الإثنين 4 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
الثقافة.. وزارة بلا سياسات

مصر أولا.. تتبنى شعار امحى .. وابدأ

الثقافة.. وزارة بلا سياسات

فى تقديرى، أن غياب السياسات الثقافية الواضحة لا يندرج تحت عنوان الخلل الإدارى، لأنه يعد أحد أكثر التحديات خطورة فى بنية الدولة الحديثة، لأنه يعنى ببساطة شديدة أن المجتمع بلا بوصلة فكرية. الثقافة بالنسبة لى هى جوهر بناء عقل الإنسان وفكره، وهى ركيزة الأمن القومى غير المعلن. 



والثقافة ليست مجرد مظاهر ولا رفاهية. وحين تتحول الهيئات والمجالس الثقافية إلى مجرد كيانات بيروقراطية خاوية، دون رؤية أو استراتيجية وطنية، فإن حالة الفراغ هنا لا تبقى كما هى؛ بل يتم إحلالها بخطابات أصولية متشددة ومتطرفة.. تدفع بالمجتمع نحو مستنقع الفاشية الدينية.

جاوز الحديث المدى..

فى ظل غياب مؤشرات أداء واضحة، ومساءلة حقيقية، وتواصل مستمر بين الوزارة بكل كياناتها وبين المثقفين والمفكرين، يتحول عمل الوزارة ودورها إلى مجرد «وظيفة شرفية» تنتظر موازنات الدولة ودعمها، وتعيد إنتاج ما كان قبل ذلك تاريخيًا، بلا أثر أو مراجعة أو طموح. 

ورغم ذلك أؤكد بأن الأزمة لا تتعلق بشخص وزير الثقافة بقدر ما تتعلق بمنظومة فاقدة للرؤية والاستمرارية. 

لقد جاوز الحديث المدى، فهو حديث أكبر من الوزير، وأكبر من رئيس هيئة هنا أو هناك.

هويات قاتلة..

لا يمكن أن نتجاهل أنه فى ظل عالم سريع التغيير لدرجة أصبحت تعاد فيه صياغة الهويات والانتماءات والولاءات والمفاهيم.. أصبح من الضرورى أن تكون للدولة المصرية.. سياسة ثقافية واضحة، لا بوصفها آلية ترفيه أو وسيلة علاقات عامة، بل كأداة لبناء الوعى، وتدعيم الانتماء، وحماية العقل الجمعى من التضليل والتزييف والتوجيه. وبصراحة شديدة، فإن المشهد الثقافى المصرى الحالى.. يشهد حالة من التراجع الحاد، ليس بسبب نقص الموارد المالية والتمويل فقط، بل بالدرجة الأولى بسبب غياب الرؤية، وانعدام التخطيط، واستمرار العمل داخل «المربع صفر» وعدم القدرة على مغادرته. 

ثقافة المربع صفر..

كتبت قبل ذلك أن أحد أخطر جوانب الأزمة الثقافية هو تكرار البدايات، وغياب التراكم المؤسسى. 

فى كل مرة يتغير فيها وزير الثقافة، تبدأ الوزارة من الصفر، دون محاولة لفهم من سبق أو البناء على ما تحقق. 

وكأن وزارة الثقافة تتبنى شعار «أمحى.. وأبدأ».. وهى حالة لا تعرف مفاهيم التراكمية أو الانتقال الطبيعى الآمن للمسئوليات والالتزامات، وهو ما يجعلنى أؤكد أن غياب التقدير الحقيقى للموقف الثقافى.. يحول الثقافة من ملف وطنى إلى حالة فراغ سياسى، فلا سياسة دون ثقافة.

نتج عما سبق، أن تحولت كل مبادرة ثقافية إلى عرض فردى.. يعبر عن الرؤية الشخصية للمسؤول بشكل أكبر وأكثر مما يعكس رؤية مؤسسية أو استراتيجية وزارة. 

وهنا يبرز ما يمكننا أن نطلق عليه «الدولة المؤجلة ثقافيًا»، بعد أن فشلنا فى تحديد الإجابة عن سؤال محدد هو: ما الذى نريده من الثقافة؟ وما هى رؤيتنا المستقبلية لها؟ وما هو دورها فى المشروع الوطنى؟

جدران بلا روح..

لا أكتب عن أزمة غياب السياسات الثقافية من موقع الكاتب المحايد، بل من مرجعية الواقع الثقافى المؤلم. 

تحولت قصور الثقافة.. التى تأسست لنشر الوعى والفنون والمعرفة فى القرى والنجوع، إلى مؤسسات فارغة من المضمون، بل ومعزولة عن مجتمعها المحلى، والأسوأ أنه يتم إداراتها من خلال موظفين بيروقراطيين.. لا علاقة لهم بالثقافة، سوى المزيد من استنزاف موارد الدولة دون أثر يذكر.

الأزمة الأعمق هى حينما يفقد المواطن العادى.. الثقة فى مؤسسات الدولة الثقافية، ويصبح البديل هو اللاوعى والثقافة الافتراضية المزيفة، حيث تنتشر منصات وتطبيقات السوشيال ميديا المتعددة بما تقدمه من محتوى لا علاقة له بالثقافة.. فى ظل غياب تام للدولة عن معركة الوعى وصناعة الفكر. 

وهنا يتحول غياب السياسات الثقافية إلى جريمة وطنية ممتدة المفعول لسنوات مقبلة، جريمة لا تؤثر فقط على مستوى القراءة أو الترويج للفنون، بل تمتد لتضرب الوعى الجمعى، وتعيد صياغة سلوكه، وتشكك فى انتمائه.

ليست وزارة شرفية..

