غزة ثم اليمن «أقصى الضغوط» سياسة ترامب الجديدة فى المنطقة

عندما عاد دونالد ترامب إلى المشهد السياسى، أعاد معه وعوده التقليدية بإنهاء الحروب الخارجية وتقليل التدخلات العسكرية الأمريكية، كان هذا النهج هو ما وعد به ترامب ناخبيه قبل اعتلائه سدة الحكم فى الولايات المتحدة، وكان هذا هو نهجه القديم خلال ولايته الأولى قائمًا على فكرة «أمريكا أولًا»، حيث سعى إلى الانسحاب من الصراعات الطويلة وتقليل الإنفاق العسكرى فى الشرق الأوسط. لكن اليوم، نجد أن السياسة الأمريكية، حتى فى ظل التأثير المستمر لترامب داخل الحزب الجمهورى، تتجه نحو تصعيد عسكرى ضد الحوثيين فى اليمن؛ فكيف يمكن تفسير هذا التحول؟ وهل هو تناقض فى الرؤية؛ أم أنه استجابة لواقع جيوسياسى فرض نفسه؟
فى خضم ذلك، يبقى السؤال الأهم: هل يستطيع ترامب استثمار عودته إلى البيت الأبيض لإعادة تشكيل المشهد السياسى فى الشرق الأوسط، أم أن العقبات الإقليمية ستعيده إلى دائرة الصراع التى لم تخرج منها المنطقة منذ عقود؟
تراجع ترامب عن وعوده الانتخابية
خلال حملته الانتخابية وعد ترامب الشعب الأمريكى بعدم الانخراط فى حروب خارجية أو استعمال القوات الأمريكية فى صراعات أخرى خاصة وأن فاتورة الحرب يجب أن تكون بعيدة عن جيوب الشعب الأمريكى، وهو ما يتسق مع نهجه البرجماتى برفض الانخراط فى حروب الشرق الأوسط، ولم يكن غريبًا عليه فكرة استخدام القوة حين يرى ذلك ضروريًا، ففى عام 2020، أمر باغتيال قاسم سليمانى، لكنه فى الوقت ذاته تفاوض مع طالبان للانسحاب من أفغانستان، كان تركيز ترامب الأكبر على إعادة رسم دور أمريكا بعيدًا عن التدخلات التقليدية، لكن الواقع العسكرى والسياسى اليوم يدفع الإدارة الأمريكية، حتى فى ظل تأثير الجمهوريين، إلى اتخاذ مسار مختلف.
التصعيد فى البحر الأحمر ليس مجرد أزمة إقليمية؛ بل هو تحدٍّ مباشر للنظام الاقتصادى العالمى، الحوثيون، الذين قدموا أنفسهم كجزء من محور المقاومة، استهدفوا السفن التجارية لدعم غزة، مما أثر على حركة الشحن عبر مضيق باب المندب. هذا الممر الاستراتيجى الذى يربط الشرق بالغرب، وأى اضطراب فيه ينعكس فورًا على أسعار الطاقة وسلاسل التوريد.
الإدارة الأمريكية، حتى وإن كانت تميل إلى الانسحاب من الصراعات، وجدت نفسها أمام تهديد لا يمكن تجاهله، حيث أصبحت الهجمات الحوثية تضر بالمصالح الأمريكية وحلفائها بشكل مباشر.
أما إيران التى تعتبر فزاعة الإدارة الأمريكية وحليفها الإسرائيلى فى المقام الأول، فلا يمكن النظر إلى التصعيد فى البحر الأحمر بمعزل عن نفوذ طهران، التى تدعم الحوثيين عسكريًا ولوجستيًا، والتى تسعى لاستخدامهم كورقة ضغط فى مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل.
وبالنسبة لواشنطن، فإن تجاهل هذا التهديد يعنى ترك المجال مفتوحًا لطهران لتعزيز نفوذها فى المنطقة، من هنا، جاء القرار الأمريكى بتوجيه ضربات عسكرية تستهدف قدرات الحوثيين، ليس فقط لحماية الملاحة الدولية، بل أيضًا لإرسال رسالة واضحة لإيران بأن الدعم العسكرى للحوثيين لن يمر دون رد.
رسائل ترامب
وتطبيقًا لمبدأ «السلام من خلال القوة»، أجمع مسئولون أمريكيون على أن هجمات بلادهم ضد جماعة الحوثيين تأتى لتحقيق السلام ومعالجة فشل إدارة الرئيس السابق جو بايدن، وعجزها عن وقف تهديدات الحوثيين للملاحة فى البحر الأحمر.
