النسوية الإسلامية (الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ): السيدة مريم.. سيدة نساء العالمين! "116"
![](/UserFiles/News/2025/01/04/62791.jpg?250105100000)
محمد نوار
يرى البعضُ أن تعاليم الإسلام تنظر للأنثى نظرة دونية مقارنة بالذكر، وهى رؤية تأسَّست على فهم غير صحيح لآيات قرآنية، مثل قوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) الزخـرف 19، (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) الطور 39، (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى) النجم 21.
تبدأ قصة السيدة مريم قبل ولادتها حين نذرتها أمُّها لله تعالى: (رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي) آل عمران 35، قالت نذرت ولم تقل نذرنا، وقالت تقبّل منّى ولم تقل تقبّل منّا، وبذلك استقلت فى رغبتها فى النذر عن زوجها.
فى القرآن الكريم جاءت السيدة مريم نموذجاً للزهد فى الدنيا والبُعد عن الشهوات، والتقوى والإيمان الخالصين لوجهه تعالى.. ومريم هى المرأة الوحيدة التى سُميت باسمها إحدى سور القرآن، وجاءت قصتها فى القرآن الكريم مع ذكر اسمها فى سورة آل عمران، وفى سورة مريم.
وقد جاءت كلمة «ابنة» فى القرآن مرة واحدة مقترنة باسم «مريم»، وتم تعريفها بنسبتها إلى أبيها ولذلك كتبت بالتاء المفتوحة: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ) التحريم 12.
مدخل:
لم يخبرنا القرآن باسم امرأة عمران لعدم أهمية الاسم فى القصة، وجاء فى الروايات أن اسمها «حنا»، وهى أم السيدة مريم وجدة النبى عيسى عليه السلام: (إِذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّى إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) آل عمران 35-36، فكلام امرأة عمران هو ما جاء فى الآيتين وقد قطع كلامها جملة (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى) من قوله تعالى، ثم تكمل قولها.
النذر:
قالت (إِنِّى نَذَرْتُ) أرادت أن تقدم ما تصورت أنها ستلده ذكرًا ليكون فى خدمة الدعوة إلى الله، فلما ولدتها أنثى ظنت أن الأمر اختلف، ولكن يُطمئنها تعالى أنها وإن كانت أنثى لكنها ستكون سيدة نساء العالمين، فالذكور ليسوا هم فقط من باستطاعتهم فقط خدمة الدعوة إلى الله.
فى قوله تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّى إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) آل عمران 35-36، عمران هو أبو السيدة مريم وجد النبى عيسى عليه السلام، فقد أرادت امرأة عمران أن تقدم لله ما فى بطنها من جنين تصورته مولوداً ذكراً يكون فى خدمة الدعوة إلى الله، (مُحَرَّرًا) يعنى محرر من الأهواء لا يريد إلا وجه الله، والإنسان عليه أن ينوى نية طيبة، والله تعالى يعلم ماذا وضعت لأنه خَلق ما فى بطنها، فيقول تعالى أن المولودة الأنثى تختلف عن الذكر، وقد تكون الأنثى خيراً من الذكر، وكل منهما له خصائصه.
وحتى لا تكون الأنثى لها أفضلية؛ فقد تم تفسير (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) باعتباره من كلام امرأة عمران وكأنه اعتذار منها عن إنجاب أنثى، مع أن جملة (وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) هى جملة اعتراضية من قوله تعالى توسطت ما قالته امرأة عمران، ولو كان التفسير صحيحاً بأن الجملة من قول امرأة عمران لوجب عليها أن تقول: «وأنت أعلم بما وضعتُ» بضم التاء، وذلك بعد أن قالت (رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَا أُنثَى)، أمّا عن مسألة تفضيل الله تعالى للذكر على الأنثى فهى غير صحيحة؛ لأن الله تعالى مُنزّه عن التحيز لأحد، ولا يكرم خَلقاً على الآخر إلاّ بالتقوى والعمل الصالح.
ثم تقبّلها بأفضل أنواع القبول: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً) آل عمران 37؛ لأنها جاءت محررة من الشرك ومن الرغبات الدنيوية.
