السبت 12 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الطريق الثالث.. متى يصطف «البنيان المرصوص» على «أرض الميعاد»؟! أزمة «الفكر العربى» تتحدى «العقل العبرى» بعد الطوفان

الطريق الثالث.. متى يصطف «البنيان المرصوص» على «أرض الميعاد»؟! أزمة «الفكر العربى» تتحدى «العقل العبرى» بعد الطوفان

كانت «أزمة العقل العربى» عنوانا لمناظرة مهمة وشهيرة جرت مطلع تسعينيات القرن الماضى بين قطبين كبيرين من أقطاب الفكر العربى المعاصر، هما الدكتور فؤاد زكريا، والدكتور محمد عمارة، وقد استضافت قطر هذه المناظرة التى جاءت فى سياق سلسلة من مناظرات كانت تجرى لأهداف خفية ظهرت حقيقتها بعد سنوات، وللأسف تسببت إحداها فى اغتيال المفكر المصرى الكبير فرج فودة، رحمه الله.



وبعيدا عما خفى من أهداف تلك المرحلة عربيا، والجهود المبذولة وقتها لمحاربة العلمانية لصالح المد السلفى والإخوانى المدعومين خليجيا، فما يهمنا هو أن محتوى الندوة كاملا نُشر فى كتاب متاح منه نسخة (pdf) على الإنترنت لمن يرغب فى التوسع والاستزادة حول ما نناقشه ويعقد ما يطيب له من مقارنات ومقاربات عن «الأزمة» فى جيلين.

أزمة أزلية

وبرغم الفارق الزمانى الذى يفصلنا عن هذه الندوة، لكن من يقرأ الكتاب ويستدعى زمانه سيشعر وكأن العقل العربى تجمد منذ التسعينيات محافظا على انشطاره العدائى حتى اليوم، ومرجع هذا الانشطار كان زيارة الرئيس السادات إلى الكنيست الإسرائيلى والصلح المنفرد الذى عقدته مصر مع دولة الاحتلال.

وكأن ما مر على العالم وعليه من عصر الإنترنت وصولا إلى الذكاء الاصطناعى لم يغير من جوهر المشكلة، صراع بين طرفين، عجزنا حتى عن منحهما مسمى علميا صحيحا يعبر عنهما بدقة، لأن وصفهما بصراع «الأصولية والعلمانية» مثلما كان فى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى لا يعبر عن شمولية التناقض الذى تفرع مع الزمن إلى تناقضات أخرى، خلقت صراعات أشرس، فى مقدمتها صراع العصر بين الدولتين «الدينية والوطنية».

وتشتد صراعات العقل العربى عند استخدام الدين فى تحقيق أهداف سياسية، وهو ما كشفه بشكل فاضح تراجع تأثير (التابع) عندما أوقف (المتبوع) تمويله، ويمثل تراجع النفوذ السلفى فى السنوات الأخيرة تأكيدا على ذلك. وأيضا ما نعيشه اليوم من تراجع دور الأذرع الإيرانية، ظنى أنه مرتبط فى جزء كبير منه بتردى أوضاع الاقتصاد الإيرانى وضعفه وعدم قدرته على سداد فواتير المقاومة الدينية التى صنعتها طهران واستثمرت فيها لسنوات، وحصدت حلوا ومرا من ورائها فيما حصدنا نحن العرب فقط الخسائر على الدوام.

أذرع إيران

وقد ولد تيار المقاومة الحالى من رحم الثورة الدينية فى إيران سنة 1979، والتى وضعت منذ اللحظة الأولى الرئيس السادات فى خانة العدو، ليس لأنه بطل السلام مع إسرائيل ولكن لأنه استقبل شاه إيران المخلوع محمد رضا بهلوى لتحتضنه مصر بعد أن رفضه العالم، حتى وفاته فى يوليو سنة 1980، وبلغ حقد إيران (آيات الله) على الرئيس السادات، أنهم أطلقوا اسم قاتله فى حادث المنصة فى احتفالات أكتوبر سنة 1981، خالد الإسلامبولى، على أحد ميادين طهران العاصمة. 

فيما بدأ اهتمام إيران الملح بمحاصرة إسرائيل والمتاجرة بالقضية الفلسطينية مع زمرة المتاجرين بها من العرب، فى أعقاب هزيمتها من العراق سنة 1989 ثم انطلاق مشروعها النووى مطلع التسعينيات، وبات ضروريا امتلاكها لأوراق تأثير فى المنطقة توظفها فى علاقتها مع الغرب. 

وكان حزب الله هو ميليشيا البداية بحكم الاتفاق المذهبى، فأجزلت له طهران العطايا من الدعم المالى والعسكرى. ثم انتشرت الأذرع الإيرانية لتعبث بأوضاع عواصم عربية أخرى، لتجمع ما وصفته إسرائيل بـ«حلقة النار» حولها.

