الجمعة 3 يناير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

مع تآكل النظام الدولى الناشئ بعد الحرب العالمية الثانية العالم يميل إلى «الانحياز المتعدد» فى 2025

فى خضم تصاعد وتيرة الأحداث الدولية فى مختلف بقاع الأرض، والتراجع الملحوظ فى دور المنظمات متعددة الأطراف، وغياب الاتفاق بين الدول فى العديد من القضايا الفارقة، تخضع التحالفات والعلاقات الاستراتيجية فى مختلف أنحاء العالم لإعادة تعريف جديد بسبب التطورات الجيوسياسية، إلى جانب الأزمات الاقتصادية والأمنية الأخيرة. 



وأدت سلسلة من الأحداث الوخيمة خلال العقد الماضى إلى تأكيد المحللين السياسيين بوجود مؤشرات واضحة على تآكل النظام الذى نشأ بعد عام 1945، الذى تولت فيه الولايات المتحدة الزعامة العالمية فى نظام أحادى القطبية، بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتى سابقًا فى 1991؛ وذلك بعد تصاعد المنافسة الاستراتيجية بين واشنطن وبكين خلال السنوات الماضية، وصعود القوى الإقليمية إلى المسرح الدولى، التى بات دورها مؤثرًا على عدد من القضايا. 

وفى هذا الصدد، بات الحديث يدور حول تبلور شكل جديد للنظام الدولى، وإن كان ليس من المعروف طبيعة الشكل الجديد.. وفى الوقت الذى يسلط فيه المحللون السياسيون ضوء دراساتهم المتنوعة على المنتصر فى التنافس بين معسكرى (الغرب) -بقيادة «الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبى»، و(الشرق)، الذى يضم كلا من دول: «الصين، وروسيا، وكوريا الشمالية، وإيران»؛ إلا أن بعضهم لم يركز بالقدر الكافى، حول دور الدول الإقليمية، التى تعد قوى صاعدة فى معادلة النظام الدولى الجديد.

 

 أبرز مؤشرات تغيير النظام الدولى

 

لا شك بأن هيمنة (الغرب) على القوة العالمية أمر لا يمكن إنكاره، فكانت «الولايات المتحدة» الشريك التجارى الأكبر لمعظم حلفائها على مدى جيلين تقريبًا؛ وخلال تلك الفترة استعرض (الغرب) قوته فى مختلف أنحاء العالم.

 

ولكن، هذا الوضع لم يستمر طويلًا.. فرغم عدم تغيير شكل النظام الدولى حتى الآن، إلا أن آراء المحللين السياسيين تتفق لوجود بعض المؤشرات الفارقة، التى تشير إلى أن النظام الدولى قد يكون فى مرحلة انتقالية، فى ظل تمسك (الغرب) بمؤسسات القرن العشرين، بينما بدأت بعض دول العالم فى فرض جغرافيا جديدة. 

 

فعلى سبيل  المثال، أصبحت «الصين» - للمرة الأولى فى التاريخ- الشريك التجارى الأول لـ 120 دولة حول العالم، من بينها كتلة «الاتحاد الأوروبى». 

 

ووفقا لصحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية، تتاجر «الصين» –الآن- مع الدول التى توصف بالجنوب العالمى، أكثر من «الولايات المتحدة، واليابان، والاتحاد الأوروبى» مجتمعين؛ كما انضمت إلى (مبادرة الحزام والطريق) الصينية 155 دولة، تمثل %75 من سكان العالم، وأكثر من %50 من الناتج المحلى الإجمالى، وتمتد من شرق «آسيا» إلى بعض دول «الاتحاد الأوروبى».  

 

يأتى ذلك، فى ظل توقعات صندوق النقد الدولى أن تصبح «الهند» أسرع اقتصاد رئيسى نموًا فى العالم فى عام 2024. 

 

جديرًا بالذكر –فى هذا الصدد- أن «آسيا» ساهمت - فى عام 2021- بنحو %42 من الناتج المحلى الإجمالى العالمي؛ كما شكلت %53 من تجارة السلع العالمية؛ وليس الدول الغربية التى لا طالما سيطرت على المجال الاقتصادى.

