
نبيل عمر
تل أبيب تحلــــم!
لا أظن مواطنًا فى العالم العربى كان يتصور أن أطماع إسرائيل فى التوسع تمتد إلى السعودية أيضًا، كلنا كنا أسرى صورة تقليدية عن وهم إسرائيل الكبرى، والتى رسم الصهاينة حدودها من قديم الأزل، من النيل إلى الفرات، أى كانت أرض شبه الجزيرة العربية خارج هذه الصورة، حتى حين كتب «دينيس آفى ليبكن» اليهودى الإنجيلى كتابه «العودة إلى مكة» فى عام 2012، لم يلق اهتمامًا كبيرًا من الدول الإسلامية ومنظماتها ولا من السعودية نفسها، إلا فى ردود هاجمت الكتاب وصاحبه، على أساس أنها أفكار شاذة متطرفة، ليست من «التراث التلمودى» الشائع، الذى يحفظه كثير من اليهود، ويعملون على تحقيقه بمساعدة القوة العظمى فى العالم.
نعم كان المسلمون يتصورون أن المقدسات الإسلامية فى أرض الحرمين بعيدة تمامًا عن أوهام بنى إسرائيل، سواء اكتفوا بالسطو على أرض فلسطين أو تمددوا خارجها!
لكن المسلمين والعرب كانوا هم الخاطئين، وانكشفت خطيئتهم حين رفع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو القناع عن الفكرة، وقال فى لحظة اعتراف نادرة إنه يحلم بأن يرى إسرائيل الكبرى فى حياته!
ونتنياهو من مواليد أكتوبر 1949، أى فى الخامسة والسبعين من عمره، فمتى يعيش لحظة إسرائيل الكبرى؟، إنه ببساطة يخبرنا أنه سيعمل بكل طاقته على هذا الحلم خلال السنوات القليلة القادمة، أى قبل أن يرحل عن عالمنا!
سواء ظن البعض أن كلامه كان عاطفيًا حماسيًا يسترد به بعضًا من هيبته، أم ظنه تهديدًا لقبول تهجير أهل غزة، فيجب أن نضعه فى الحسبان، وندرك أن الخطر يحلق فى فضاء العرب ويحوم حول مقدسات المسلمين فى أرض الحرمين، لأن الفكرة كامنة فى جحر العقل الصهيونى وتغذى خياله طول الوقت، وما كتبه «دينيس آفى ليبكن»، لم تكن مجرد أفكار صهيونى متعصب، بل هى جزء من التكوين النفسى لبنى إسرائيل ورؤيتهم لنا!
وليبكن صهيونى قح، من مواليد نيويورك، هاجر إلى إسرائيل فى عام 1968 وهو فى التاسعة عشرة، وجند بالجيش الإسرائيلى وصار متحدثًا باسمه، وتصفه كل المصادر بأنه «معادٍ للإسلام»، دون أن تدينه، فمعاداة الإسلام عمل مشروع ومعاداة السامية جريمة فى قوانين «الغرب المتحضر»، له خمسة كتب قبل « العودة إلى مكة»، ثلاثة منها تحت اسم مستعار فيكتور موردخاى، لأسباب أمنية كما زعم، هل يشكل الإسلام المتعصب تهديدًا عالميًا؟، إحياء مسيحى من أجل بقاء إسرائيل، تقيمات حديثة للتهديد الإسلامى، وهو حاليًا يجوب كنائس الصهيونية الإنجيلية فى كثير من الدول، ويحاضر فيها عن نهاية العالم ومعركة هرمجدون ويقول فى فيديو أذاعه على شبكات التواصل الاجتماعى ونشره موقع ميدل إيست مونيتور فى 11 يناير 2024 ينتمى معظم الشرق الأوسط إلى إسرائيل، حدودنا ستمتد فى نهاية الأمر، من لبنان والصحراء الكبرى فى العربية السعودية، ومن البحر الأبيض إلى الفرات، أعتقد أننا سنأخذ مكة والمدينة وسيناء، ونطهر هذه الأماكن كلها!
إذًا أطماع إسرائيل لا حدود لها، تتجاوز فلسطين والمسجد الأقصى إلى المسجد الحرام فى مكة والمسجد النبوى فى المدينة، وهو ما شرحه بالتفصيل فى كتابه «العودة إلى مكة»، ويتوسط الغلاف أسفل العنوان مباشرة التفلين اليهودى، وهو مكعب أسود مربوط بخيط أو حزام يضعه المتدينون اليهود على جباههم، ثم صورة الكعبة المشرفة.
الكتاب يزعم أن بنى إسرائيل حين ضاعوا فى التيه أربعين عاما كانوا فى شبة الجزيرة العربية، وأن الجبل الذى كلم الله موسى عليه هو جبل اللوز فى تبوك، وليس جبل موسى فى سيناء، ويدعو إلى تحالف مسيحى صهيونى لاحتلال السعودية وتقسيمها وأخذ الكعبة ومنع المسلمين عنها!
