
عاطف حلمي
ع المصطبة.. الوعى والهوية
خلال الأيام الماضية شاهدت عبر المنصات الأجزاء الخمسة من مسلسل ليالى الحلمية، لأعيد اكتشاف الرسالة العبقرية والرؤية المستقبلية لأسامة أنور عكاشة، التى لخص فيها بتفاصيل مذهلة كيف تم تجريف الهوية المصرية، وكيف تآكلت هذه الهوية إما بفعل فاعل أو نتيجة تطورات سياسية واجتماعية جعلتنا نعيش فى حالة تيه شديدة.
المشكلة أننا لا زلنا نعانى من أزمة غياب محددات هويتنا، فأصبح الناس غير الناس والسلوكيات فى انحدار يستوجب منا وقفة لعلها توقف كرة الثلج المتدحرجة، لعل وعسى نستطيع نفض الغبار عن هويتنا، وهذا لن يتأتى إلا بالوعى، أن نعى شخصيتنا المصرية المحملة بموروثات حضارية اختفت خلف غبار المتغيرات المتلاحقة التى طرأت على المجتمع.
الأمر من الأهمية بمكان بأن تعطى له الأولوية القصوى، فما يجرى من مسيرة بناء يستلزم أن تترافق معه إعادة بناء الشخصية المصرية، وفى أضعف الإيمان ترميم هذه الشخصية.
القضية ليست نوعًا من النوستالجيا والحنين إلى الماضى، فعجلة الزمن لا يمكن أن تعود إلى الوراء، لكنها لا يجب أن تسلبنا هويتنا وقيمنا الضامنة لاستدامة تطورنا، وقد يقول قائل: إن التطور يستوجب بالضرورة استبدال الثوب العتيق بآخر جديد، وهذا قد يكون صحيحًا، ولكن لا يمكن أن يسلبنا التطور ثوب هويتنا فنصبح عرايا الهوية.
كانت هناك بادرة من وزارة التربية تمت على استحياء من خلال مادة «الأخلاق والقيم» وللأسف النوايا الحسنة وحدها غير كافية، فهذا المنهج جيد لكنه لا يدرَّس بشكل حقيقى للطلبة ولا يوجد له مدرسون متخصصون ومدربون وقبل كل ذلك مؤمنون بأهمية تدريس «القيم والأخلاق» حتى تصبح جزءًا أصيلًا من سلوكياتنا اليومية.
معركتنا اليوم من أجل ترسيخ الوعى لا تقل أهمية عن أى معركة أخرى؛ بل هى من أصعب المعارك التى علينا خوضها، لكن قبل خوضها علينا أن نتفق أولًا على محددات الشخصية المصرية مستلهمين تطورات العصر من دون اقتلاع لجذور الماضى، فلم يكن يتصور أحد أن يأتى يوم نجد فيه من يشمت فى الموت أو يستنكر الترحم على من رحلوا، ولا أن نكفر بعضنا بعضًا لمجرد الاختلاف فى الرأى، وإصدار الأحكام المسبقة من دون أن نكلف أنفسنا عناء البحث عن الحقيقة.
علينا الاعتراف بأن عملية تجريف الشخصية المصرية بلغت مداها وتراكمت سلبياتها على مدى عقود متتالية، نحن لا نبحث عن شخصية مثالية ولكن عن قدر معقول من الموضوعية وإعمال العقل والمنطق.
وعلينا أن ندرك أيضًا أن غياب الوعى، وبشكل خاص لدى الأجيال الجديدة، جعلهم كالعصافة التى تذريها الريح وسط محيط متلاطم من الشائعات والفتاوى الصادرة عن غير المتخصصين فى شتى المجالات، فأصبحوا أسرى لشاشات هواتف يلهثون خلف الترند، بغض النظر عن مدى المصداقية.
فالهوية هى الخصائص والسمات والمعتقدات والقيم المميزة التى تُعرّف الشخص أو المجموعة، وتشكل تفردهم وإحساسهم بالذات، والانتماء لمجتمعهم ووطنهم، وهى فعل ديناميكى متحرك، لكنه لا يمكن فصله عن الجذور والموروث الحضارى بمعناه الأشمل والأوسع.
وهنا يبرز دور العوامل الأخلاقية والقيمية للمجتمعات، كما أن فقدان الهوية الوطنية يُحول كل مكتسبات الحضارة العلمية والثقافية إلى معوقات، وأى دولة يرتبط تاريخها بدرجة كبيرة بالهوية الوطنية التى تساعد على تطوير المعارف واستيعاب جميع التطورات التى تواكب العصر وتعمل على تعزيز اعتزاز الفرد بذاته؛ من خلال تنمية ثقة الفرد كأحد المقومات الأساسية للحفاظ على الدولة.