الإثنين 10 فبراير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

لا ميثاق.. لا دستور.. قال الله.. قال الرسول: الكارثة.. حزب سياسى للإخوان المسلمين فى مصر

تشهد الدوائر السياسية والحزبية والإعلامية فى مصر الآن أكبر وأخطر عملية تسويق من نوعها لفكرة «الحزب الدينى»، والغريب والمثير أن أكثر الذين يسوقون لذلك هم بعض الناصريين والقوميين والمنتمين إلى اليسار أصحاب الثأر السياسى والفكرى والتاريخى مع الجماعات الدينية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين المحظورة.. ومما يعطى هذه القضية الخطيرة بعدًا دراميًا يضعها فى خانة التحولات الغريبة والمفاجئة أو ما يمكن أن نسميه الملهاة السياسية أن الخلاف بين الفريقين لم يكن فقط مجرد خلاف سیاسى أو فكرى ولكنه كان أيضًا خلاف دم.



فالإخوان المسلمون يتهمون الناصريين والقوميين واليساريين والعلمانيين بأنهم سبب نكبة مصر وسبب معظم - إن لم يكن كل - الكوارث التى حلت بنا، ويتهمونهم كذلك بأنهم المسئولون عن قتل وتعذيب وتشريد آلاف المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين.. وفى المقابل يتهم الناصريون والقوميون واليساريون جماعة الإخوان المسلمين بأنها استغلت الدين للاستيلاء على السلطة وزعمت احتكارها للإسلام لتحقيق برنامجها السياسي، فحاولت اغتيال الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وأشعلت الفتنة فى البلد ومزقت استقراره ومن عباءتها خرجت الجماعات الدينية المتطرفة الأخرى التى قتلت وذبحت وخربت فى البلاد خاصة فى النصف الأول من التسعينيات.

ومع إيمانى الكامل بأنه لا توجد «صداقات دائمة» ولا عداءات أبدية، وأن أعداء الأمس يمكن أن يصبحوا حلفاء اليوم، وأنه لا توجد أفكار مقدسة وأن كل الأفكار قابلة للمراجعات، وأن تجاهل التطورات والتغيُّرات هو بمثابة عقم سیاسى يصيب أصحابه بالجمود والتخلف، إلا أننى لم أتصور أبدًا أن يروج الناصريون والقوميون واليساريون والعلمانيون لفكرة  «الحزب الدينى» التى طالما حاربوها بضراوة والتى طالما استلوا أقلامهم ودبجوا المقالات وأصدروا الكتب وعقدوا الندوات والمؤتمرات لمقاومتها وإثبات أنها ستقود البلاد إلى الفتنة والخراب والدمار.

أفهم أنه ليس مطلوبًا من أحد أن يقدس أفكاره.

ولكنه ليس مقبولًا منه أن يخونها.. فرق كبير بين أن تراجع أفكارك وأن تخونها ما يحدث خيانة للأفكار والمبادئ وليس مراجعة..... ليس معقولًا أن تحارب بالأمس الحزب الدينى باعتباره كارثة ستقود البلاد إلى الخراب والدمار ثم تأتى لتقنعنى اليوم بأن الحزب الدينى هو الحل، رغم أن كل التطورات السياسية والمتغيرات الدولية والإقليمية المحيطة بنا تثبت العكس وتؤكد أن احتكار الإسلام واستغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية قادا - وما زالا - الأمة الإسلامية إلى كوارث دامية.

من الطبيعى والمنطقى أن يدافع الناصريون والقوميون واليساريون عن الإخوان المسلمين تحت شعار حقوق الإنسان أو فى إطار الحديث عن الإصلاحات السياسية؛ ولكن لا يمكن أن يكون الحل هو إنشاء حزب دینی سیاسی للإخوان المسلمين.. ليس معقولًا أن أنقذ البيت بإشعال النيران فيه.. لأن إنشاء حزب سياسى لجماعة الإخوان المسلمين معناه فتح الباب على مصراعيه لإنشاء أحزاب دينية أخرى بما فيها أحزاب قبطية والخطورة الشديدة تتمثل فى أن الأحزاب الدينية تعتمد على تحريك المشاعر الدينية عند الناس، ثم استخدام هذه العاطفة لتحقيق برنامجها، تخيلوا أنتم لو سمحنا بإنشاء أحزاب دينية عديدة تتصارع على تحريك العاطفة الدينية عند الناس، وهى عاطفة عصبية جدا غالبا ما تكون متبوعة بالعنف. فكل طرف يعتقد أنه «الإسلام» وبالتالى هو على استعداد أن يموت من أجل الإسلام والعقيدة.