ويقول: الإسرائيليون هم السكان الأصليون لجزيرة العرب، وعليهم استعادة أرض بنى إسرائيل، فالسعودية والجزيرة العربية كلها ما هما إلا جزء من الأرض الموعودة، والله وعدنا فى التوراة بأن سيمدد حدود بنى إسرائيل من لبنان إلى أرض العرب.
وراح ليبكن يفسر نصوصًا من التوراة ليؤكد بها فكرته!
وكعادة بنى إسرائيل فى زراعة الفتن والقلاقل، يوصى الكتاب باستغلال الصراع السنى الشيعى، وتوظيف العقائد الشيعية التى تحث أتباعها على استعادة مكة والمدينة من أهل السنة، مقترحًا الاستفادة من الحركة الحوثية فى استهدافها الأراضى السعودية، طبعًا اقتراحه كان قبل طوفان الأقصى فى 7 أكتوبر 2023، وانحياز الحوثيين إلى حماس ضد الإبادة الإسرائيلية، بإطلاق صواريخهم على إيلات وبعض مدن الداخل الإسرائيلى.
ونلاحظ أن كتاب «العودة إلى مكة» صدر بعد ما سماه الغرب ثورات الربيع العربى بشهور، وهى ثورات انتهت فقط إلى تفتيت اليمن وسوريا وليبيا، وصنعت اضطرابات واسعة فى تونس ومصر والسودان!
ولهذا حمل الكتاب أمنية خبيثة من كاتبه بأن يصل الربيع العربى إلى السعودية، كى تطلب النجدة من أمريكا وإسرائيل، وبالتالى يصبح احتلال مكة مجرد تحصيل حاصل!
وينصح الولايات المتحدة وإسرائيل بأن تستغلا التناقضات فى الجزيرة العربية لإشعال الفتن والاضطرابات، لينتهى فى كتابه إلى هدفه الذى يسعى إليه: أن نهاية مجد الإسلام باتت قريبة جدًا!
طبعًا كتاب ليبكن هو أشبه بأضغاث إحلام أو هلاوس مريض نفسى، وأقصد هنا التفاصيل التى أوردها والتفسيرات التى طار إليها، لكن بعد أن ننظف عقولنا من كل هذه الترهات تبقى الفكرة، والفكرة موجودة فى قلوب وعقول ملايين المتطرفين الصهاينة، حتى اعترف بها رئيس وزراء إسرائيل بملء إرادته الحرة دون إكراه!
نعم نحن أمام فكرة تمثل تهديدًا وجوديًا للعالم العربى، وتهديدًا لا يكف العدو الاستراتيجى عن الجهر بأنه سيعمل على تنفيذه على أرض الواقع سواء دخل فى سلام إبراهيمى أو لم يدخل، طبعًا قد نجد التنفيذ مستحيلًا لأسباب كثيرة، تتعلق بالنظام الدولى وليس بصداقة العرب مع الولايات المتحدة، وأيضًا بسكان المنطقة وما يقرب من مليارى مسلم وعلاقاتهم بدينهم ومقدساتهم، كما أن المناطق التى انتزعها دعاة إسرائيل الكبرى إلى خريطتها المتخيلة، مناطق شاسعة بعضها كثيف السكان، يتجاوز إجمالى عددهم مئة وخمسين مليون نسمة، أكبر من قدرة إسرائيل ومعها الولايات المتحدة على «طردهم» من هذه المناطق المعقدة جغرافيًا أيضًا.
لكن هذه الفكرة الخزعبلية تشى بأن حسابات بعض العرب الاستراتيجية عن «التهديد الأخطر» لدولهم ليس دقيقًا، إذا كانت المقارنة بين إيران وإسرائيل، طبعًا إيران خطر تاريخى له مطامع وله ذيول وجيوب داخلية، لكنه تهديد منفرد لا تسانده قوة عظمى ولا يقف معه الغرب، وإيران نفسها يتربص بها أعداء آخرون أقوياء، لكن إسرائيل تهديد فريد تدعمه الولايات المتحدة عسكريا واقتصاديا وسياسيا وخلفهما ست دول كبرى..
قد يتصور البعض أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تسمح بذلك، على العكس الولايات المتحدة لا تمانع فى الهيمنة الإسرائيلية، كانت تريدها سلميًا عن طريق الاتفاقات الإبراهيمية، أو بأى طريقة تنجح فيها إسرائيل، وترفع عن كاهلها التدخل المباشر فى الشرق الأوسط، وتتفرغ هى لإدارة صراعها الشرس مع الصين وروسيا، حتى تحسمه سلمًا أو عنفًا، فتحتفظ لنفسها بمقعد السيادة العالمى قرنًا إضافيًا!
العرب فى أشد الحاجة إلى تفكيك ما يحيط بهم من مخاطر وتهديدات بطريقة علمية منظمة، وأن يدرسوا كيف يعملون معًا ويتحركون كتلة واحدة تتجاوز حالة المنافسة الشرسة والتعاون الهش الحالية، وإلا وإلا.. لا داع للولولة، والأفضل أن يعيدوا قراءة تاريخ الحملات الصليبية لعلهم يجدوا فيها حلًا لهذا التهديد!