 

إن البيانات والإحصائيات السابقة، هى مجرد مؤشرات صغيرة فى نمو المعسكر الشرقى –وتحديدًا «الصين»- بشكل ملحوظ خلال الفترة الأخيرة.

 

وعلى مستوى المؤسسات الجديدة، فمن الصعب تجاهل التقارب الواسع فى التجمعات الأوراسية، مثل: (منظمة شنجهاى للتعاون)، التى تضم كلا من دول: «الصين، والهند، وإيران، وروسيا، وكازاخستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وباكستان»؛ و(منظمة التعاون الاقتصادى)، التى تضم كلا من: «تركيا، وإيران، وأفغانستان، وباكستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وكازاخستان، وأذربيجان، وتركمانستان، وأوزبكستان». ونتيجة لهذا، فإن مؤسسات العالم الأوروبى الأطلسى، لا يعد فى مقدورها تحقيق النتائج التى تسعى إليها بسهولة، فى ظل وجود معسكر آخر يسعى للوصول أيضًا. 

 

إن ظهور أحلاف وشراكات جديدة، لم يتوقف عند المستوى الاقتصادى فحسب، بل وصل -أيضًا- للقضايا السياسية، وعلى رأسها (الحرب الروسية-الأوكرانية)، التى وقفت ضدها الدول الغربية؛ بينما أعربت العديد من الدول حول العالم عن استيائها من تجنيد (الغرب) لأنظمة العقوبات، والمقاطعات، ودبلوماسيته القائمة على مبدأ (معنا أو ضدنا)؛ والأسوأ منها، هو الاستياء الصريح من (ازدواجية المعايير) التى تعامل بها (الغرب) مع العدوان الإسرائيلى على «غزة».

 

وبالعودة للحرب الروسية الأوكرانية، فقد تفاجأ (الغرب)، الذى ضغط على أغلبية أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة للتصويت معه على إدانة «روسيا»، أن حفنة من البلدان صوتت ضد القرار، فيما امتنعت أخرى عن التصويت، ومن بينها: «الصين، والهند، وجنوب أفريقيا»، وغيرها، الذين تمثل شعوبهم نسبة كبيرة سكان العالم.

 

وحتى فى ما يتصل بالعدوان الإسرائيلى على «غزة»، فقد أبدى الكثير من العالم عدم موافقته على موقف (الغرب) الداعم للاحتلال، وتحديدًا «الولايات المتحدة».

 

جدير بالذكر، أن النظام الدولى -حاليًا- يشهد صورة أخرى من عدم الاتزان، بسبب تراجع دور المؤسسات الدولية، فكانت إحدى عواقب المنافسة بين القوى العظمى، هو شلل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ما رفع أصوات الدعوات التى تطالب بإصلاح وتحديث المؤسسات المتعددة الأطراف، مثل: الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، ومنظمة الصحة العالمية، والبنك الدولى، وصندوق النقد الدولى، وغيرها؛ نظرًا لأن هذه المؤسسات -بدرجات متفاوتة- غير فعالة بشكل متزايد فى صياغة الحلول لعدد متزايد من التحديات العالمية. 

 

بل على العكس، أصبحت العديد من المؤسسات المتعددة الأطراف منصات لسياسات (العين بالعين) وثنائية القطب بشكل واضح؛ ما يزيد من الانقسام بين معسكرى الشرق والغرب، ويغذى الغضب والاستياء من بقية الدول العالم، التى صارت ترى فى تلك المؤسسات أنها مجرد منصات مُحتكرة من قبل القوى العظمى، أو خاضعة لها بشكل مفرط. 

حركة «الانحياز المتعدد» 

على النقيض من حركة (عدم الانحياز)، التى سادت المشهد خلال الحرب الباردة، فإن العديد من البلدان حول العالم، وتحديدًا القوى الإقليمية الصاعدة فى الوقت الحالى، لا ترفض الانحياز، بل تسعى إلى الانحياز المتعدد بشأن قضايا محددة، استنادًا إلى حساباتها ومصالحها الخاصة، وهو نهج بدأت عدة دول فى اتخاذه، ومن المتوقع أن يكون العام المقبل تتويجًا له. 

 

بشكل أوضح، إن النظام العالمى المتفتت يؤدى لظهور مجموعة من التحالفات المتغيرة. فالقوى المتوسطة قد تفضل التحالف مع «الولايات المتحدة» أو مع «الصين»، أو مع كلاهما، اعتمادًا على طبيعة القضية والمصالح الخاصة وراءها. 

