عودة نصف مليون مواطن لشمال غزة فى ملحمة التغريبة الفلسطينية «غزة منورة بأهلها»

داليا طه
سجل الفلسطينيون علامة تاريخية بارزة، بعودتهم فى النسخة الأولى للتغريبة الفلسطينية إلى شمال القطاع، باعتبارها أول عودة جماعية للاجئين والنازحين الفلسطينيين إلى أراضيهم.. سعى جيش الاحتلال الإسرائيلى منذ بداية عمليته العسكرية فى غزة لتغيير وجه القطاع بشكل كامل عبر نشر النقاط الأمنية وتمهيد الشوارع، ليوحى لأبناء القطاع أنه باق، إلا أن أبناء الشعب الفلسطينى صدموه بإصرارهم على العودة لديارهم ليقطعوا مسافة تتراوح بين 7 كيلومترات إلى 10 على الأقل، سيرًا على الأقدام ، عبر شارع الرشيد الساحلى.
نام أبناء غزة فى البر 48 ساعة فى النقطة الفاصلة وما إن دقّت الساعة السابعة صباح الاثنين حتى رأينا جحافل من العائدين إلى أرضهم وديارهم.
عبر ممرات غير ممهدة، وسيرًا على الأقدام، بدأ النازحون رحلتهم إلى شمال قطاع غزة، مع انسحاب الجيش الإسرائيلى من معبر نتساريم الذى يفصل الجنوب عن الشمال، بعد مرور 15 شهرًا من الحرب التى تركت آثارها المدمرة، فى ظل تنفيذ خطة وقف إطلاق النار التى انطلقت قبل أيام.
مشهد العودة لم يكن خاليًا من التحديات القاسية، بداية من عودتهم سيرًا على الأقدام فى طرق غير ممهدة إلى شمال قطاع غزة عبر طريق نتساريم ومن خلال شارع الرشيد «طريق البحر»، وكان التحدى الأكبر هو عودتهم فى ظل انقطاع المياه والكهرباء بشكل كامل، ووقوف العائلات أمام منازلهم التى تحولت إلى ركام، ليبقى السؤال حول كيفية استعادة الحياة الطبيعية وسط هذا الدمار.
قال المحلل السياسى الفلسطينى، الدكتور عزام شعث: إن العودة تأتى بمثابة رسالة واضحة للتمسك بالأرض ورفض التهجير القسرى أو «الطوعى»، الذى يتناغم مع الأطروحات الأمريكية الأخيرة بنقل سكان القطاع إلى مصر أو الأردن.
وتجمع مئات الفلسطينيين نهاية شارع الجلاء الذى يشق مدينة غزة إلى شمالها المدمر، مستكملين مسيرهم الطويل الذى بدأ منذ ساعات الصباح الأولى نحو ما تبقى من منازلهم، ويصرون على العودة إليها رغم تغير معالمها وتحولها إلى حجارة متناثرة.
فور وصول العائلات الفلسطينية إلى شمال قطاع غزة حتى بدأت بالبحث عما يأويها واستصلاح أى جزء يسير من منازلهم المدمرة للعيش فيه، ولجأ عدد من السكان لمراكز الإيواء التى دمرها كيان الاحتلال.
وتحتاج محافظتا غزة والشمال إلى 135 ألف خيمة وكرفان بشكل فورى وعاجل حسبما قال المكتب الإعلامى الحكومى، وذلك بعدما بلغت نسبة الدمار بالمحافظتين أكثر من 90 %.
قصص إنسانية
وامتزجت دموع الشابة إسراء جمال بمشاعر الفرح بعدما احتضنت شقيقيها بعد غياب قسرى لأكثر من عام، حيث تكرر ذلك المشهد فى جميع شوارع محافظتى غزة والشمال التى سيعود إليها قرابة مليون فلسطينى على مدار الأيام المقبلة أجبرتهم قوات الاحتلال على ترك منازلهم والانتقال إلى وسط وجنوب قطاع غزة.
وقال نضال أبو عودة، مواطن فلسطينى من بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، بينما يحاول منع نفسه من البكاء: «أخيرًا سوف أعود إلى منزلى. كنت خائفًا أن أموت بإحدى الغارات الإسرائيلية دون أن أرى مسقط رأسى».
وأضاف أبو عودة، بينما كان يحمل أنبوبة غاز على ظهره: «أنا أعلم أن منزلى مُدمر بالكامل، لكنى أريد العيش بجانب الركام إلى حين إعادة إعماره».
وقالت فتحية عبدربه، فلسطينية من سكان حى الشجاعية شرق مدينة غزة، أنها قررت المضى سيرًا على الأقدام تجاه منزلها المُدمر فى الحى: «أنا سأسير ما يقارب 10 كيلومترات، لكنى لا أشعر بالتعب، فحنينى وشوقى لمنزلى أكبر وأقوى من أى تعب قد أواجهه فى طريقى».
وتزامنًا مع تلك العودة، نشرت حركة حماس أفرادًا من أجهزتها الأمنية لتنسيق حركة السكان وتنظيم عودتهم، بينما اصطفت الجموع فى مشهد إنسانى منقطع النظير لاستقبال العائدين.