القضية ليست فى المطالبة بـ«فصل الدين عن الدولة» بعد أن أصبحت هذه العبارة سيئة السمعة  وكافية لاتهام صاحبها بالإلحاد والكفر ولذلك دعونا نستبدلها بالقضية الحقيقية وهى منع استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية ومصالح اقتصادية، والحيلولة دون احتكار الإسلام من قبل أى طرف.. لو فتحنا الباب لاستغلال الدين لتحقيق الأهداف والبرامج السياسية لاشتعلت الفتنة فى مصر ولتمزقت البلاد وغرقت فى بحور من الدم.

ولن نكرر الكلام التقليدى من أن الإسلاميين يستخدمون الديمقراطية للوصول إلى الحكم ثم يكونون أول من ينقض عليها بعد ذلك، ولا الكلام المعاد والمكرر فى مواقفهم من مؤسسات الدولة التى تتجلى فى الشعار الشهير الذى يرفعه التيار الإسلامى - بما فى ذلك الإخوان المسلمون فى كل أنحاء العالم الإسلامى وهو: لا ميثاق لا دستور.. قال الله.. قال الرسول.. إن مواقفهم من الدستور والقوانين الوضعية ومؤسسات الدولة معروفة ولكنهم - مدفوعين بالمناورة السياسية - غيروا  خطابهم السياسى والدينى دون التخلى عن مراجعهم ومناهلهم الفكرية الأولى.

وفى هذا الإطار ونحن بصدد مناقشة قضية «الحزب الدينى» الخطيرة ينبغى أن نعترف بأن جماعة «الإخوان المسلمين» بدأت تتحلى بالواقعية، وأعتقد أنهم استفادوا فى ذلك من تجربة حزب العدالة والتنمية فى تركيا، بل إن كل التيار الإسلامى فى المنطقة بدأ يستفيد من هذه التجربة المهمة والخطيرة، فقادة حزب العدالة والتنمية ومؤسسوه كانوا أعضاء بارزين فى حزب الرفاه التركى الذى كان يقوده «نجم الدين أربكان»، وقد توصلوا إلى نتيجة مفادها أن  «أربكان» ليس سياسيًا بارعًا لأنه يلعب فى منطقة «المستحيل» دون عبور منطقة «الممكن» وذلك بإصراره على إضفاء الطابع الدينى على كل تحركات حزبه وبنى كل خطواته على أساس دينى رغم أن تركيا دولة علمانية، وأن هذا الموضوع غير قابل للنقاش أو المساومة، وأن الجيش التركى يؤيد هذه العلمانية، وقد أدى عدم واقعية «أربكان» إلى حل الحزب، وهو ما دفع بعض قادته ممن حاولوا إقناع «أربكان» إلى تغيير بعض ممارساته وتعديل خطابه السياسى حفاظًا على الحزب وعلى رأسهم رجب طيب أردوغان وعبدالله جول إلى تشكيل حزب العدالة والتنمية. وقرروا منذ البداية التحلى بالواقعية التامة واللعب فى منطقة الممكن.

فهم يعلمون أن 99 % من سكان تركيا مسلمون وأن الإسلام هو المكون الأساسى لوعى الناس هناك، ولكنهم يعلمون أيضا أن علمانية الدولة فى تركيا والتى يحميها الجيش أمر غير قابل للمناقشة فقالوا: نحن حزب وسط ولسنا حزبًا دينيًا وقالوا لا نريد حكومة دينية. وقالوا: قضية الحجاب ليست من أولوياتنا. وقالوا نحن مع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وقالوا بالحرف الواحد: طورنا أنفسنا واعترفنا بالحقائق وأصبحنا أكثر عقلانية، نعم الإخوان المسلمون استفادوا من هذه التجربة ولكن الوضع فى تركيا مختلف فالجيش يحمى العلمانية هناك ولا يسمح بالمساس بها.