الثقافة هى جبهة الدفاع الأولى ضد التطرف والتعصب، وضد شيوع خطاب الكراهية، وضد تزييف التاريخ، وصناعة هوية وهمية. 

ولذا، فإن المشكلة العظمى هى مدى إدراك الحكومة ووزارة الثقافة لدور الثقافة المحورى فى مواجهة كل ما سبق من جانب، وفهم المتغيرات الإقليمية والدولية العاصفة من جانب آخر.

لا يجب أن تتحول الثقافة إلى وزارة شرفية، لا تحظى بالقدر نفسه من الحضور والتأثير.. على غرار وزارات مثل: التعليم والإعلام والخارجية.

 وذلك حتى لا تخرج من سياق المعادلة الوطنية.. فينهار عقلنا الجمعى.

الثقافة ليست إصدارات شكلية لا يقرؤها أحد، وليست مجرد أمسيات ولقاءات موسمية. الثقافة مشروع فكرى وتنويرى مستمر، تتفاعل فيه جميع مؤسسات الدولة فى تناغم مع اهتمامات المواطن الثقافية من إحياء التراث والنقد والفكر والمسرح والكتاب.

خريطة مقترحات..

خلال متابعتى للواقع الثقافى، قدمت فى العديد من المقالات.. مقترحات عملية لتطوير منظومة 

العمل الثقافى.. حتى نخرج من الدوائر المغلقة عبر المزيد من المقترحات والتعديلات التى أقدمها مرة ثانية، على غرار:

1- صياغة استراتيجية ثقافية وطنية طويلة الأمد: تشمل رؤية الدولة للثقافة بحد أقصى 10 سنوات فقط، أى حتى سنة 2035. وعلى أن تصاغ بمشاركة المثقفين، والقطاع الثقافى الخاص.. لتحقيق معادلة ربط الثقافة بقضايانا الأساسية مثل: الهوية، والعدالة، والمساواة، والمواطنة، والتعددية.

2- هيكلة وزارة الثقافة: مازلت أعتقد فى عدم حاجتنا إلى وزارة الثقافة، وأرى أنه يجب على قيادات الوزارة.. التفكير جيدًا فى إلغاء المركزية خاصة مع الهيئة المصرية العامة للكتاب والهيئة العامة لقصور الثقافة وصندوق التنمية الثقافية.

 ومنحهم الاستقلالية الإدارية والمالية بالتركيز على صناعة السياسات وتنفيذها فى كل محافظات مصر.

3- تفكيك المركزية: بنقل جزء كبير من ميزانية وزارة الثقافة وخططها المركزية إلى المحافظات والمراكز والقرى والنجوع عبر إنشاء مجالس ثقافية محلية يديرها مثقفو المحافظات أنفسهم، ومع ربط العمل الثقافى هناك بالمدارس والجامعات ومراكز الشباب.

4- رقمنة الإنتاج الثقافى: بإطلاق مشروع شامل لتحويل الإنتاج الثقافى المصرى إلى محتوى رقمى، وإتاحته مجانًا أو بتكلفة رمزية من خلال: كتب إلكترونية، ومسارح أونلاين، ومحاضرات مرئية، وأرشيف تراثى مفتوح.

5- إصلاح منظومة قصور الثقافة: بتدريب الكوادر الجديدة، واستقطاب الشباب، وفتح الباب للفنون المعاصرة، والتحرير من البيروقراطية، وربط عملى لهذه القصور فعليًا باحتياجات المجتمع المحلى.

6- تفعيل منظومة الترجمة والنشر: من خلال إعادة هيكلة المركز القومى للترجمة، وتفعيل لجان موحدة للقراءة والنقد بكل هيئات الوزارة ومجالسها، وربط النشر بخطة ثقافية قومية، وليس مجرد إصدار كتب.

7- إشراك المثقفين فى القرارات: باستغلال المجلس الأعلى للثقافة بلجانه، والحد من سيطرة أصحاب المناصب المتعارضة أصلًا مع وجودهم فى تشكيلات المجلس الأعلى للثقافة، وإعادة الاعتبار للحوار الفكرى فى وسائل الإعلام الرسمية والخاصة.

لماذا غابت السياسات الثقافية؟

علينا أن نعترف أن الحكومات المتعاقبة.. لم تتعامل مع الثقافة كأولوية قصوى منذ عدة سنوات، بل تركتها كأنها ترف، وليست ضرورة. 

غير أنها قد اهتمت مؤخرًا.. خاصة مع العاصمة الإدارية الجديدة بتأسيس بنية ثقافية جديدة. 

فشلنا فى إدارة الفكر والعقل والهوية.. لكوننا لم نستثمر فى الإنسان المصرى نفسه.

نقطة ومن أول السطر..

إذا كنا نطمح أن نمتلك مناعة عقلية، واستقلالًا فكريًا، وانتماء ثابتًا لمصر، فإن البداية هى الثقافة، لأنه دون سياسة ثقافية واضحة، فإن كل مؤسسات الدولة الأخرى تعمل فوق الفراغ.

الطريق إلى الإصلاح الثقافى يبدأ من الاعتراف بأن الثقافة أولوية قصوى، وصارت ملفًا أمنيًا قوميًا. 

وعلينا أن نعرف جيدًا، أن كل لحظة تأخير فى بناء سياسات ثقافية واضحة، هى استثمار مباشر فى الجهل والعزلة والانقسام.

الثقافة.. نور. وهى الوسيلة الوحيدة لمواجهة الأصولية والتطرف والتعصب والتشدد.

الثقافة هى السبيل لتحقيق الدولة المدنية المصرية.

الثقافة هى الحل.

الثقافة والمعرفة هما الحل.

الاستثمار الثقافى.

ملف الثقافة.. أمن قومى مصرى.