
نبيل عمر
الإسرائيليات.. أصل الحكاية ودور الأزهر!
إذا كانت تنقية تاريخ قدماء المصريين وملوكهم من (الإسرائيليات) عملاً مهمًا للغاية، حماية لحضارتنا وقيمتها الإنسانية، فإن تنقية التراث الإسلامى من هذه الإسرائيليات، وهى ليست قليلة، فرض لا نستطيع تأجيله أو تجاوزه، تصحيحًا لتفسيرات شائعة وأحاديث نبوية ليست قليلة.
ولفظ الإسرائيليات جمع، مفرده إسرائيلية، وهى قصة أو حادثة تُروى عن مصدر إسرائيلى، والنسبة فيها إلى «إسرائيل»، وقالت الإسرائيليات إنه هو النبى يعقوب ابن سيدنا إبراهيم وإليه يُنسب اليهود، وإن كانت ثمة كتابات تنفى أن إسرائيل ويعقوب شخصا واحدا، وتستند على قرائن واردة فى القرآن الكريم.
وتُعرَّف الإسرائيليات بأنها كل ما دسه بنو إسرائيل فى السيرة والتفسير والأحاديث، وتوسّع بعض المفسرين فعدوها كل ما دسّه أعداء الإسلام من أخبار مصنوعة لا أصل لها فى مصدر قديم، والغريب أن كثرة من رجال دين فرضوا حماية فائقة على كتب التراث المحملة بهذه الإسرائيليات، كما لو أنهم يحافظون على الدين، مع أنّ كاتبيها بشرٌ، والبشر مجتهدون خطاؤون، ولا عصمة لما يكتبونه أو يبدونه من آراء وشروح وتفسيرات.
فى كتاب «الإسرائيليات وأثرها فى كتب التفسير»، وهو رسالة دكتوراه فى الحديث والتفسير من جامعة الأزهر للدكتور رمزى نعناعة يقول فى مقدمته: كان من آثار ضعف الاشتغال بالسنة وعلومها وتساهل بعض المفسرين والإخباريين فى نقل الروايات الدخيلة على الإسلام فى كتبهم، أن راجت سوق الإسرائيليات وانتشرت فى كتب العلوم: كالتفسير والوعظ والتصوف والأخلاق وغيرها، كما انتشرت على ألسنة الناس وتلقوها بالقبول وشُغلوا بها وأذاعوها، فكانت بلاءً على الإسلام والمسلمين، وحجابًا فى فهم كتاب رب العالمين، ومثارًا للإرجاف والتشكيك من قبل المارقين والملحدين.
إذن نحن أمام عالم أزهرى يصرخ فينا بأنّ الإسرائيليات ما زالت تحتل مساحة غير قليلة من ثقافتنا الإسلامية، ومتى يعترف؟ فى القرن الرابع عشر الهجرى.. أليست هذه مُصيبة؟
لماذا لم نعمل على تنقية كتب التراث منها كل هذه القرون الطويلة؟
ربما لأنّ الإسرائيليات صاحبت عملية تدوين الحديث من أولها، وكانت أبواب الحديث متنوعة، ومنها باب التفسير، قبل أنْ يستقل التفسير علمًا بذاته، وقد حدث عند طواف علماء الحديث بالأمصار لجمعه، أن جمعوا معه تفاسير منسوبة إلى النبى أو إلى أصحابه أو إلى التابعين. وهؤلاء التابعون خلطوا التفسير بالإسرائيليات، فكثرة من الذين دخلوا الإسلام كانوا من أهل الكتاب، وما زال عالقًا بأذهانهم أخبار بدء الخليقة والكائنات وأسرار الوجود وكثير من القصص، والنفس الإنسانية ميالة بطبعها إلى التفاصيل وتهوى سماعها، فما بالك بأحداث يهودية رواها القرآن، فزجّوا بهذه الأخبار فى تفسير القصص القرآنية، ونقلها التابعون دون تحرٍّ أو نقد.
ويُفرد الدكتور نعناعة مساحة هائلة للروايات الإسرائيلية فى الحديث والتفسير في كتابه الذى تتجاوز صفحاته أربعمئة صفحة من القطع المتوسط، مما يُوجع قلوبنا ويهزّ عقولنا من جذورها: كيف سمحنا بهذا القدر من الإسرائيليات فى تراثنا الإسلامى؟
يجيب الدكتور محمد حسين الذهبى فى كتابه المهم «الإسرائيليات فى التفسير والحديث»: عن غفلة وسذاجة، أو لمجرد الشغف بالقصص وما فيها من أعاجيب تستهوى العامة.
