
نبيل عمر
«إيلى كوهين».. الجاسوس الذى كشفته السفارة الهندية بالمصادفة!
ماذا نفهم من «الصخب» الذى صنعه بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل حول «أرشيف سوريا الرسمي» الخاص بالجاسوس الإسرائيلى «إيلى كوهين»، والذى حصلت عليه إسرائيل من سوريا مؤخرا؟
بالطبع هو جزء من عملية تجميل لقبحه السياسى، ولا عجب أن يصاحب الصخب أكاذيب تضيف نوعًا من الإثارة الزائفة على الحكاية، فهو قال فى بيان صادر عن مكتبه إن استرجاع 2500 وثيقة وصور ومقتنيات شخصية كانت فى الملف السرى تحت حراسة مشددة، جاء نتيجة عملية معقدة نفذها جهاز الموساد بالتعاون مع جهاز مخابرات شريك، بينما الحقيقة أن الاسترجاع كان باتفاق مباشر بين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب والرئيس السورى أحمد الشرع فى اللقاء الذى حدث بينهما خلال زيارة ترامب لدول الخليج العربية، ولا مخابرات ولا عمليات معقدة ولا يحزنون!
ولا ننكر أن إيلى كوهين كان واحدًا من أهم جواسيس إسرائيل، وقد وصل إلى مكانة سياسية رفيعة فى سوريا الستينيات، حتى قبض عليه وأُعدام فى مايو 1965!
والحكاية تبدأ من الإسكندرية عند رفعت سليمان الجمال سنة 1954، الذى يعرفه المصريون والعرب باسم رأفت الجمال حسب الرواية التى كتبها الرائع صالح مرسى، والمسلسل الأشهر الذى أخرجه يحى العلمى، فى ذلك الوقت كان جهاز الخدمة السرية المصرى قد جند رفعت الجمال ودسه فى أوساط اليهود فى الإسكندرية فى شقة صغيرة باسم جاك بيتون، الأب شالوم بيتون والأم آلجيرا لازرا، واشتغل فى شركة تأمين، على أن يتصرف كشخص متدين محافظ إلى حد التزمت، غير ودود ولا يحب الاختلاط بالناس.
وبالمصادفة التقى الجمال بـ«ليفى سلامة»، الذى كان محبوسًا معه فى زنزانة بسجن الحضرة، بعد أن قبض على الجمال على الحدود المصرية الليبية بشيكات سياحية مزورة، فاصطحبه سلامة إلى الجميلة «مارسيل نينيو» نجمة فضيحة لافون الشهيرة، وقد لعبت فيها دور حلقة الاتصال بين خليتى التخريب اللتين أشعلتا الحرائق فى عدد من الممتلكات الأمريكية والبريطانية فى القاهرة والإسكندرية، للوقيعة بين الدولتين وثورة يوليو، وحكم عليها بالسجن 15 عامًا.
أحس الجمال أن اللقاء مع مارسيل كان مدبرًا، وعن طريقها تعرف على إيلى كوهين، وهو من أبوين سوريين، يتحدث العربية بلكنة حلبية، أى بطريقة أهل حلب.
وصار الجمال وكوهين صديقين، يقضيان وقتًا طويلًا معًا، وقد ألقى القبض عليهما معا حين تكشفت عملية لافون، ثم اُطلق سراحهما لعدم كفاية الأدلة، وتفرقت بينهما السبل، إلى أن جمعتهما المصادفة مرة أخرى فى أكتوبر 1957، لكن فى إسرائيل.
كان جاك بيتون منهمكًا فى عمله خلف مكتبه بشركة «سى تورز»، حين سمع صوتًا مازال يذكر نبراته: جاك.. جاك..أخيرا وجدتك بعد ثلاث سنوات.
لم يصدق الجمال أنها مصادفة، واصطحبه إلى مقهى قريب، يسترجعان فيه ذكرياتهما بالإسكندرية، وأيام النضال من أجل الوطن إسرائيل، كان الجمال حذرا، ويكاد يؤمن بأنه مدسوس عليه، كجزء من عملية ملاحقته والتأكد من «صدق صهيونيته»، ووضع الجمال خطة لبث الاطمئنان فى قلبه، أولًا: داوم على المقابلات وتعميق الصداقة حتى لا يشعر أنه يتجنبه فيرتاب فيه، ثانيًا: التوقف التام عن أى نشاط خارج السياحة حتى لا يلاحظ ما يصنع.
ونجحت خطة الجمال إلى الحد الذى باح له كوهين ببعض أسراره، وأخطرها أنه يعمل فى إدارة التجسس بالقطاع العربى، وفجأة اختفى إيلى كوهين كفص ملح وذاب لمدة سبع سنوات، حتى شاعت أنباء القبض عليه فى سوريا وإعدامه فى ميدان عام، واعتبرته إسرائيل بطلا قوميا نظمت من أجله الاحتفالات والمظاهرات ومراسم التكريم.