وحلة الدين السياسى

لقد أدخلتنا إيران وعمقت انغراسنا فى (وحلة) الدين السياسى كوجه شيعى يقابله جماعة الإخوان المسلمين السنية، والتى تمثلها حركة حماس، وكلتاهما رسخت ثأرا (افتراضيا) بين الإسلام والتوراة، وهو ما يرضى إسرائيل المتطرفة ويجد صدى كبيرا فى العقل الصهيونى الذى مسخ اليهودية وحرف تعاليمها ليجعلها مطية تحقق أهواءه السياسية (كما يفعل نتنياهو)، فاستباح السرقة والقتل بلا حدود وهى أمور ترفضها كل الأديان.

وما لنا لا نتعلم من إسرائيل وننقل عنها كيف استوعبت المتناقضات وهيأت المناخ وقلصت الفجوات بين انقسامات العقل العبرى وأدارت ملف أزماته التى لا تتوقف ولن تنتهى، وأهمس هنا فى أذن المتغطرسين الرافضين الاعتراف بقدرات إسرائيل، خوفا علينا من الانبهار بالعدو، وأقول لهم إن الخوف الأكبر هو الانغلاق على الذات ظنا أنها تصنع المعجزات، ثم فى لحظة تتعرى على حقيقة مؤلمة، وهزيمة نكراء.

لا نختلف على أن إسرائيل هى عدونا الحقيقى، ونثمن دور أى مقاومة وطنية تناضل بشرف ضد احتلالها للأراضى الفلسطينية أو أى أرض عربية أخرى، ونرفض رغبتها فى إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتوافق مع مصالحها، ومحاولتها أن ترث الدور الإيرانى فى المنطقة وتمد أذرعها للهيمنة على ثروات العرب، مثلها فى ذلك مثل أى محتل أو مستعمر آخر. لكن هذا لا يمنع من أن نراها بعين مجردة ونمنحها حجمها الحقيقى، ولا ننخدع بقدراتها المطلقة ونتخيلها وحشا كاسرا، ولا نراها وهما يسهل سحقه ونبالغ فى أحلامنا مع حماس وحزب الله ونتخيل إمكانية سحقهما لجيش الاحتلال الإسرائيلى المدعوم أمريكيا.

أزمة العقل العبرى!

أما كيف تعاملت إسرائيل مع «أزمة العقل»، رغم شتاته وانشطاراته، ورغم تطرفه وشطحاته؟ وهنا لا نبالغ إن وصفنا مشروع دولتهم (الذى نرفضه) بأنه كان سياجا مثاليا جمع كل الاختلافات ونسقها لتكون حلما عاما يخدم أهداف المشروع، فتصالحت التناقضات وتضافرت الجهود تدفع مسيرة الدولة العبرية للأمام، وداخل هذا السياج السحرى يكمن الخطر، لأن سقوط أكذوبة «أرض الميعاد» ومعها باقى ضلالات المشروع الصهيونى وانكشافهم، يفجر هذا المجتمع ويفككه، ولا يقدر على ذلك إلا عقل قوى وفكر سديد، وهو كنز دفين لدى الغرب لا يوظفونه، لأن عقلهم أسير التأويل الدينى الخاطئ.

لدينا نحن العرب ما يجمعنا ويجعلنا «بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ» ولكننا انقسمنا إلى فرق متنازعة وفشلنا فى إدارة ثروتنا من التنوع، وانخرطنا وقبل المشروع الصهيونى بقرون فى تأجيج النعرات وإثارة القبليات والتعصب للآراء والمذهبيات. ولعل الاستدلال الدينى بالآية الكريمة من سورة «الصف» لا يهدف إلى تغليب كفة الدين فى خلطة العقل العربى المعاصر، لكنها إشارة إلى أنه جزء يجب ألا نخجل منه فى المكونات المتفردة لهذا العقل، الذى يمتلك أيضا تراثا حضاريا عظيما، وحاضرا متفردا رغم ما يحاصره من انحطاط وتفاهة.

المدخل القويم

ولعل المدخل القويم لجمع شتات هذا العقل، واستيعاب تناقضاته، هو التشخيص السليم للأزمة المزمنة، وأنقل عن الدكتور فؤاد زكريا ما قاله فى المناظرة الشهيرة التى افتتحت بها مقالى، حيث قال: «إن أزمة العقل العربى فى جوهرها أزمة الفكر العربى، يعنى المضمون نفسه، محتوى التفكير الذى تمتلئ به عقولنا. الأزمة هنا أزمة إبداع. أزمة افتقار إلى الإبداع». ويوضح المفكر الكبير: «وكل إبداع مرتبط بالممارسة. والممارسة مرتبطة بالحرية. والحرية مرتبطة بالديمقراطية».

وللحديث بقية.