وحزمت أسرة صابرين معروف «الخمسينية» المكونة من 10 أفراد أمتعتهم من محيط مستشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح وسط القطاع، وتفكيك خيمتهم وحملها إلى وجهتهم الجديدة نحو مخيم جباليا الذى نزحوا منه تحت القصف والرصاص بعد اشتداد المعارك بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلى.
وقالت «صابرين»: «ما فى أى مكان بيعوض بيتنا فى جباليا، أنا نزحت وتركت بنتى وزوجها وأحفادى هناك، ولحد هلا ما بعرف عنهم شىء، ومستنية بس السماح بعودتنا وأنا هروح ركض لهم، لو عايشين هضمهم ولو شهداء هدور على رفاتهم وأدفنها».
استقبال النازحين
قررت بلدية غزة تزيين شارعى «الرشيد وصلاح الدين» بلافتات ترحيب واستقبال للأهالى الذين دفعوا ثمن الحرية والكرامة بالدم والأرواح، حيث كُتب عليها عبارات «غزة نورت بأهلها» و«أهل الكرامة أنتم»، فيما خطت أيادى الصامدين فى الشمال على جدران المنازل التى تعرضت للقصف جملة «سلام عليكم بما صبرتم» و«عودة أهل العز».
وقال مصطفى الشريف، أربعينى، أحد النازحين من مخيم الشاطئ، غرب مدينة غزة، «جاءتنى أخبار بعد نزوحى فى ثانى شهر من الحرب أن دارى المكونة من 3 طوابق قصفتها طائرات العدو وسويت بالأرض تمامًا، وشاهدتها بالصور اللى أرسلها لى الجيران بالمخيم وهى عبارة عن كوم حجارة، ولكن كل هذه الأخبار السلبية عن منزلنا لم تحبط عزيمتى وحماسى ولهفتى فى العودة والوقوف على أنقاض بيتى ونصب الخيمة فوقه لحين تعميره من جديد بفضل الله».
وضع مأساوى
ويواجه العائدون إلى محافظتى الشمال أوضاعًا صعبة حيث بلغت نسبة الدمار فى المحافظتين أكثر من 90 % من المبانى والبنية التحتية وفقًا للسلطات التابعة لحركة حماس فى القطاع.
وقالت السلطات فى قطاع غزة: إن الفلسطينيين فى محافظتى غزة والشمال بحاجة إلى 135 ألف خيمة وكرفانً بشكل فورى وعاجل.
وأضاف المسئولون الفلسطينيون: «أطلقنا نداءات عاجلة لتزويد النازحين إلى شمال القطاع بالمساعدات»، لافتين إلى أن شمال غزة بلا وقود، ولم يصل لتر واحد من الوقود أو الغاز أو البيوت المجهزة للنازحين، بجانب أنه لم يتم توفير سوى 800 خيمة بحجة إجراءات متعلقة بالشحن للقطاع.
وأشار الدفاع المدنى فى غزة إلى وجود نحو 10 آلاف شهيد لا يزالون تحت الأنقاض، مؤكدًا عدم امتلاك الدفاع المدنى المعدات اللازمة لانتشالهم، كما أوضح أن خدماته قد خرجت عن الخدمة بالكامل فى محافظات شمال غزة، ما يعوق عمليات الإغاثة والإنقاذ بشكل كبير.
غضب إسرائيلى
شهدت إسرائيل ردود فعل غاضبة على مشاهد عودة مئات الآلاف من النازحين الفلسطينيين إلى شمال قطاع غزة، فى إطار اتفاق وقف إطلاق النار وصفقة تبادل الأسرى مع حماس.
وانتقد وزير الأمن القومى الإسرائيلى السابق عضو الكنيست إيتمار بن جفير بقوة إعادة الفلسطينيين إلى شمال قطاع غزة، واصفًا الخطوة بأنها «انتصار واضح لحماس» واعتبرها جزءًا من صفقة غير مسئولة.
وقال: إن «هذه ليست ملامح نصر مطلق، بل استسلام مطلق»، مؤكدًا أن إسرائيل قد قدمت تنازلات كبيرة. كما تساءل فى نقاش فى لجنة الخارجية والأمن: «كم دمًا ستكلفنا هذه الصفقة؟»، مشيرًا إلى أن هذه الإجراءات ستؤدى إلى تدهور الوضع الأمنى.
وردت عضو الكنيست ميراف كوهين على بن جفير منتقدة الحكومة قائلة: «لماذا لم يتم حل الحكومة بسبب تحويل الأموال لحماس؟»، مما يعكس الخلافات السياسية الداخلية حول إدارة الأزمة.
وشدد وزير الطاقة الإسرائيلى، إيلى كوهين، على أن «الكابينت لم يوافق فى أى مرحلة ولن يوافق على أن تسيطر حماس على قطاع غزة».
وأضاف: إن إسرائيل «عازمة على الاستمرار حتى القضاء على حكم حماس»، معتبرًا أن الآلاف من الفلسطينيين قد قتلوا فى الصراع وأن حماس تمثل تهديدًا مستمرًا.
وأضاف كوهين: «الآلاف فى غزة قتلوا، والعدو يرى الثمن الباهظ الذى يدفعه كل من يعتدى على إسرائيل».
وتابع قائلًا: «الآلاف يعودون إلى مكان دمر بالكامل، حيث لا توجد بنية تحتية، وقد قُتل فيه أكثر من 40.000 شخص».