الخميس 19 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
هل قرأ وزير الثقافة  مذكرات عز الدين نجيب؟

هل قرأ وزير الثقافة مذكرات عز الدين نجيب؟

«شقة فى الدور الثانى فى بيت مظلم ذى درجات متهدمة، دخلت إليه من ممر موحل، وجدت على بابها لافتة صغيرة كُتب عليها مركز الثقافة والاستعلامات، كان الباب مغلقا والجرس معطلا، طرقت الباب، أطل رجل عجوز يحاول فتح عينيه بصعوبة، نظر متسائلا وعندما علم من أنا أخذنى إلى الداخل» من هذا المكان المقبض بدأ الفنان التشكيلى والقصاص المبدع عز الدين نجيب العمل فى قصر الثقافة بكفر الشيخ، حيث  كانت له تجربة ثرية فى التواصل والعمل الثقافى مع البسطاء، واكتشاف مواهبهم وتنميتها، حكى عز الدين نجيب تجربته فى كتابه «الصامتون.. تجارب فى الثقافة والديمقراطية بالريف المصرى» وكشف فيه أنه بأقل الإمكانيات يمكن النجاح طالما وجدت الإرادة الراغبة فى أداء مهمتها والإدارة التى  تريد القيام بدورها وواجبها، كان الهدف من الثقافة الجماهيرية عند إنشائها بناء الإنسان ثقافيا والتواصل مع الفئات البعيدة تمامًا عن الحركة الثقافية فى العاصمة من خلال انتشار قصور وبيوت الثقافة فى الأقاليم، وهو هدف من المفترض أنه مازال يتم السعى له والعمل من أجله، يحكى عز الدين نجيب فى كتابه «فى عام 1966 عرض سعد كامل مدير عام الثقافة الجماهيرية عليه مهمة إدارة قصر الثقافة بكفر الشيخ ورغم صعوبة المهمة قبلها  وقال لنفسه «حسنا فلنجرب»، وعندما وصل عز إلى الشقة التى يشغلها مركز الثقافة فى كفر الشيخ بعد جهد كبير وسؤال عدد من المواطنين عن مكانه، وجدها حسب وصفه «معتمة الضوء تعبقها رائحة خانقة هى خليط من رائحة الجدران القديمة والرطبة ورائحة دورة المياه، وفى إحدى حجرات الشقة الثلاث علقت على بابها لافتة تحمل كلمة المكتبة، أرففها شبه خالية وتناثرت فيها أكوام من كتب مهلهلة»، يضيف عز «كان جالسا فى المكتبة موظف يبدو فوق الأربعين بقليل غير مبال بشىء، وحتى بعد أن عرف هويتى لم يبد أى اهتمام وأخبرنى أنه لم يغادر هذا المكان منذ خمسة عشر عاما، ونصحنى بألا أخذ الأمور بجدية» فى هذه الأجواء المزرية والمعقدة حيث شقة عطنة وموظف عدمى وساع عجوز لا يفيق بدأت التجربة، كان أول ما فعله عز الاتصال بفرقة مسرحية كان قد سمع عنها قبل وصوله إلى كفر الشيخ، ووجد من أعضائها حماسا كبيرا، وبالطبع لم يكن للفرقة مقر أو مسرح فبيوتهم هى مقر اجتماعاتهم والساحات العامة فى المدن والقرى هى مسارحهم، وبدأ العمل بالتعاون مع المحافظ الذى تحمس ومنحهم مبنى جمعية الشبان المسلمين وساعدهم فى بناء مسرح فى جزء من الحديقة المحيطة به، وحتى يتم الانتهاء من تجهيز المسرح وضع عز برنامجا مبدئيا لبعض الندوات والأمسيات الفنية وكان ضيوفها فنانيين وأدباء من القاهرة، وكان لتلك الليالى حسب ما يقول عز «مفعول السحر فى جمهور المدينة فقد كانت تلبى احتياجاته من الثقافة، أمسيات موسيقية وغنائية وشعرية وسينمائية ومسرحية وتشكيلية»، لم يكتف عز بنشاطه فى المدينة وذهب بأمسياته إلى القرى، وهناك اكتشف مواهب كثيرة وفن عظيم مدفون تحت ركام التجاهل، مثلا فى إحدى الليالى  وجد ضالته فى مجموعة فتيات سمعهن يغنين  فى فرح فأقام لهن حفلا فى القصر بعد أن أقنع أسرهن، وحضر هذه الحفلة الفنان التشكيلى  كمال الجويلى والمبدع الكبير صلاح جاهين الذى انبهر بالأغانى والأجواء، فكرر زيارته أكثر من مرة، وأصبح للقصر جمهوره من كل الطبقات، عمال وفلاحين وموظفين، وتكونت جماعات مختلفة فى الفن والأدب والموسيقى والسينما والفن التشكيلى، وأتيحت الفرصة للعديد من المواهب الشابة والناشئة لإبراز مواهبها وتقديمها للجمهور، وباتت الكتب تأتى  للمكتبة بشكل منتظم ومعها عشرات الآلات الموسيقية والاسطوانات وخامات الرسم، وكان للقوافل الثقافية للقرى أثر كبير فى انتعاش الحياة الثقافية بها، فلأول مرة يدخل الفلاحون قصر الثقافة ويشاركوا فى انشطته، وعبر المؤتمرات الجماهيرية خرجوا عن صمتهم، وتحول القصر من مجرد مبنى أصم، إلى متنفس للناس جميعا بمختلف الفئات»، هذا نذر يسير من التجربة المهمة والملهمة،  وهناك تفاصيل كثيرة موجودة فى الكتاب تدل على ثرائها وإمكانية تكرارها، صحيح أن هذه الحالة لم تستمر نظرا لتغيير السياسات والمسئولين بعد هزيمة يونيو 67، ولكنها  تكشف أنه بأقل الإمكانيات وفى أبسط الأماكن يمكن النجاح وتقديم ثقافة وفنا يحتاجه البسطاء، وأن حجة أن المبانى قديمة وضيقة  وأن الموظفين غير مؤهلين ليست عائقا، وأنه يمكن التعامل مع كل المعوقات والتغلب عليها  إذا كان هناك اختيار مناسب للأشخاص والقيادات، وبشرط وجود حماس وإردة حقيقية لتقديم الخدمة الثقافية.



كتاب المبدع الراحل عز الدين نجيب مهم لمن يريد أن يعرف دور الثقافة الجماهيرية وأهمية تواجدها فى القرى والمراكز الصغيرة، وأتمنى أن يقرأه وزير الثقافة قبل تنفيذ قراره بغلق عدد من مراكز وقصور الثقافة فى الأقاليم، وربما أكثر ما يعبر عن ذلك ما قاله سعد كامل وهو يقنع عز بالمهمة «رسالتنا ليست فى المدن الكبرى فلديها من وسائل الترفية والتثقيف الكثير، وإنما رسالتنا الحقيقية هى الوصول إلى ذلك الواقع المتخلف الذى نسميه جثة، وهو ليس كذلك، ففى قلب تخلفه يوجد التعطش الشديد للحياة وللثقافة، ولذلك هو أحوج لجهودنا، ولكن كيف نكتشف المدخل لإشباع هذا التعطش؟».