الخميس 13 مارس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

«نكبة» فى الوعى الجمعى اليهودى لعنة غزة التوراتية

مرت 34 عامًا على اتفاقية الداهية شارون، التى أعلنها فى مايو 1994 بتسليم غزة وأريحا للفلسطينيين، وها هو ترامب يسعى لتحويل القضية إلى «نكتة». ظهر ترامب بعد الانتخابات الرئاسية حاملًا عرضًا شديد الغرابة، بطرد أهالى غزة وتحويل القطاع لمنتجع وريفييرا فاخرة، تحمل العلامة التجارية ترامب. ليعود السؤال: كيف لمدينة سلمها شارون كونها ملعونة لا يجب أن يطأها اليهود، أن تتحول لمنتجع؟، وكيف يبنى ملاهىٍ على أراض مشبعة بالدماء، وتطل على بحر شاهد على مذابح وحشية، وهواء ملىء بالهموم ودعوات المكلومين. 



لا يهتم ترامب كثيرًا بهذا الكلام، كما لم يهتم أجداده بما فعلوه فى جزيرة أرخبيل تشاجوس من إبادة وتنكيل، لتصبح مانهاتن خالية من سكانها الأصليين.

غزة بين الماضى والحاضر 

غزة فى طليعة الوعى الجمعى اليهودى نكبة، وفى أسفار التوراة ونبوءات «العهد القديم» وابل من اللعنات، وهى بذلك تنضم إلى شقيقاتها الكنعانية والفينيقية مثل صيدا وصور اللبنانيتين، وأريحا والخليل ونابلس الفلسطينية، وغيرها مما يسكن قائمة المدن الملعونة فى التوراة، والتى يجب خرابها والبعد عنها.

من المهم معرفة الجذور التوراتية لغزة، وكيف تفاعل السكان قديمًا مع هذه المنطقة المضطربة.

كانت غزة مصدرًا للصراع منذ بداياتها المبكرة، هى واحدة من خمس مدن فلسطينية على السهل الساحلى، وتشمل تلك المدن أيضًا أشدود وعسقلان وعقرون وجت، وامتدت من تل أبيب ويافا الحديثة جنوبًا.

هذه المدينة الخماسية للاتحاد الفلسطينى، هى التى ألهمت الإغريق لاحقًا للإشارة إلى البلاد بأكملها باسم فلسطين.

غزة واحدة من المدن التى فشل يشوع فى الاستيلاء عليها فى حياته، تاركًا هذه المهمة لسبط يهوذا، ومن المؤكد أنها لم تتطور أبدًا إلى أى وجود إسرائيلى مهم خلال الفترة التوراتية، وحسب المعتقد المتشدد فإنها حتى لو استولى عليها يهوذا، فإنها ستعود على الفور تقريبًا إلى أرض فلسطينية.

حسب النص التوراتى خطط أهل غزة لاغتيال شمشون، وبمجرد أن اكتشف الفلسطينيون مصدر قوته أخذوه أسيرًا إلى غزة، ثم جاء أعظم وأطول عصر سلام بالنسبة لبنى إسرائيل أثناء حكم سليمان، عندما سيطر على «كل المنطقة الواقعة غرب الفرات»، بما فى ذلك غزة، ولكن حتى فى عهد سليمان ظلت غزة فلسطينية.

فى آخر ذكر لغزة فى الكتاب المقدس، ضرب الملك حزقيا غزة ومواقعها. ومع ذلك احتفظ الفلسطينيون بوجودهم فى تلك المنطقة حتى فترة الهيكل الثانى.

نبوءات

حذر أربعة أنبياء من أن غزة كارثة وشيكة، تنبأ عاموس بأن نارًا إلهية ستلتهم أسوار غزة، وحذر صفنيا من أن غزة ستكون مهجورة «فى يوم غضب الله»، ووعد إرميا بالسيف، وحدد لاحقًا جيوش فرعون، وتنبأ زكريا بأن غزة سترتجف خوفًا وستُحرم من حكامها.

عاش عاموس قبل زكريا بحوالى 250 عامًا، لذا تشير هذه النبوءات أيضًا إلى مشاركة سلبية طويلة الأمد ومتواصلة مع غزة.