وفى حين أن هجمات الحوثيين على السفن لم تستأنف حتى الآن، حتى بعد تعقد سير مفاوضات تمديد وقف إطلاق النار فى قطاع غزة، ذكر الحوثيون أنهم أسقطوا طائرة دون طيار أمريكية من طراز «إم كيو 9 ريبر» فوق البحر الأحمر.
كما ذكر بيان للحوثيين أنهم سيستهدفون أى سفن تنتهك الحظر المفروض على مرور السفن الإسرائيلية عبر البحر الأحمر وبحر العرب وباب المندب وخليج عدن حال معاودة إسرائيل لعدوانها على قطاع غزة، وهو ما دفع بكثير من شركات الشحن الدولى إلى عدم إرسال سفنها إلى البحر الأحمر.
ورد مسئول عسكرى أمريكى على هذا التطور بالقول إن تعهد الحوثيين باستئناف الهجمات على الملاحة حفز على تجدد العمل العسكرى الأمريكى ضد الحوثيين.
وكانت الولايات المتحدة شنت، مساء السبت 15 مارس، نحو 40 غارة على اليمن أسفرت عن مقتل وجرح العشرات، ورأت واشنطن أن الغارات تأتى دفاعًا عن المصالح الأمريكية، واستعادة حرية الملاحة البحرية.
وبعد ساعات قليلة من الهجوم الأمريكى أعلن المتحدث العسكرى باسم جماعة الحوثيين يحيى سريع أنهم استهدفوا حاملة الطائرات الأمريكية «يو إس إس هارى ترومان» بـ18 صاروخًا وطائرة مسيّرة، واصفا العملية بالنوعية، وأنها جاءت ردًا على «العدوان الأمريكى الذى استهدف عددًا من المحافظات اليمنية بأكثر من 47 غارة جوية، مخلفًا عشرات الشهداء والجرحى».
وكان ترامب قد برر الغارات التى شنتها بلاده ضد اليمن، فى منشور له على منصته الإلكترونية «تروث سوشيال»، قال فيه إنه لم تعبر أى سفينة تجارية أمريكية قناة السويس أو البحر الأحمر أو خليج عدن بأمان منذ أكثر من عام، وأضاف إن ذلك تسبب فى خسائر بمليارات الدولارات للاقتصاد العالمى.
أهداف العملية العسكرية
وأشارت تقارير أمريكية إلى 3 أهداف سعت إدارة الرئيس ترامب لتحقيقها من وراء شن موجة من الهجمات الصاروخية والجوية على أهداف متعددة داخل الأراضى الخاضعة لسيطرة الحوثيين فى اليمن.
1- تدمير قاذفات الصواريخ الحوثية التى كانت تتحرك من مناطق جبلية إلى مناطق ساحلية، وهو ما اعتبرته إدارة ترامب استعدادًا لشن هجمات جديدة على السفن المارة من مضيق المندب والبحر الأحمر، أحد أهم الأهداف العاجلة.
2- القضاء على قيادة جماعة الحوثيين التى اختبأت على مدار أكثر من عام بعد بدء الجماعة هجماتها فى البحر الأحمر وإسرائيل.
3- إرسال رسالة لإيران فى ظل عملية تفاوضية متوقعة، كذلك رغبة ترامب فى «تجربة القوة العنيفة» بعد أن جرب العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية الخشنة منذ توليه سلطاته قبل أقل من شهرين، والتأكيد على مبدأ «استعراض قوة يحاول من خلاله القول إن أمريكا لديها قوة هائلة».
العقيدة الـ«ترامبية»
وفق محللين رأوا أن ترامب ليست لديه عقيدة عسكرية أو سياسية واضحة، وليس شخصًا استراتيجيًا وجاء من خارج الدائرة السياسية والعسكرية، «فهو رجل تجارة بارع فى المقايضات يعرض شيئًا ويطلب سقفًا عاليًا».
وهنا يمكن أن نتأكد أن ترامب لا يفهم مدى عمق الوطنيات والقوميات الموجودة فى المنطقة، مقارنًا بين ضربات ترامب الحالية وحرب الخليج الأولى التى استعد لها الرئيس جورج بوش الأب 6 أشهر وأقام لها تحالفًا دوليًا واسعًا.
اليوم ترامب يأخذ القرار فى يومين بأى خطة وبأى استراتيجية؟ غير واضح، فهو لا يملك خطة ولا استراتيجية لوضع نهج سياساته الخارجية أو سياسة بلاده العسكرية.
