كان يتولى هندسة الشئون الاستراتيجية «قنبلة» محمد جواد ظريف استقالــة أم إقصــاء ناعـــم لمساعد الرئيس الإيرانى؟!

الحسين عبدالفتاح
فى الثالث من مارس الجارى، أعلن محمد جواد ظريف، مساعد الرئيس الإيرانى للشئون الاستراتيجية، استقالته من منصبه، منهيًا (بشكل مؤقت، وربما دائم) مسيرة سياسية حافلة فى وزارة الخارجية حتى 2021، ثم أصبح أحد أركان النظام الداعمين للرئيس الحالى، مسعود بزشكيان، قبل أن يُقدم على قراره المثير للجدل، تفاديًا لإقالته التى كانت محتملة من أركان التيار المحافظ، الذين يهيمنون على السلطة فى البلاد.
خلال الأزمة، اعترفت رئيسة جبهة الإصلاح الإيرانية، آذر منصورى، بأن «أكثر من 80 % من سلطة البلاد تتركز فى أيدى جهات أخرى»، فى إشارة إلى النفوذ الواسع للمؤسسات التى يسيطر عليها التيار المحافظ، وهو ما يعكس التأثير المحدود للتيار الإصلاحى فى المشهد السياسى الإيرانى، رغم محاولات لا تتوقف لترسيخ إصلاحات سياسية واقتصادية، ومطالبات متكررة بتوسيع هامش الحريات وتعزيز دور المؤسسات المنتخبة.
أعلن «ظريف» أنه واجه «أسوأ الإهانات والافتراءات والتهديدات» التى طالت عائلته، واصفًا الفترة الأخيرة بأنها «الأصعب» فى مسيرته الممتدة لأربعة عقود. وأوضح أن استقالته جاءت بناءً على نصيحة رئيس السلطة القضائية، غلام حسين محسنى إيجئى، فى خطوة تهدف إلى تقليل الضغوط على إدارة الرئيس بزشكيان. وأشار إلى أن الأوضاع الحالية فى البلاد دفعته للعودة إلى التدريس الجامعى.
وقال إن استقالته (لم يبتّ الرئيس الإيرانى، حتى الآن فى قرار قبولها أو رفضها) استهدفت الحد من الضغوط على الحكومة. وأعرب ظريف عن أمله فى أن تزيل استقالته الذرائع التى يستغلها البعض لعرقلة «إرادة الشعب ونجاح الإدارة»، مؤكدًا اعتزازه بدعمه للرئيس بزشكيان، ومتمنيًا له ولجميع «الخادمين المخلصين للشعب» النجاح والتوفيق.
الخطوة التى أقدم عليها «ظريف» تعكس جانبًا من الصراع الداخلى الكبير بين التيارين الإصلاحى والمحافظ فى إيران حول ملفات عدة، أهمها الاتفاق النووى، التفاوض مع الغرب، وقوانين الوظائف الحساسة، ما يتطلب إلقاء نظرة على الأبعاد المباشرة وغير المباشرة لما يحدث، لا سيما سياقها والتداعيات المحتملة لقرار «ظريف» على السياسات الداخلية والخارجية الإيرانية.
تشكل الخطوة التى أقدم عليها «ظريف» حدثًا مفصليًا على الساحة السياسية الإيرانية، فالرجل الذى أثبت قدرته خلال مسيرته الدبلوماسية والسياسية، تعرض لـ«الإقصاء الناعم» رغم كونه أحد أهم الوجوه الدبلوماسية التى لعبت دورًا محوريًا فى صياغة وتنسيق السياسات الخارجية الإيرانية، خاصة فى هندسة ملف الاتفاق النووى عام 2015، والتوصل إلى اتفاق مع القوى الكبرى، قبل انسحاب الولايات المتحدة منه عام 2018.
كان لـ«ظريف» بصمة واضحة فى تشكيل الخطاب الدبلوماسى الإيرانى خلال العقد الأخير، تحديدًا، وتحقيق توازن دقيق بين المطالب الداخلية والضغوط الدولية، قبل استقالته فى توقيت حساس، وسط أجواء سياسية داخلية مشحونة بالتوتر، وكل ذلك ستكون له نتائج تتجاوز الدوائر الداخلية إلى مسارات السياسة الخارجية والعلاقات مع القوى الكبرى.
محافظون.. وإصلاحيون
نال «ظريف» تقدير التيار الإصلاحى فى إيران، الذى تمثله مؤسستا الرئاسة والحكومة، فى مواجهة التيار المحافظ المتشدد، الذى يقوده المرشد الأعلى، على خامنئى، مدعومًا بنفوذ الحرس الثورى، الذى يفرض سيطرته على معظم مؤسسات الدولة. ورغم ذلك، لم تخلُ مسيرة «ظريف» من تحديات السياسة الداخلية، إذ كان دائمًا هدفًا لانتقادات برلمانية، لا سيما من الجهات المتشددة التى تتحفظ على نهجه الدبلوماسى.