كثيرة هى أسفار التوراة التى تتحدث عن نبوءات «أنبياء» بنى إسرائيل حول غزة ولعناتهم عليها، وبما أن غزة مقيمة على «الإثم والمعصية» يورد «عاموس» فى سفره «أحكام الرب» عليها، فيقول: «هذا ما قاله الرب لأجل معاصى غزة المتكررة، وبالأخص لأنهم أجلوا شعبًا بكامله يقصد أنهم تاجروا بالأسرى العبرانيين إلى أدوم جنوب البحر الميت حكمتُ عليهم حكمًا لا رجوع عنه».

ويبدو أن غزة التوراتية كانت فوضى معقدة، على الرغم من أنها كانت بالتأكيد جزءًا من حدود إسرائيل، إلا أنها نادرًا ما تم احتلالها أو السيطرة عليها بالكامل، وظلت مأهولة بجيران معادين وعنيفين فى بعض الأحيان. وكما هى الحال فى غزة الحديثة، ظلت غزة مصدرًا دائمًا للتوتر.

تبدو رؤية إشعياء واضحة فوق غيرها، «لا ترفع أمة على أمة سيفًا، ولا يتعلمون الحرب بعد الآن».

ومنذ بدء العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، استشهد بنيامين نتنياهو مرات عدة بأسفار التوراة، اقتبس من «سفر التثنية» ثم استعان بـ«سفر إشعيا» حين أسقط توصيف «أبناء الظلام» على الفلسطينيين، و«أبناء النور» على بنى قومه الإسرائيليين.

كل ذلك يقود إلى استدعاء النظرة التوراتية لغزة، وكيف تعاملت نصوص التوراة مع هذه المدينة الكنعانية.

حمائم فى سماء القدس

فى كتاب مهم يحمل عنوان «حمائم فى سماء القدس» أو «كتاب القدس فى مفاوضات السلام» كتبه الحاخام الإسرائيلى مناحم كرايم، يقول: «قامت إسرائيل بالتنازل عن غزة وأريحا لأنهما ملعونتان، وقد حكم على إسرائيل بالتخلص منهما، لا يقربوها أبدًا التزامًا لما جاء بنص التوراة».

ولكن يبقى السؤال: لماذا سلام غزة وأريحا لا يتحقق؟

 لأنهما ببساطة تستخدمان فقط كورقة ضغط لكسب أصوات الناخبين فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، ولا بأس من سقوط ضحايا مدنيين ما دامت ستصب الأصوات فى صندوق الرئيس المحتمل.

هذا الإفراط فى استخدام القوة فى غزة ردًا على صواريخ «حماس»، ما كان له أن يحدث لولا وجود مناخ داعم له، خصوصًا من أطراف غربية رغم أنهم جميعًا يصفون أنفسهم بأبناء إبراهيم، ولكن الحقيقة كما جاءت فى الكتاب المقدس: «لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم»، فليس بدعم العنف والعنف المضاد يعمل أبناء إبراهيم، سواء كانوا من ذرية إسحاق أو إسماعيل».

غزة وأريحا

ما الهدف من خرافة سلام غزة وأريحا والحكم الذاتى، فى ظل سلسلة حروب وقصف وتدمير لقطاع غزة لأكثر من عشرات المرات، سواء أطلقت «حماس» صواريخ أو لم تطلق بعد سلام صفق له أغلب الحضور رغم جليد أوسلو، حيث كانت كواليس السلام المزعوم؟

كان اتفاق سلام غزة وأريحا قبل ثلاثين عاماً مجرد حبر على ورق، تآكل مع الزمن، بعد أن غابت عنه الحقيقة.

فإذا كان الوعد «التوراتي» لإبراهيم ونسله، فإن إسماعيل له أيضًا حق فيه، هذا إذا صدقنا بما جاء فى الوعد.

وعند سؤال الإسرائيليين عن أول ما يتبادر إلى أذهانهم عندما يفكرون فى أريحا، ستسمع كلمة «كازينو» (كان ياسر عرفات يدير كازينو هناك بين عامى 1998 و2000) أو ربما يقول بعضهم «المنطقة أ المحظورة» وقد يذكر البعض أريحا كونها المدينة التى تقع على بعد نصف ساعة شمال شرق القدس، باعتبارها أول مكان قاد فيه يشوع الإسرائيليين إلى الأرض بعد عبور نهر الأردن».