اليمن وغزة.. الخيط الرابط فى الحرب
التحول فى السياسة الأمريكية يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت واشنطن تتجه إلى تصعيد أكبر، أم أنها ستكتفى بضربات محدودة لردع الحوثيين دون الانخراط فى حرب مفتوحة؟
فالضربات الجوية وحدها لن تقضى على تهديد الحوثيين، لكنها قد تفرض عليهم إعادة النظر فى استراتيجيتهم، فى الوقت نفسه، يواجه البيت الأبيض تحديًا فى تحقيق توازن بين التصعيد العسكرى وعدم التورط فى «مستنقع» جديد قد يعيد إلى الأذهان تجربة التدخلات الأمريكية فى العراق وأفغانستان.
التغيير فى النهج «الترامبي» من حالة وقف الحروب بالقوة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية (العقوبات) وتحولها إلى استخدام القوة العسكرية الحاسمة يفتح شهية إسرائيل والفرصة التى انتظرها نتنياهو للعودة إلى مسار الحرب فى غزة مرة أخرى عقب الهجمات الأمريكية على اليمن وفتح نيران الحرب أيضًا فى عدة جبهات مختلفة، ومتوقع أن تكون هذه الحرب ذات سطوة أكثر وقوة نار مؤثرة تؤدى إلى تعقيد المشهد كاملًا فى الشرق الأوسط، ولن تتوقف هذه المرة بسهولة حتى لو توقفت واشنطن عن حربها ضد الحوثيين، فعودة الحرب بالنسبة لإسرائيل هى بمثابة بداية لحرب طويلة قوية بارتفاع معدل التماس مع العدو الذى لم ينقطع بالرغم من كل الهدن والصفقات والاتفاقيات.
تغيير موازين القوى
ما يجرى اليوم يعكس ديناميكيات السياسة الدولية أكثر مما يعكس تحولًا فى نهج ترامب أو الجمهوريين تجاه الحروب. التغيرات فى موازين القوى، والتهديدات التى تؤثر على الاقتصاد العالمى، تجعل من الصعب على أى إدارة أمريكية التمسك بشعارات العزلة التامة. وبينما كان ترامب يعد بإطفاء الحروب، فإن الواقع يفرض على واشنطن مواجهة تهديدات قد لا تكون حربًا شاملة، لكنها بالتأكيد مواجهة لا يمكن تجاهلها.
الحوثيون.. هل انتهى دور «الأذرع» فى المنطقة؟
وفق تحليل للمشهد الراهن، قال عادل الشجاع، أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء، فى حديث صحفى، إن «الأمريكيين لا يهتمون لما يحدث فى الحرب اليمنية، وهذا ما قاله وزير الدفاع الأمريكى مؤخرًا، وأن كل همهم أن يوقف الحوثيون استهداف الممر المائى الحيوى المتمثل بالبحر الأحمر».
موضحًا أن واشنطن لا يهمها الاستقرار فى اليمن والا كانت قدمت دعمًا للجبهة المقابلة للحوثيين (المجلس الرئاسي) والتى لو اجتمع قرارها لأسقطت الحوثيين. وتساءل الأكاديمى اليمنى قائلا: «هل ستنجح واشنطن فى جعل الحوثيين يتخلون عن استهدافهم لحركة الملاحة الدولية، من خلال التخلص من الصف الأول من قيادات الحوثى التى أدت دورها خلال الفترة الماضية ولم يعد وجودها يشكل مصلحة للمرحلة الثانية من إدارة الأزمة؟». السيناريو الواقع الآن يوضح أن ما يجرى للحوثيين جرى مثله لحزب الله فى لبنان، الذى ظل 18عامًا يرفض التفاوض مع إسرائيل على الحدود ثم وافق عليها خلال أسبوع.
وأوضح الشجاع، أن ترامب ليس أشد حزمًا من سلفه جو بايدن، وإنما هناك «استراتيجيات لدى المؤسسات الأمريكية تشتغل عليها مرحليًا وكل رئيس يأتى وفق الدور المرسوم للمرحلة».
وأضاف أستاذ العلوم السياسية، إن ترامب كان رئيسًا قبل بايدن ولم يستخدم هذه القوى المفرطة مع الحوثيين، وما أقدم عليه فقط كان إدراج جماعة الحوثيين ضمن قائمة الإرهاب فى آخر شهر له، خلال رئاسته الأولى للبيت الأبيض، وجاء بايدن وأخرجهم ثم أعادهم فى آخر شهر له فى الرئاسة.
وأشار إلى أن «القرارات الأمريكية ليست اجتهادات رؤساء حتى وإن بدت لنا كذلك، لكنها قرارات مؤسسية تشتغل على استراتيجية الشرق الأوسط الجديد.. ويبدو أن الدور المرسوم للحوثيين انتهى مثلما انتهى دور حزب الله والنظام السورى.. ولا بد أن ينتهى السلاح الذى كان بأيديهم لتبدأ قيادة جديدة لدور جديد».