بين استراتيجية الهيمنة على الآخر وتدمير العدو ذاتيًا مفهوم الانتصار والهزيمة بعقلية المدبر.. «ترامب»

آلاء شوقى
«مشهد عبثى».. هكذا تبدو الوهلة الأولى لرؤية السياسات الخارجية للرئيس الأمريكى «دونالد ترامب»، إذ صارت معاركه وتحركات إدارته المكوكية من أقصى شرق الأرض لمغربها، ومن جنوبها إلى شمالها، أرضا خصبة للصحف الغربية والدولية للإسهاب فى الحديث حول العديد من القضايا المتباينة على الساحة الدولية.
فبداية من علاقات «الولايات المتحدة» بحلفائها الأوروبيين، أو جارتيها الشمالية «كندا» والجنوبية «المكسيك»، مرورًا بالضجة الإعلامية الكبيرة حول قناة «بنما»، وفكرة ضم «جرينلاند»، إلى جانب الحرب على «غزة» والقضية الفلسطينية، والحرب الروسية الأوكرانية، وصولًا إلى العلاقات أو بالأحرى التنافس مع «الصين»، يتوه المرء وسط تلك الفوضى العارمة من القضايا المشتعلة على عدة جبهات فى آن واحد.
ومع ذلك، من منظور آخر، قد يُفسر هذا المشهد على أنها استراتيجية أمريكية محكمة، تسيطر عليها عقلية رجل الأعمال «ترامب» وتكتيكاته التفاوضية التى تتسم بدهاء واسع، فى محاولة لتحقيق أهداف معلنة، وأخرى غير معلنة قد تُرى بين السطور.
ولكن، إن تحليل تلك الأبعاد المختلفة لكل قضية، وربطها بأخرى، قد تحتاج لما هو أكبر من بحث واسع النطاق، من أجل فهم سياسة الإدارة الأمريكية الحالية بشكل موضوعى شامل. على كل، فى مسعى لفهم زاوية من السياسة الخارجية الأمريكية الحالية انطلاقًا من عقلية «ترامب»، تمثل الحرب الروسية الأوكرانية، وما يدور فى فلكها من أحداث مجالًا حيويًا للرصد والدراسة.. إلا أنه قبل الحديث عن سياسات «ترامب» وأهدافه، من الضرورى فهم طريقة عمله واستراتيجياته.
عقلية «ترامب»
قد يكون من الخطأ الاعتقاد أن «ترامب»- الذى عاش حياة مفعمة بأحداث سريعة الوتيرة، وتقلبات مالية جامحة، وترف مُفرط، ودراما لا تتوقف، ثم وصوله لمنصب رئيس «الولايات المتحدة»- شخص عشوائي، إذ يعد رجل أعمال ناجحا قام بالعديد من الصفقات التى صبت لصالحه، متشبعًا بتكتيكات التفاوض، ومخضرمًا بالمساومة، كما أن طبيعة شخصيته وأفكاره لها تأثير أيضًا على تحركاته.
ففى الوقت الذى كانت شخصية «ترامب» مجالًا واسعًا لأبحاث علماء النفس فى العديد من الجامعات الأمريكية، إلا أنه يمكن الإشارة لبحث بعنوان (The Leadership Style of U.S. President Donald J. Trump)، أو (أسلوب قيادة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب) التابع لكلية «سانت بنديكت» وجامعة «سانت جون» الأمريكية، باعتباره ملخصًا لطبيعة القيادة التنفيذية للرئيس الأمريكى.
فأوضح البحث أنه جرىء، وتنافسى، ويمكن وصفه بالصارم والتوجيهى (أى مهيمن)؛ متسرع، ومتمرد على التقاليد والأعراف، مع ميل إلى إخفاء الحقيقة والالتفاف على القانون (ويتم وصف الجملة الأخيرة بأنه لا يعرف الخوف)؛ وهى صفات يمكن ملاحظتها فى العديد من تعاملاته مع القضايا الدولية، ومن بينها الحرب الروسية الأوكرانية بالطبع.
من جانبه، وصف أستاذ علم النفس فى جامعة «نورث وسترن»، «دان بي. ماك آدامز» عقل «ترامب» بأنه يمكن تميزه بثلاث صفات جوهرية، وهى (النرجسية، وعدم الرضا، والعظمة)، وهو ما يمكن رصده فى العديد من تصريحاته، بداية من حملته الانتخابية حول إحياء العظمة المفقودة للولايات المتحدة، وصولًا لطموحه الأول، هو ترسيخ دور «الولايات المتحدة» كقوة عظمى وحيدة فى العالم، والتأكيد على عدم التخلى عن هذا الدور كقوة عالمية مهيمنة، مهما كلف الأمر.