يشكل التيار الإصلاحى قوة مؤثرة فى المشهد السياسى، خاصة فى المدن الكبرى، حيث يدعو إلى اقتصاد أكثر انفتاحًا، وعلاقات دولية متوازنة، إلى جانب تخفيف القيود الاجتماعية. ويجد هذا التيار دعمًا واسعًا بين الشباب، النساء، والطبقة الوسطى، الذين يرون فى الإصلاح وسيلة لتعزيز التنمية وتحسين مستوى المعيشة. فى المقابل، يتمسك التيار المحافظ برؤية قائمة على أولوية «المقاومة» ضد التدخلات الغربية، معتبرًا أن أى انفتاح سياسى أو ثقافى قد يشكل تهديدًا للقيم التقليدية.
تتجسد قوة التيار المحافظ فى المؤسسات الدينية، الحرس الثورى، والطبقات الريفية، التى ترى فى نهج الإصلاح محاولة لفرض أنماط حياة غربية تتعارض مع القيم المجتمعية. وتشير استطلاعات الرأى إلى أن 54 % من الإيرانيين يؤيدون استئناف المفاوضات النووية، مما يعكس حالة الانقسام العميق بين من يعتبرون الانفتاح خيارًا للتجديد والتطور، وبين من يخشون أن يؤدى إلى فقدان الهوية الوطنية وتفكك البنية الاجتماعية التقليدية.
من هنا، فإن استبعاد «ظريف» من المشهد السياسى الإيرانى قد يكون جولة فى الصراع السياسى الداخلى، والأدوار المركبة التى كان يلعبها إلى جانب رئيس الدولة، مسعود بزشكيان، والفترة السابقة كنموذج للدبلوماسى الذى يتبع استراتيجية الحوار والتفاوض، إذ شغل «ظريف» مناصب عليا فى عدة حكومات إيرانية واستقطب اهتمام المجتمع الدولى لما يمتلكه من رؤية استراتيجية فى التعامل مع الأزمات الإقليمية والدولية.
ضغوظ داخلية
خلال الشهور الأخيرة، تفاقمت الضغوط التى يتعرض لها «ظريف»، لا سيما قانون الوظائف الحساسة، الذى يفرض معايير صارمة على المناصب الحيوية فى إيران. فالقانون، الذى «يهدف إلى حماية السيادة الوطنية والحد من التدخلات الأجنبية»، أصبح أداة سياسية فى يد التيار المحافظ لاستهداف مسئولين يتعاملون مع قضايا حساسة قد تُرجّح كفة التيار الإصلاحى فى صراع السلطة.
صدر قانون شغل المناصب الحساسة فى الثانى من أكتوبر 2022، حيث يمنع حاملى الجنسية المزدوجة، أو من يرتبطون بأزواج أو أبناء يحملون جنسية أخرى، من تولى مواقع حساسة، لا سيما الاستشارية ومنصب نائب الرئيس، وأمضى «ظريف» سنوات فى العمل ضمن الوفد الإيرانى لدى الأمم المتحدة فى نيويورك، أنجب خلالها اثنين من أبنائه، ما منحهم الجنسية الأمريكية بحكم الولادة، رغم أنهم يقيمون حاليًا فى إيران.
كانت قضية الجنسية الأمريكية التى حصل عليها أبناء «ظريف» الورقة الأهم فى يد التيار المحافظ، وسط تقارير تحدثت عن مدى تأثير ازدواج الجنسية على الرأى العام، وعلى مواقف نخب سياسية تطالب بمراجعة منصب وصلاحيات «ظريف» قاد الضغوط رئيس البرلمان الإيرانى، محمد باقر قاليباف، الذى اقترح على «ظريف» الاستقالة بدلًا من الإقالة.
وجد «ظريف» نفسه فى مناخ سياسى مضطرب دفعه إلى الاستقالة، فى محاولة لمواجهة تداخل الاعتبارات القانونية والسياسية والشخصية. يرى معارضو «ظريف» أن تعيينه فى منصب مساعد الرئيس للشئون الاستراتيجية كان خطوة غير قانونية، نتيجة جنسية أبنائه، ما أسهم فى تزايد الشكوك حول قدرة «ظريف» على الاستمرار فى ممارسة دوره الرسمى فى ظل هذه الضغوط المتزايدة عليه.
داخل البرلمان الإيرانى، كانت جلسة استجواب وزير الاقتصاد عبدالناصر همتى كاشفة، بعدما استخدم التيار المحافظ سلطته كأداة ضغط على حكومة الرئيس بزشكيان، حيث صوّت 182 نائبًا من أصل 273، على حجب الثقة عن الوزير، لكن خلال الجلسة نفسها، قال الرئيس الإيرانى: «كنتُ أعتقد أنه ينبغى التفاوض مع أمريكا، لكن عندما أعلن المرشد - على خامنئى - أنه لا يجب التفاوض مع أمريكا، قلنا: لن نتفاوض».