كان يجب على الناصريين والقوميين واليساريين المتحمسين لإنشاء حزب سياسى للإخوان المسلمين أن يطرحوا أولًا للمناقشة قضية «واقعية الإخوان الجديدة» بدلا من المطالبة بإنشاء حزب دينى لهم يقود البلاد إلى كارثة.

والسؤال الآن: هل انطلقت واقعية الإخوان الجديدة من مراجعة فكرية حقيقية أم أنها مناورة سياسية للعب فى منطقة «الممكن» تمهيدًا للدخول فى منطقة «المستحيل»؟!

من الواضح أننا لم نسمع عن أية مراجعة فكرية قام بها الإخوان المسلمون على غرار مراجعات الجماعة الإسلامية، مثلا رغم تحفظاتنا عليها، والإخوان جماعة مارست العمل السرى المسلح فى الأربعينيات والخمسينيات والستينيات وما زالوا متمسكين فيه. بكل مراجعهم ومناهلهم الفكرية ولم نسمع لهم عن مراجعة فكرية، يمكن أن تكون هى التى مهدت للواقعية الظاهرية التى يتحلون بها الآن الأمر الذى يجعلنا نجزم بأن هذه الواقعية ليست إلا مناورة سياسية، وعمومًا نحن مدعوون إلى مناقشة كل هذه الأمور ومناقشة مشكلة هذه الجماعة الدينية المحظورة التى لا ننكر وجودها القوى فى الشارع، وبحث سبل التعامل معها وكيفية استيعابها، إلا أن الحل لا يجب أن يكون أبدًا بأى حال من الأحوال هو السماح بإنشاء أحزاب دينية فى مصر لأن هذا الباب لو فُتِح فسوف يدخل البلاد فى دوامة الصراعات السياسية الدموية المتشحة زيفًا بالدين والإسلام.

والغريب أننا حينما نتناقش فى ذلك مع الناصريين والقوميين المتحمسين لإنشاء حزب سياسى للإخوان المسلمين نسمع منهم تبريرًا غريبًا، حيث يقولون: من قال أننا نوافق على إنشاء أحزاب دينية نحن فقط ندعو لحل مشكلة جماعة الإخوان المسلمين بإنشاء حزب سياسى لهم.

والكلام بهذا الشكل بمثابة «ضحك على الدقون» وتلاعب واستهزاء بمصير هذا الوطن لأننا نعلم جيدًا أن الإخوان المسلمين حزب دينى مهما ادعوا غير ذلك، ومرشدهم الراحل الشيخ عمر التلمسانى حدد ذلك بوضوح حينما قال: «لا يهمنا النصر السياسى بدخول مجلس الشعب، إنما الذى يهمنا تحقيقه هو نصر الله بتطبيق شرعه فينا»، الهدف واضح إذن وهو إقامة النظام السياسى الذى يطبق الشريعة الإسلامية. ثم إن السماح للإخوان المسلمين بإنشاء حزب سیاسی لهم يعنى السماح لكل التنظيمات والجماعات الدينية الأخرى بإنشاء أحزاب مماثلة وعلى رأسها الجهاد والجماعة الإسلامية، وهما الجماعتان اللتان نفذتا معظم العمليات الإرهابية الدموية فى مصر منذ اغتيال الرئيس السادات عام 1981 وحتى مذبحة الأقصر الشهيرة عام 1997، ويعنى السماح بإنشاء أحزاب قبطية. فهل يريد الناصريون والقوميون وبعض اليساريين المتحمسين للإخوان المسلمين أن تغرق مصر فى بحر الصراعات الطائفية والدينية.

وحتى نكون منصفين فعلينا أن نحمل الحزب الحاكم جزءًا كبيرًا من المسئولية عن ذلك فهو الحزب الذى يمكن أن يملأ الفراغ وأن يسد الطريق على مثل هذه الأحزاب التى يمكن أن تهدد استقرارنا.

من حق جميع القوى السياسية والحزبية أن تلجأ إلى أسلوب التحالفات والمناورات السياسية  لتحقيق أهدافها وبرامجها شريطة ألا يؤدى ذلك إلى إشعال النار فى البيت بكل ما فيه.

فـ«زفة» الحزب الدينى التى تدعو لإنشاء حزب سياسى للإخوان المسلمين والتى نشهدها الآن على الساحات السياسية والحزبية والإعلامية ليست إلا جنازة لدفن مصر.

والقضية مفتوحة للمناقشة.