وانطلاقًا من تلك الشخصية والأفكار، فإن تكتيكات «ترامب» التفاوضية للحصول على مبتغاه تدخل ما يعرف بـ(منهج الصراع فى التفاوض)، ولعل أبرز استراتيجيتين يتبعهما فى هذا الصدد، هما:
الأولى (استراتيجية الهيمنة)، وتحديدًا مع الدول ذات الموقف القوى، وهى استراتيجية تتضمن محاولة طرف إقناع الطرف الآخر بقبول حلول بدائل، تحقق مصلحة الطرف الأول بالدرجة الأولى؛ كما تتضمن هذه الاستراتيجية استخدام تكتيكات (الضغط، والإنهاك، والاستنزاف) فى محاولة للسيطرة، وإخضاع الطرف الآخر.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك: تقديم مطالب تفوق بكثير الحد الأدنى المطلوب، والتمسك بموقف غير قابلة للتغيير والجدل لإقناع الطرف الآخر أن التنازلات فى مصلحته (مثل: إعلان «ترامب» السيطرة على قناة «بنما»)؛ أو استخدام التهديدات كالانسحاب من المفاوضات، أو فرض عقوبات على الطرف الآخر لرفض المطالب المرجوة (مثل: فرض «الولايات المتحدة» أو التهديد بفرض الرسوم الجمركية).
أما الاستراتيجية الثانية فهى (التدمير الذاتى)، وتحديدًا مع الأطراف الضعيفة، وتتضمن اللعب على التحديات أو العقبات التى تواجه الطرف التفاوض الضعيف، وكلما كانت هذه العقبات شديدة كلما ازداد يأس هذا الطرف، وإحساسه باستحالة الوصول إليها، وأنه مهما بذل من جهد فإنه لن يصل إليها، وهنا عليه أن يختار بين بديلين، إما صرف النظرعن طموحاته، أو البحث عن وسائل أخرى جديدة تمكِّنه من تحقيق هذه أهدافه فى المستقبل.. ولعل أبرز مثال على ذلك، هو ما فعله «ترامب» مع «أوكرانيا» منذ أيام.
ومن هنا.. يمكن تحليل ما يحدث فى مفاوضات إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، وما يرتبط بها من قضايا أخرى على الساحة الدولية، انطلاقًا من عقلية «ترامب» وطموحاته.
الرئيسان الأمريكى والروسى حليفان أم عدوان؟
فى الوقت الذى يسلط فيه الإعلام الغربى الضوء على وجود علاقات تعاون بين الرئيس الأمريكي، ونظيره الروسى «فلاديمير بوتين»، إلا أن تصرفات «ترامب» تشير إلى واقع آخر، وهو ليس الصداقة أو العداء، وإنما المصلحة الذاتية فى المقام الأول.
ففى حين تصور «واشنطن» نفسها صانعة سلام فى عملية تفاوضية متعثرة بين الجانبين الروسى والأكراني، إلا أنها ألقت مسؤولية إحلال السلام، أو زعزعته على عاتق «روسيا»، وهو ما تجلى فى تصريح «ترامب» مؤخرًا، حينما أجاب على سؤال حول رد «روسيا» على اتفاقية وقف إطلاق النار، قائلًا: «سنرى الآن ما إذا كانت «روسيا» مستعدة أم لا.. وإن لم تكن كذلك، فستكون لحظة مخيبة للآمال للغاية للعالم».
جدير بالذكر، أن الرئيس الأمريكى أدلى بهذا التصريح رغم عدم معالجة القضايا الجوهرية التى تؤرق الجانب الروسي، فى ظل مساعٍ غربية ودولية تهدف إلى إقناع «موسكو» بتوقيع اتفاقية لوقف إطلاق النار؛ وهى اتفاقية مقترحة تترك العديد من الأسئلة دون إجابة، حيث لا تتناول– على سبيل المثال- مصير القوات الأوكرانية الموجودة فى منطقة «كورسك» الروسية، ولم تعالج –أيضًا- مسألة القضاء على السبب الجذرى للحرب، وهو توسع حلف شمال الأطلسى (ناتو) على الحدود الروسية، وضمان عدم انضمام «أوكرانيا» للحلف فى المستقبل.
وتأتى مخاوف «موسكو» التى تركتها إدارة «ترامب» على طاولة المفاوضات، فى ظل ضغط أوروبى شديد تتعرض له السلطات الروسية، عبر شخصنة الحرب، إذ يُصوَر «الاتحاد الأوروبى» أى اتفاق روسى أوكرانى على أنه (انتصار لبوتين) فقط؛ مختزلين الحرب وأسبابها الكبيرة ومصالحها الاستراتيجية التى تُحرك أفعال «موسكو» إلى حملة شخصية يقودها الرئيس الروسي.
وهنا تظهر بوضوح (استراتيجية الهيمنة) التى تسعى الإدارة الأمريكية من خلالها لتحقيق أهدافها، إذ حاصرت «الولايات المتحدة» صورة «روسيا» بين (التشويه) عبر تحويل صورتها من دولة متضررة من تهديدات حلف (الناتو) على حدودها، إلى دولة معتدية فى الصراع المستمر لأكثر من ثلاث سنوات؛ وبين صورة (العظمة) التى تتجلى فى النجاح المبهر الذى يرد لروسيا مكانتها ووضعها الدولي، وما قد يسفر عن ذلك من تحقق أهداف أمريكية غالية الثمن.
(فرّق تسُد) لا تزال المسيطرة على سياسة «واشنطن»
من غير المنطقى افتراض أن «واشنطن» تسعى إلى التعاون مع «موسكو» لإحلال السلام فى المنطقة الأوروبية الشمالية.. وعليه، فإن التساؤل– حاليًا- يدور حول ماهية أهداف إدارة «ترامب» المعلنة وغير المعلنة التى قد ترغب فيها، حال وافقت «روسيا» على الهدنة أو إنهاء الحرب فى «أوكرانيا»، وتحقيق أهدافها الأساسية من تلك الحرب أمام الرأى العام الروسي، ورد ماء الوجه بعد حرب دامية دخلت عامها الرابع على التوالي.
إن أحد الأهداف التى يمكن أن تجنيها «الولايات المتحدة»- بعيدًا عن استعادة صورتها كقوة عالمية مهيمنة فى العالم- للاستعانة ببعض مجهودات «روسيا» فى قضايا (مثل احتواء «إيران»)؛ أو تحييدها قليلًا فى قضايا أخرى (مثل المنافسة الأمريكية مع «الصين»).
فيما يخص «إيران»، تعد أبرز الدلائل على وجود أهداف أمريكية، هو اتفاق «ترامب»، و «بوتين» فى اتصال هاتفى فى 18 مارس الجارى، على ألا تشكل «إيران» أى تهديد لإسرائيل (الحليف الأول والأساسى للولايات المتحدة).
كما أفادت وسائل إعلام غربية فى 4 مارس الجاري، بأن الرئيس «ترامب» ناشد نظيره الروسى «بوتين»، من أجل تسهيل المفاوضات مع «إيران» بشأن حل سلمى للقضايا الخلافية المتراكمة.
من جانبها، لم ترفض «روسيا» مطلقًا استئناف المفاوضات بين (الغرب)، و«إيران»، بهدف التوصل إلى تسوية سياسية للقضايا المتعلقة بالعقيدة النووية الإيرانية، والبحث عن حلول وسط فى العلاقات الإيرانية الإسرائيلية.
كما أكدت وسائل إعلام أمريكية فى هذا الصدد– أيضًا- أن وزير الخارجية الأمريكى «ماركو روبيو» ناقش قضية «إيران» مع نظيره الروسى «سيرجى لافروف» خلال اجتماع فى 18 فبراير الماضى، إذ أوضح وزير الخارجية الروسى- حينها- أن «موسكو» ترى أن على «واشنطن»، و«طهران» حل جميع المشاكل عبر المفاوضات؛ مشددًا على أن بلاده ستسعى إلى تسهيل عملية السلام هذه.
وفى هذا السياق، يمكن أن تستغل «الولايات المتحدة» صفقة كتلك لحل بعض القضايا العالقة مع «إيران»، من أجل احتواء بعض تحركاتها المحمية من قوة الكتلة الشرقية، وما يسفر عن ذلك من تحمل «طهران» لبعض ِالعداوات المفتعلة فى المنطقة، لتخفف عن كاهل الاحتلال الإسرائيلى عداوة المنطقة كلها بسبب العدوان على «غزة».
أما فيما يخص قضية (التنافس الأمريكى مع «الصين»)، فإن عقلية رجل الأعمال «ترامب» على يقين بأنها تحد يحتاج إلى تفرغ، أو تقليل الأزمات الدولية، من أجل تحويل دائرة الضوء على أقصى الشرق الآسيوي، بهدف عرقلة «بكين»، التى تعد ثانى أكبر اقتصاد فى العالم بعد «واشنطن» مباشرةً، والرائدة -عالميًا- فى التصنيع والتكنولوجيا والعلوم، والتى يمتد نفوذها عبر العالم من «آسيا»، و«إفريقيا» إلى «أمريكا اللاتينية».
باختصار.. يمكن القول إن طموح الإدارة الأمريكية الحالية، يهدف إلى تقويض الصعود السلس للكتلة الشرقية- مثلما يصفها الغرب- المكونة من «الصين– روسيا– إيران– كوريا الشمالية»، حيث بات صعودًا يؤرق الهيمنة الغربية خلال السنوات الأخيرة، خاصة صعود «الصين».
فى النهاية، يمكن ملاحظة أن قضية دولية واحدة (مثل المفاوضات على إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية)، ترتبط بالعديد من الأهداف الأمريكية فى مناطق أخرى وقضايا عدة حول العالم.
لذلك، قد يكون من المفهوم لماذا تتزامن هذه المفاوضات، مع التعريفات الجمركية الأمريكية على «الصين»، وضرب الحوثيين فى «اليمن»، وصفقة المعادن مع «أوكرانيا»، وتهديد «الاتحاد الأوروبى» بزيادة الإنفاق على الدفاع، وتحقيق بعض المصالح الإسرائيلية- فى الوقت ذاته- إن سنحت الفرصة.
ففى النهاية، إن تحركات الإدارة الأمريكية بقيادة عقلية «ترامب» ليست وليدة اللحظة أو عشوائية هوجاء، بل هى مدروسة باستراتيجية محكمة، تهدف لتحقيق مبدأ (أمريكا أولًا).