وينتقد الحرس الثورى الإيرانى الداعين إلى التفاوض مع الولايات المتحدة. وحذر مستشار القائد العام للقوات، الرئيس السابق لاستخبارات الحرس، حسين طائب، من أن «يؤول الوضع بالراغبين فى التفاوض إلى ما آلت إليه أوضاع الرئيس الأوكراني»، التى تعاملها إدارة ترامب بازدراء.
تداعيات الاستقالة
داخليًا، أثرت استقالة «ظريف» بشكل كبير على إدارة الرئيس «مسعود بزشكيان»، التى تواجه بالفعل تحديات كبيرة تتعلق بتحقيق الاستقرار فى ظل ظروف اقتصادية وسياسية صعبة. ففى ظل غياب شخصية تمتلك خبرات دبلوماسية عميقة ومعرفة واسعة بالمفاوضات الدولية، وجدت الإدارة نفسها مضطرة إلى إعادة تقييم الخطط الاستراتيجية التى تمهد للعلاقات الخارجية والداخلية، خاصة فى ظل تقلبات المشهد السياسى.
التداعيات الناتجة عن هذه الخطوة تمتد إلى ما هو أبعد من الجانب السياسى والإدارى، لتشمل أيضًا الجوانب الاجتماعية والإعلامية. فقد أعادت وسائل الإعلام الإيرانىة والدولية فتح النقاش حول مدى شفافية العملية السياسية فى إيران، وطبيعة اتخاذ القرارات الكبرى، وكيفية إدارة الأزمات السياسية فى ظل التغيرات العالمية التى تتطلب مستوى عاليًا من الدبلوماسية والمرونة.
خارجياً، أثارت استقالة ظريف تساؤلات عدة حول مستقبل المفاوضات النووية، التى كانت تشكل محورًا أساسيًا فى العلاقات بين إيران والدول الغربية. فقد لعب دوراً حاسماً فى صياغة الاتفاق النووى الموقع عام 2015، الذى كان بمثابة نافذة للحد من التوترات المتصاعدة فى الشرق الأوسط، وفى الوقت ذاته وسيلة لفتح قنوات جديدة للحوار والتفاوض مع القوى الكبرى.
تقديرات المستقبل
تبقى استقالة «ظريف» محط أنظار المحللين والمراقبين السياسيين، إذ تمثل انعكاسًا مباشرًا للصراعات السياسية المتشابكة داخل إيران. فقد يراها البعض فرصة لإعادة النظر فى السياسات الخارجية وإعادة رسم ملامح العلاقات الدولية، بينما يعتبرها آخرون مؤشرًاً على ضعف التماسك الداخلى، مما قد يؤثر على قدرة الدولة على إدارة الأزمات فى ظل تزايد الضغوط الخارجية.
يثير الحدث تساؤلات جوهرية حول العلاقة بين السياسة الشخصية والمؤسسية، ومدى تأثير المصالح الفردية على استقرار العمل الحكومى وثقة المجتمع الدولى. فقد أبرزت الاستقالة الحاجة إلى مراجعة القوانين والإجراءات المنظمة لتعيين وإقالة المسئولين فى المناصب الحساسة، بما يضمن توافقها مع التحديات المعاصرة ويحول دون استغلالها لتحقيق أهداف سياسية ضيقة.
شكّل دور ظريف فى الحوار مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة، جسرًا للتواصل ومحاولة لفهم المصالح المشتركة رغم الخلافات العميقة. لذلك، فإن غيابه يفتح الباب أمام تساؤلات حول مستقبل هذا الجسر الدبلوماسى، وسط توقعات بأن تعيد إدارة الرئيس بزشكيان النظر فى استراتيجيتها الخارجية، لتحديد ما إذا كان بإمكان شخص آخر الحفاظ على مسار التواصل مع القوى الكبرى دون الإخلال بمبادئ السيادة الوطنية.
يثير هذا الانقسام تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الخطوة (استقالة ظريف) تمثل انسحابًا استراتيجيًا أم تعبيرًا عن موقف سياسى يواكب تطلعات بعض الفصائل الداعية للتغيير.
وبينما يخشى البعض من تآكل الثقة بالنظام فى ظل عدم الاستقرار الاقتصادى والسياسى، يرى آخرون أنها فرصة لتجديد المشهد السياسى واستقطاب خبرات جديدة.
إعادة فتح باب النقاش حول دور ظريف فى المشهد السياسى الإيرانى مستقبلاً أمر لا مفر منه. فهل تنهى هذه الخطوة مسيرته السياسية، أم يعود من بوابات جديدة، وربما من خلال مبادرات دبلوماسية غير رسمية تهدف إلى إعادة صياغة العلاقات الخارجية؟ قد تُعتبر استقالته مرحلة انتقالية تتيح تجديد الكوادر داخل الدوائر الدبلوماسية.