 

وهنا، ظهر مصطلح «الدول المتأرجحة»، الذى صاغه «ريتشارد فونتين، ودانييل كليمان» فى كتابهما (الدول المتأرجحة العالمية: البرازيل، والهند، وإندونيسيا، وتركيا، ومستقبل النظام الدولى) قبل أكثر من عشر سنوات؛ ويعنى «الدولة التى تتمتع بنفوذ كبير فى السياسة الدولية، ولكنها تختلف فى تفضيلاتها للتعاون الدولى».

بصورة مبسطة، يمكن القول إن حفنة من (الدول البراجماتية) بما فى ذلك: «الهند»، و «جنوب أفريقيا»، و«تركيا»، وبعض الدول العربية، وغيرها التى تعد مهمة فى إدارة بعض القضايا العالمية، ليست مستعدة للانحياز إلى أى من الجانبين «واشنطن»، أو «بكين».

فعلى سبيل المثال، تعد «تركيا» عضوًا فى حلف شمال الأطلسى  (ناتو)، -وفى الوقت ذاته- اشترت أنظمة أسلحة من «روسيا».

من جانبها، تعد «اليابان» -أحد أقرب حلفاء «الولايات المتحدة»- جزءا من اتفاقية تجارية إقليمية، تشمل «الصين»؛ وفى نفس الوقت، تلعب «طوكيو» دورًا دفاعيًا مهمًا فى الحوار الأمنى ​​الرباعى (كواد)، بالتعاون مع «الولايات المتحدة، والهند، وأستراليا» لمواجهة –ما يصفوه- بالعدوان الصينى. 

أما «الهند» التى هى جزء من مجموعة الدول الصناعية السبع (G7)، فهى -أيضًا- عضو فى (بريكس).

مدى تماسك معسكرى (الشرق) و(الغرب)

بالحديث عن تماسك معسكر الشرق خلال الفترة المقبلة، يمكن القول إن الطبيعة التبادلية للروابط الصينية، الروسية، الكورية الشمالية، الإيرانية مهمة، إلا أنها فى داخلها ليست بتلك القوة؛ إذ تخشى «الصين، وروسيا» من تحركات «كوريا الشمالية» ولا تثقان فيها بالقدر الكافى. 

والتعاون العسكرى بين الجانب الروسى والكورى الشمالى يستند لاحتياجات موسكو للأسلحة؛ بينما  تسعى «بيونج يانج» لفك عزلتها الدولية. 

ومن جانبها، تخشى «بكين» أن تؤدى الشراكة الناشئة بين «موسكو، وبيونج يانج» إلى تقليص نفوذها على «كوريا الشمالية». 

وفى الواقع، إن التقارب (الشرقي) الحالى مدفوع إلى حد كبير بالمعارضة المتبادلة للنظام الذى تقوده «الولايات المتحدة».

والعكس صحيح، لا تثق الدول الغربية فى بعضها البعض، خاصة مع قدوم الرئيس الأمريكى المقبل «دونالد ترامب» لكرسى البيت الأبيض لتولى فترة ثانية، الذى قد ينأى عن حلفائه الأوروبيين، ويسعى إلى استراتيجية (أمريكا أولًا). 

وبالمثل، قد يؤدى فوز اليمين الشعبوى فى «ألمانيا، أو فرنسا» إلى إضعاف التحالف عبر الأطلسى؛ وكذلك التكامل الأوروبى. 

وبعيدًا عن «أوروبا»، فإذا فازت المعارضة فى «كوريا الجنوبية» المشتعلة فى الوقت الحالى، فقد تنأى «سول» بنفسها عن «واشنطن».

على كل، إن هذه الديناميكية الثنائية القطبية المتجددة بين معسكرى (الشرق)، و(الغرب) غير متوازنة، ما يخلق معضلة أمنية، وسلوكًا متبادلًا من التنافسية، الممزوجة بالعدائية، حيث يسعى كل جانب إلى تعزيز أمنه على حساب الآخر، دون أن يفهم أن النتيجة النهائية، هى انعدام الأمن بشكل أكبر لجميع اللاعبين الدوليين.