدريجيًا، وأن خصومها – من موسكو إلى طهران – يجدون فى هذه الفوضى فرصة لتوسيع هامش المناورة.

الرابحون والخاسرون

مع هذا التشابك، يطرح السؤال الأكبر نفسه: من الرابح ومن الخاسر فى هذه الظروف المضطربة؟

إسرائيل تبدو محاصرة أكثر من أى وقت مضى؛ فهى عاجزة عن فرض حسم عسكرى فى غزة، ومهددة بخنق بحرى فى البحر الأحمر.

واشنطن تواجه مأزقًا فى إدارة جبهتين فى آن واحد، ما يضعف قدرتها على فرض إيقاعها المعتاد فى المنطقة.

الحوثيون خرجوا من كونهم ميليشيا محلية إلى فاعل إقليمى مؤثر، يربك الملاحة ويستدعى ردود فعل دولية.

مصر عززت مكانتها كقوة إقليمية ضامنة، برفضها القاطع للتوسعات الإسرائيلية، ما يجعلها رقمًا لا يمكن تجاوزه فى أى معادلة مستقبلية.

أما إيران، فهى المستفيد الأكبر من هذا التشابك: فكلما ضعفت واشنطن وتعثرت إسرائيل، بدا نفوذها فى المنطقة أكثر رسوخًا.

وفى النهاية، يبدو أن الصراع لم يعد حول غزة وحدها أو اليمن وحده، بل حول مستقبل المنطقة بأسرها. فشرق المتوسط يتشابك مع البحر الأحمر، والمقاومة فى غزة تلتقى مع التصعيد فى صنعاء، فيما واشنطن تحاول جاهدة ألا تخسر أوراقها كلها دفعة واحدة.

لكن الثابت أن اللعبة تغيرت، وأن الخريطة ترسم الآن بمداد الدم والنار، وأن أى تسوية مقبلة لن تكتب بعيدًا عن القاهرة، ولن تمر من دون حساب حسابات الحوثيين، ولن تستقر إلا إذا وجدت واشنطن طريقة لإعادة التوازن بين وعودها وواقعها.

السؤال الذى يظل معلقًا فوق المشهد: هل نحن أمام تصعيد إقليمى يقود إلى مواجهة مفتوحة، أم أن ثقل الأزمات الداخلية فى إسرائيل وواشنطن سيدفع الأطراف إلى قبول «هدنة اضطرارية»؟ 

لا أحد يملك الإجابة الآن، لكن المؤكد أن كل ضربة فى صنعاء، وكل مظاهرة فى تل أبيب، وكل خيمة لجوء فى رفح، صارت خيوطًا فى نسيج واحد، يربط المنطقة كلها فى مصير مشترك لم يعد أحد قادرًا على الفكاك منه.