الاصطفاء:
وُلدت مريم يتيمة فتكفّل بتربيتها زوج خالتها النبى زكريا عليه السلام: (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) آل عمران 37، ونشأت مقيمة فى المحراب، وهو غرفة يعتزل فيها العابد وكأنه محارب للناس. فالقبول الحَسن والنشأة الحَسنة يتضحان فى الاصطفاء الأول بخدمتها لدينه تعالى بالرغم من أنها أنثى، ثم التطهير من المعصية، ثم الاصطفاء الثانى على نساء العالمين، وقد جاء عن النبى عليه الصلاة والسلام: «سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران».
كانت مريم تتعبد فى المحراب الذى لا يستطيع أحد دخوله إلا النبى زكريا، والذى وجد عندها طعامًا لم يأتها به فكان سؤاله: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا)، وكانت إجابتها: (هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) آل عمران 37.
ثم خاطبتها الملائكة: (إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) آل عمران 45.
فكانت مفاجأة للفتاة العابدة أن تحمل من غير زوج: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ) آل عمران 47، وكانت محنة بالنسبة لها ولكنها معجزة فى نفس الوقت، فيصدّقها المؤمنون ويكذبها الكافرون ويكون ابنها آية فى خَلقه.
وتخرج من محرابها إلى مكان بعيد تتوارى فيه عن الأنظار، ثم تفاجئها آلام المخاض فتلجأ إلى جذع نخلة لتضع حملها، وهى تنتظر الفضيحة وتتمنى أن تكون قد ماتت قبل هذا الامتحان: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا) مريم 23، أى تمنت لو كانت شيئًا مهملاً لا يهتم به الناس فينسونه، وفى هذه اللحظة تأتيها البُشرَى فيناديها مولودها: (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) مريم 24، أى سيدًا عظيمًا، (وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا. فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) مريم 25-26.
المواجهة:
فاستطاعت وهى ضعيفة أن تهز جزع النخلة فيتساقط عليها البلح، وأمّا خوفها من الفضيحة أمام قومها فعليها الامتناع عن الكلام وترك المولود الذى تحمله يقوم بالدفاع عنها: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) مريم 27- 28.
وكلمة البغاء من الأصل بغى بمعنى طلب وأراد أن يفعل فعلاً ما: (يا أيُّها النّاسُ إنَّما بَغْيُكم عَلى أنْفُسِكم) يونس 23، وكلمة بغى لا تدل بالضرورة على الفحش وإنما تدل على التعدى الحدود فى العمل: (فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِي) الحجرات 9، بمعنى قاتلوا التى تريد القتال وتقصده بالعمل.
و(بَغِيًّا) هى التى تريد وتطلب العمل بالفاحشة: (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) مريم 20، فقولها يشمل اللقاء برجل بشكل شرعى أو غير شرعى، فاستغراب قومها منها جاء فى قولهم: (وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) مريم 28، و(بَغِيًّا) هو اسم الفاعل من البغاء، فكلمة بغيّا تعنى امرأة أقامت علاقة جنسية محرمة، ولذلك تسأل السيدة مريم الوحى كيف يكون لها غلام وهى غير متزوجة ولم تمارس الفحشاء حتى تكون معرضة للحمل.
ثم أشارت إلى ابنها ليسألوه: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيًّا) مريم 29، فاستنكروا أن يكلموا طفلاً فأنطقه الله ليبين لهم الآية فى خَلقه: (قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا) مريم 30، ولقد أحاطت المعجزات بالنبى عيسى عليه السلام منذ بداية حَمل السيدة مريم به مرورًا بولادته ثم نُطقه وهو وليد يدافع عن أمّه.
ثم الإشارة إلى أن ذلك غيب جاء ذكره فى القرآن الكريم: (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) آل عمران 44، ثم نقلة إلى النبى عيسى وسلامه على نفسه يوم ولادته ويوم موته ويوم بعثه: (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) مريم 33،
قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) آل عمران 42، فالسيدة مريم تمثل نموذجاً للفتاة الحريصة على الطهر والعفاف: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ...) التحريم 11، (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) التحريم 12، يبين الله أنه ضرب للذين آمنوا المَثل فى الإيمان بالسيدة مريم التى حافظت على طهرها وعفتها وآمنت بالله وكانت متفانية فى عبادتها.
لقد أخلصت السيدة مريم فى العبادة حتى أصبحت سيدة نساء العالمين، واستحقت قول النبى عليه الصلاة والسلام: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران».