الأربعاء 3 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

العدوان الثلاثي على سوريا: الطائفية

لم تسقط الدولة السورية بسقوط نظام بشار الأسد، بل سقطت منذ ربع قرن، فعندما توفى حافظ الأسد فى يونيو عام 2000، عقد مجلس الشعب السورى جلسة طارئة، وخلال ساعات قليلة فقط، تم تعديل الدستور لخفض الحد الأدنى لعمر المرشح للرئاسة من 40 عامًا إلى 34 عامًا، وهو تعديل صُمِّم على مقاس بشار، وربما يكون من أسرع التعديلات الدستورية فى العالم.



ما حدث منذ ربع قرن كان إعلانًا ليس فقط بسقوط الدولة السورية بل وفاتها أيضًا وغياب الدولة الوطنية الجامعة، وحتى حزب البعث الحاكم بات مجرد تشكيل هيكلى لخدمة أسرة الأسد ليس إلا.

كل هذا أدى إلى جنوح مختلف طوائف الشعب السورى نحو التقوقع، كلٌّ داخل طائفته، بعدما تلاشت الدولة الوطنية ولم تعد الوعاء الجامع لمختلف الأطياف.

وعزَّز من التشرذم الطائفى عوامل أخرى داخلية وخارجية تشابكت لتُحكم الخناق على ما تبقى من الدولة الوطنية، ففى عهدى حافظ وبشار الأسد، وإن كان الظاهر هو تمييز الطائفة العلوية على ما دونها من الطوائف، فإن واقع الأمر يشير إلى أن الطائفة العلوية نفسها كانت أسيرة لدى عائلة الأسد، استخدمتها لتثبيت أقدامها حتى أن شباب العلويين لم يكن معظمهم يمتلك خياره الدراسى بعد الثانوية العامة، فبعضهم كان يُدفع بهم دفعًا نحو الالتحاق بالكليات العسكرية من أجل سد الفجوات فى قيادات الجيش من العلويين، الأمر الذى أدى إلى نتيجتين سلبيتين، الأولى وهى الأخطر بأن فقد الجيش هويته كجيش «وطني» يجمع مختلف أطياف الشعب السورى، أما النتيجة الثانية، فكانت فى خلق حالة من العداء و«الثأر» تجاه الطائفة العلوية ذاتها، بل إن طوائف أخرى وإن كانت تحسب موالية لنظام الأسد إلا أنها شعرت بالظلم والتجاهل وهو ما عبَّر عنه الدروز وقت الأحداث التى سبقت سقوط نظام بشار الأسد بعدما شعروا بإهمال الحكومة المركزية لهم فى الوقت الذى عانوا فيه من تكفير التيارات الجهادية لهم.

ورغم غياب إحصاء سكانى وفقًا للتنوع الطائفى، فإن البعض يشير إلى تشكيل المسلمين السنة نحو  74 % من تعداد السكان، فيما تشكل مجموعات إسلامية أخرى تشمل العلويين والإسماعيليين والشيعة معًا ما نسبته 13 %، أما الدروز فيشكلون 3 %. بالإضافة لوجود جماعات مسيحية تنتمى إلى مذاهب وفرق مختلفة تشكل 10 % من تعداد السكان، وأقلية يزيدية وبضعة عشرات من اليهود.

أمّا على الصعيد العرقى، فيشكل العرب الأغلبية وهناك أقليات سريانية وآشورية وكلدانية، وأيضًا الأكراد، بالإضافة للأرمن والغجر واليزيديين والشركس والتركمان.

هذه التركيبة السكانية وفى ظل غياب الدولة الوطنية الجامعة، تربة خصبة لإشعال أى نزاعات طائفية إذا وجدت من يدعمها من الخارج ماليًا ولوجستيا، خصوصًا بعد سقوط بقايا الدولة بسقوط نظام بشار الأسد، لتعود كل طائفة لقواعدها فى الدفاع عن نفسها، وعمَّق هذه الروح الطائفية تولى أحمد الشرع (الجولانى سابقًا) مقاليد الحكم بمرجعية جهادية تكفيرية تُقصى كل من يختلف معها، ورأينا تأثير ذلك فى أحداث الساحل السورى، ومؤخرًا فى السويداء حيث يقطن الدروز، وهو مشهد يُنبئ بمستقبل دموى غارق فى الطائفية، وما يزيد من تعقيده التدخلات الخارجية من قِبَل العديد من الأطراف التى تقوم مصالحها على إذكاء تلك الروح الطائفية، وفى المقدمة منهم إسرائيل.

وتأتى التوترات الطائفية التى باتت تنتقل من منطقة إلى أخرى فى سوريا، والتى كان أحدثها استهداف الدروز فى السويداء، لتؤكد أن ما يحدث نتيجة أزمة سياسية لنظام حكم غاب عن أبسط أدبياته أى تجريم للتحريض على العنف الطائفى والتعامل بليونة مائعة مع مختلف العمليات الإرهابية التى طالت الأقليات هناك.

وسط هذا الانهيار الشديد لمقومات الدولة الوطنية الشاملة، تحاول إسرائيل، منذ سقوط نظام الأسد، فرض وقائع جديدة فى جنوب سوريا، حددها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو فى أمرين أساسيين: يتمثل الأول فى تحويل منطقة جنوب سوريا الممتدة من الجولان إلى السويداء مرورًا بدرعا وريف دمشق إلى منطقة منزوعة السلاح، يحظر دخولها على قوات الحكومة السورية؛ أما الثانى فهو حماية الدروز، وهو الأمر الذى بات يشكّل، نتيجة وجود امتدادات عائلية ومذهبية درزية بين جنوب سوريا وشمال فلسطين، إحدى الأدوات التى يستثمرها نتنياهو للحصول على مكتسبات سياسية داخلية. وكان المئات من دروز فلسطين عبروا الحدود مع سورية، فى محاولة للوصول إلى السويداء، فى الوقت الذى تصاعدت فيه ضغوط القيادات الدينية الدرزية داخل إسرائيل على نتنياهو للتدخل عسكريًا فى الأزمة، وهو ما حصل. 

ونقذت إسرائيل غارات جوية أصابت ما لا يقل عن 200 هدف داخل سورية، استهدف بعضها قوات الحكومة السورية التى كانت تحاول استعادة السيطرة على السويداء من الفصائل المسلحة المحلية، لكن أكثرها لا علاقة له بأحداث السويداء، ومن ضمنها قصف مبنى الأركان العامة فى دمشق والإغارة على أبنية تابعة لقصر الشعب، فى رسالة الغرض منها النيل من هيبة الدولة السورية. 

ولم يعد خافيًا على أحد استغلال إسرائيل للمشهد الحالى لفصل الجنوب السورى ذى الأغلبية الدرزية وصولًا إلى تحقيق حلمها فى تفتيت ما تبقى من الدولة السورية ضمن دويلات طائفية صغيرة متصارعة بما يضمن لها غياب أى تهديد لوجودها.

ومنذ اللحظة الأولى لسقوط نظام الأسد، أرادت إسرائيل القضاء على أى احتمالات ولو ضعيفة لوجود أى قوة عسكرية مع أى طرف من الأطراف السورية، لذلك نفذت إسرائيل واحدة من أوسع حملاتها الجوية ضد سوريا، استهدفت مواقع وتجهيزات عسكرية فى مختلف المناطق، من أجل حرمان «دولة الشرع» من أى قدرات عسكرية يخلفها النظام المنهار ومنعها من بسط سيادتها على المناطق الواقعة جنوب دمشق. علاوة على ذلك، أوقفت إسرائيل العمل باتفاق فصل القوات لعام 1974، واجتاحت مناطق واسعة من الأراضى السورية، فاحتلت المنطقة العازلة وقمة جبل الشيخ وصولًا إلى مناطق فى ريف دمشق، فى محاولة لإنشاء منطقة منزوعة السلاح، وتحويل سوريا إلى دولة منزوعة السيادة عن مناطقها الجنوبية. وتحاول إسرائيل، لتسهيل حصول ذلك، استغلال عجز الإدارة السورية الجديدة عن قيادة حوار وطنى وتبنى عقلية دولةٍ تمثل جميع المواطنين، لتقديم نفسها باعتبارها حامية للدروز، كما راحت ترسل مساعدات إغاثية، وتعرض مغريات مالية، وخدمية، مما تعجز الحكومة السورية عن تقديمه.

لذلك لا يمكن فصل ما يحدث فى سوريا عن الصراع الطائفى الأوسع على المستوى الإقليمى، بالإضافة للخلافات والصراعات والتحالفات الإقليمية والمحصلة دائمًا تعرُّض مُختلف الطوائف الدينية والمجموعات العرقيّة لانتهاكات حقوقية على أساس طائفى أو عرقى، وزيادة تهديد الأقليات الدينية.

 وكل هذا سيؤدى حتمًا إلى الاعتماد على الميليشيات ذات الطابع الطائفى أو حتى العرقى كما هو الحال مع الأكراد وفى مراحل لاحقة قد نرى عودة تدفق المسلحين المرتزقة من عدة دول خارجية وبشكل يفوق ما حدث قبل سقوط نظام الأسد، ما دامت حكومة الشرع تمثل طيفًا واحدًا تاريخه القريب ملطخ بدماء العمليات التكفيرية.