خلال تلك السنوات خضع إيلى كوهين لتدريب وإعداد على مستوى عال جدا، وأعطته المخابرات الإسرائيلية اسما سوريا هو كامل أمين ثابت، تاجر يعمل بالاستيراد والتصدير، هاجر أبواه إلى بيروت حيث ولد، ثم انتقلوا إلى مصر واستقروا فى الإسكندرية، وبعد موت والديه سافر إلى الأرجنتين، ليؤسس مع عمه الثرى شركة لبيع الأقمشة فى شارع ليجازى فى قلب العاصمة بيونس ايريس، لكن الشركة أفلست فعمل فى أوروبا فترة، ثم عاد إلى الأرجنتين، لكنه يتمنى العودة إلى وطنه الذى حرم منه طول حياته.
وصل إيلى كوهين إلى بيونس إيرس على متن الطائرة السورية القادمة من زيورخ فى الحادى والعشرين من مارس 1961، بجواز سورى مزور، واستأجر شقة فخيمة بالعقار رقم 1305 فى شارع تاكوارا، وبسرعة صار زبونا فى المقاهى والمطاعم التى يتردد عليها السوريون واللبنانيون، وقتها كان يعيش فى العاصمة الأرجنتينية ما يقرب من نصف مليون عربى، ولا يختلطون كثيرا بالسكان المحليين، وفضلوا أن يكونوا مجتمعًا شبه مستقل تجنيا للمشكلات، وتعرف إيلى على الجالية السورية التى فتحت له ذراعيها وقلبها، رجال مال وأعمال من ذوى علاقات رفيعة بالوطن الأم، ويزورهم من وقت لآخر دبلوماسيون وسياسون قادمون من الوطن، وفى عام 1962، وبعد انكسار الوحدة المصرية السورية، رتبوا له العودة إلى سوريا كواحد من الصفوة، وكان التاريخ من اختيار إيلى، بعد مغادرة الخبراء والمستشارين المصريين دمشق، كى يضمن ألا يتعرف عليه واحد منهم، وارتقى إيلى كوهين فى الحياة السياسية والحزبية السورية بسرعة، وكان مرشحًا لتولى مناصب رفيعة فى حزب البعث والحكومة، ويقال إن الأسرار كانت تسال أمامه كنهر يفيض، خاصة وكيف لا وهو صديق شخصى للرئيس أمين الحافظ الذى كان ملحقا عسكريا لسوريا فى الأرجنتين وتعرف عليه هناك..
وظل الحال كذلك حتى قبض عليه فى يناير 1965 متلبسا بجهاز الإرسال.
كان كوهين يسكن فى شقة فاخرة قبالة السفارة الهندية، واشتكت السفارة إلى السلطات من تشويش لاسلكى على رسائلها إلى نيودلهى، فراقبت السلطات محيط السفارة ورصدت رسالة لا سلكية يومية على ترددات غير مصرح بها، لكنها فشلت فى تحديد مصادرها، فلجأت إلى ضابط ألمانى سابق متخصص فى الاتصالات، كان سببًا فى كشف جاسوس شهير فى بلجيكا عرف باسم الجاسوس الأحمر يبعث رسائله بنفس طريقة دمشق، فأوصاهم أن يقسموا المنطقة إلى مربعات، يقطعون عنها الكهرباء يوميا بالتبادل، على أن تعبر وقتها سيارة لرصد الذبذبات اللاسكية المربعات جيئة وذهابا، وبالفعل عثرت على مصدرها، ودخلوا على كامل أمين ثابت المزعوم وهو يبعث برسالته، وكانوا يتصورونه مجرد مواطن خائن.
وفى 24 يناير وصلت إلى المخابرات الإسرائيلية آخر رسائل إيلى كوهين: إلى رئيس وزراء إسرائيل ورئيس جهاز المخابرات فى تل أبيب، كامل وأصدقاؤه ينزلون ضيوفا فى دمشق، وسوف تسمعون عن مصيرهم قريبا، إمضاء: جهاز مكافحة التجسس فى سوريا.
وفى فجر 18 مايو 1965 فتحت أبواب سجن المزة، وتحركت عربة عسكرية مغلقة متجهة إلى ميدان المرجا الشهير، وبداخلها إيلى كوهين منهارا، قدماه شبه مشلولتين من التوتر، ووقفت العربة فى الميدان، حضر حاخام سوريا «مسيو أندابو»، قرأ عليه الصلوات اليهودية الأخيرة، وكتب كوهين خطابا إلى زوجته، ثم أعدم شنقا تحت أنظار ألاف السوريين الذين أحاطوا بالميدان منذ منتصف الليل، ودفن فى مقابر اليهود فى دمشق، التى احتفظت بملفه ستين عامًا، حتى سلمته إلى إسرائيل، وتتفاوض حاليا على تسليم رفاته أيضا.
وتجربة إيلى كوهين هى التى علمت رفعت الجمال أن يبتعد عن دائرة السلطة مهما كانت الإغراءات، فهى دائرة مغلقة يسهل تتبع أصحابها!