وللأسف تباينت دوافع الذين أدخلوا هذه الإسرائيليات، إمّا عن تنطع وورع كاذب، كما فعل أبو عصمة نوح بن مريم، الذى وضع أحاديث عن فضائل السور لا أصل لها بالمرة، وبرّر فعلته قائلًا: رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبى حنيفة ومغازى محمد بن إسحاق، فوضعت هذه الأحاديث حسبة. وهو قولٌ خطير سواء كان صادقا فى دوافعه أو كاذبا.
هناك أحاديث للترغيب والترهيب، تحجج الواضعون لها بأن الكذب الحرام هو الكذب على رسول الله، أما مَن كذب له، بأن روّج لدينه وتعاليمه فلا يدخل تحت وعيده، بأنّ «مَن يكذب عليه متعمّدًا فليتبوأ مقعده من النار»، وهى حجة فاسدة؛ فالإسلام لا يعرف كذبًا أبيض وكذبًا أسود، ولا يبيح وسيلة محرّمة لغرض حلال.
والدكتور محمد حسين الذهبى كان من علماء الأزهر، وعهد إليه مجلس البحوث الإسلامية بالجامع المرموق أن يكتب بحثًا عن الإسرائيليات، يناقشه علماء المسلمين فى مؤتمر إحياء ذكرى مرور 14 قرنًا على نزول القرآن الكريم فى عام 1968.
ويرى الدكتور الذهبى أن الثقافة الإسرائيلية تسربت إلى الثقافة العربية قبل الإسلام بوقت طويل، إذ كانت جماعة من اليهود تقيم فى الجزيرة العربية من سنة 70 ميلادية، بعد أن فرّوا من اضطهاد وتنكيل «تيطس الروماني» حاملين معهم كتبهم الدينية وما يتصل بها من شروح، وكانت لهم أماكن يقال لها «المدراس» يتدارسون فيها ما توارثوه، وأماكن أخرى يتعبدون فيها.
لكن كان تأثر الثقافة العربية فى الجاهلية بثقافة أهل الكتاب محدودًا إلى حد ما، بسبب ضيق أفق العرب ثقافيًّا، لكن الأمر اختلف مع ظهور الإسلام وكتابه وهجرة الرسول إلى المدينة، التى كان يعيش فيها طوائف يهودية كبنى قينقاع وبنى قريظة وبنى النضير، وحولها يهود خيبر وتيماء وفدك.
وبحكم الجوار تبادل المسلمون واليهود العلوم والمعارف، خاصة أنّ القرآن قد حكى كثيرًا عنهم، ومع دخول جماعات من علماء اليهود وأحبارهم فى الإسلام، ومنهم عبد الله بن سلام، وعبد الله بن صوريا وكعب الأحبار وغيرهم، التحمت الثقافة الإسرائيلية بالثقافة الإسلامية بصورة أوسع وعلى نطاق أرحب، خاصة بعد أن شاع أنّ الرسول رخّص لأصحابه فى الحديث عن بنى إسرائيل، حيث قال لهم: حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج.
وكانت هذه هى البوابة التى تسللت منها الإسرائيليات إلى الثقافة الإسلامية: حديثًا وتفسيرًا. بينما سورة آل عمران تنهاهم عن ذلك تمامًا فى الآية 75: «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)».
وظل البعض من الصحابة والتابعين يختلفون إلى أهل الكتاب، أمثال: وهب بن منبه، وكعب الأحبار، وعبد الله بن سلام، وأضرابهم من أحبار اليهود، يسألونهم عمّا عندهم من العلم عن بدء الخليقة وقصص الأنبياء وسير الصالحين من أسلافهم.
ووصف عالم الاجتماع العربى العبقرى ابن خلدون العرب، بأنهم لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وغلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوَّفوا إلى معرفة شيء، مما تشتاق إليه النفوس البشرية فى أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى.
ويقول الأستاذ محمد فهمى عن هذه الروايات: وما أكثر ما حمل ابن عباس عن كعب الأحبار من الإسرائيليات، وجعلها تفسيرًا لكثير من آيات الذكر الحكيم، ونسج الوضّاعون على منوالها أضعافًا مضاعفة، وحشا بها المفسرون الأقدمون كتبهم، حتى جاء محمد بن جرير الطبرى فاستوعبها كلها فى تفسيره، وتناقلها عنه كل مَن تصدّى لتفسير كتاب الله مِن بعده بلا بصيرة إلا مَن عصم الله.
هذه قصة الإسرائيليات باختصار، والمدهش أنها ما زالت تعمل وشائعة بيننا، وحان الوقت لجامع له مكانته العلمية فى العالم الإسلامى كالأزهر أن يحذف هذه الإسرائيليات من طبعات جديدة لكتب التراث ويشير إلى ذلك فى مقدمتها!.