فى واقع الأمر، كانت أريحا أقدم مدينة مأهولة بالسكان بشكل مستمر فى العالم، خالية من أى وجود يهودى طبيعى على مر التاريخ.

 ومنذ عام 1994، عندما نصت مرحلة اتفاق غزة- أريحا من اتفاقيات أوسلو، على أن تقع الواحة الخصبة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية.

الإسرائيليون المتدينون يهمهم فقط أن يكون أهل غزة وأريحا مجردين من السلاح، وهو ما يحاول أن يفعله ترامب، بأن تتحول إلى منتجع أمريكي لا يمكن لليهود بحكم شريعتهم أن يطأوها، وإلا غضب الإله عليهم.

ولكن لماذا تعتبر إسرائيل الدولة القومية الوحيدة التى لا تزال شرعيتها موضع تساؤل؟ لأنها دولة حديثة، مصطنعة، وغير مستقرة، ولم تقدم للإنسانية سوى سلسلة لا نهاية لها من الحروب والمذابح العرقية، دولة غير متماسكة تاريخيًا، ولا ثقافيًا، ولا تخضع للمساءلة.

بعض التيارات اليهودية المتشددة تعارض وجود دولة يهودية لأسباب لاهوتية، ولكن هذا الموقف لا يقتصر على الحركات المتشددة، ويعتقد العديد من المثقفين اليهود أن القومية اليهودية لا تتوافق مع الأخلاق اليهودية: فالشعب اليهودى، كما يقولون، لا يستطيع أن يكون «نورًا للأمم»، ويملك القوة فى نفس الوقت، لأن القوة مفسدة.

 إن غياب الدولة والجيش سيكون الضامن النهائى للروحانية والأخلاق اليهودية، ومن بين الشخصيات الرائدة فى هذه الحركة اليهودية المعادية للصهيونية جورج شتاينر، أستاذ الأدب المقارن فى جامعتى أكسفورد وكامبريدج، والمفكر المشهور عالميًا. 

لا يعتبر شتاينر «يهوديًا معاديًا للسامية»، فهو فخور بهويته اليهودية، لكنه يعتقد أن الشعب اليهودى لا يمكن أن يكون له دور الشهادة على الأخلاق العالمية والعدالة، إلا فى حالة المنفى والبعد عن السلطة.

 وعلى وجه التحديد، فإن الصهيونية، من خلال منح السلطة لليهود، كانت ستقضى على هذا الوضع من النقاء الأخلاقى والمصير المحدد تاريخيًا للشعب اليهودى، مثل العديد من المثقفين الآخرين، يكره شتاينر القومية، لكن معارضته للصهيونية لا تنبع من رفض عام.

يقول هرتزل: «ما كان الله ليحافظ على شعبنا لفترة طويلة، لو لم يكن لدينا مكان فى تاريخ البشرية، إن ما يوحد اليهود، وما يميزهم كأمة، كما أن للألمان لغة وللسويسريين إقليم، هو إيمانهم: «نحن نعترف بأنفسنا كأمة من خلال إيماننا»، «إيماننا هو الشيء الوحيد الذى حفظنا». ولهذا السبب فإن التقليد اليهودى «مقدس وهكذا: «سيكون الحاخامون أعمدة منظمتى»، وسأكرمهم إنهم يرفعون الناس ويعلمونهم وينورونهم» أو مرة أخرى فى المؤتمر الصهيونى الثالث فى بازل: سوف يكون اليهود الفقراء فى روسيا «أفضل الصهاينة، لأنهم لم ينسوا تقاليدنا، ولأن مشاعرهم الدينية متجذرة بعمق».

بالتأكيد ليس جميع اليهود صهاينة ومتطرفين، وهذه حقيقة، فهناك من اليهود من يؤمن بالسلام والتعايش، ولكنهم ليسوا فى مواقع السلطة وصنع القرار، التى أصبحت حكرًا على المتطرفين من الإسرائيليين، بل هناك من المؤمنين اليهود من يرفض قيام دولة إسرائيل، ويعد قيامها مخالفة للتعاليم، مثل جماعة «ناطورى كارتا»، أى «حارس المدينة»، وهى حركة يهودية ترفض الصهيونية بكل أشكالها، وتعارض وجود دولة إسرائيل.