
نبيل عمر
فقراء العالم يدفعون الثمن: رئيس أمريكا يدير بطريقة «اكسب واجرى»!
ربما نصدق، وربما لا نصدق، أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يعاونه 13 مليارديرا فى مناصب رسمية فى حكومته، ما بين وزراء وسفراء، ثرواتهم تتجاوز 460 مليار دولار، أى أكثر بـ60 مليار دولار من الناتج المحلى الإجمالى السنوى لأى دولة من التى يطلق عليها متوسطة الحجم، وعددها لا يقل عن مئة وعشرين دولة فى العالم!
فكيف يفكر ويعمل رئيس دولة هؤلاء هم معاونوه؟
باختصار، سوف يعمل بعقلية رجل الأعمال، وليس بعقلية السياسى، والفارق بين الاثنين هائل، رجل الأعمال نهّاز فرص فى عالم المال، بينما السياسى يتحرك فى دوائر أكثر تعقيدا، مالية واقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسة وعلاقات دولية ومصالح متضاربة مع الأصدقاء والأعداء.
أى أن الرئيس الأمريكى سوف يهتم أولا بأن يجمع أكبر قدر من النقود فى خزينة الولايات المتحدة أيا كانت وسيلته طالما هو قادر عليها، وإذا كان ترامب من أنصار خفض الضرائب على الأغنياء، بحجة تشجيعهم على الاستثمار والتوسع الرأسمالى، فالبديل لزيادة إيرادات الدولة هى «التعريفات الجمركية» على السلع المستوردة، خاصة إذا كانت قد تجاوزت فى العام الماضى 4 تريليونات ومائة مليار دولار، مقابل صادرات تقترب من 3 تريليونات و200 مليار دولار بعجز يقترب من 900 مليار دولار، فلم يعرف ترامب حلا فوريا إلا فى الرسوم الجمركية، ليتخلص من هذا العجز المزمن، على طريقة «اكسب واجرى»!
لكن المسألة ليست بهذه البساطة التى يتصورها رئيس أكبر اقتصاد فى العالم، فالاقتصاد إذا حكمته مناهج المالية العامة فقط، من عوائد وإنفاق، قد يقع فى مطبات يصعب الخروج منها، لأن الاقتصاد يُدار بمفاهيم طويلة الأجل، بينما المالية العامة تدار بمفاهيم عاجلة قصيرة الأجل، لسد عجز الموازنة أو العجز التجارى، بتدبير موارد وتقليل نفقات آنية، وقد أثبتت تجارب صندوق النقد الدولى مع الدول التى عالجت مشكلاتها الاقتصادية بمنهج المالية العامة فقط أن «النهايات» لا تكون سعيدة على الإطلاق، ولم يحدث أن خرج اقتصاد غربا أو شرقا من مأزقه بهذه السياسات المالية، من أول الأرجنتين إلى إندونيسيا، مرورا بالبرتغال واليونان وغيرها، والحل دائما فى السياسات الاقتصادية، أى فى كيفية رفع إنتاجية السلع والخدمات وتشغيل الطاقات العاطلة أولا، وهى السياسات التى تدفع بعربة المجتمع فى هذا الطريق الصحيح.
والسؤال بسيط وساذج جدا: من سيدفع هذه الرسوم الجمركية؟
ببساطة الشركات والوكالات التى تستورد سلعا من الدول التى فرض ترامب عليها تلك الرسوم، وهى كل دول العالم تقريبا، سواء كانت سلعا تامة الصنع أو نصف مصنعة أو مواد خامًا، وتضاف قيمتها على أسعار البيع للمستهلكين.. أى أن السلع المستوردة فى الولايات المتحدة سترتفع أسعارها ما بين %10 إلى 54 % حسب الشريحة التى وضعها ترامب لكل دولة!
أى أننا نتحدث عن موجة غلاء، فى البداية ستمس السلع المتبادلة بين دول العالم وأمريكا، ثم تنسحب تدريجيا على السلع المحلية، لأن التضخم يشبه الحجر الضخم حين تحركه من أى جانب يتحرك كله بالضرورة.
وتتصور إدارة ترامب أن رفع أسعار السلع المستوردة يعنى اتجاه المستهلكين الأمريكيين إلى السلع المحلية، مما يشجع على زيادة الاستثمارت ورفع حجم الإنتاج فى أمريكا، مما يزيد من حجم الضرائب المحصلة أيضا، المفهوم صحيح وجزء من طبيعة قوانين السوق، لكن مستحيل أن تكون السلع الأمريكية فى السوق الأمريكية أرخص من السلع الصينية مثلا، لسبب وجيه أن تكلفة العمالة فى أمريكا خمسة أضعاف تكلفة العمالة فى الصين، وتقدر نسبة تكاليف العمالة فى أى مشروع أمريكى بحوالى 45 %، وتكلفة العمالة الصينية تقل كثيرا جدا عن تكاليف نقل السلع من الصين إلى الساحل الغربى الأمريكى، وهذا العجز التجارى بين أمريكا والصين هو الأعلى لمصلحة الصين، ذات السلع الرخيصة جدا مقارنة بمثيلتها الأمريكية أو الأوروبية.
وأيضا لم يحسب الرئيس ترامب وإدارته رودود الأفعال المضادة، وهى التعريفات المماثلة على السلع الأمريكية، والسلع الأمريكية بطبيعتها غالية السعر، ومع تعريفات جمركية إضافية، ستخرج من سوق المنافسة لطبقات غير قادرة على دفع أسعارها فى أوروبا وكندا والمكسيك وبقية دول أمريكا اللاتينية والصين.
وطبقا لجدول الصادرات الأمريكية تأتى كندا فى المرتبة الأولى، وتصنَّف بأكبر شريك تجارى للولايات المتحدة، ثم المكسيك، وبريطانيا، والصين، واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية، وأكبر ثلاث دول فرضت أمريكا عليها رسوما هى: كندا والمكسيك والصين ويستوردون من الولايات المتحدة فى حدود 850 مليار دولار تقريبا!
ويصدرون لها بأزيد من هذا المبلغ بـ650 مليار دولار.
وبأى معيار، لا توجد طاقة إنتاجية غير مستغلة فى الولايات المتحدة تغطى الفارق الذى يمكن أن يحدث مقابل الواردات من هذه الدول، بينما هذه الدول تستطيع أن تجد بديلا أرخص للمنتجات الأمريكية، دون أن نهمل القدرة الشرائية العالية فى السوق الأمريكية، نظرا لارتفاع مستوى المعيشة.
باختصار قد يكون العالم مقبلا على حالة من الترقب، يصاحبها نوع من الكساد أو الركود، حتى يجد المنتجون ثغرات ينفذون منها إلى السوق الأمريكية، وأتصور أن الجمهور الأمريكى لن يقبل أو يتعايش بسهولة مع موجة قادمة حتما من ارتفاع الأسعار، خاصة أن الاقتصاد الأمريكى يواجه تحديات عديدة منذ فترة، منها تباطؤ النمو وارتفاع معدلات التضخم، ويتوقع الخبراء أن ينخفض معدل النمو من %2.8 فى عام 2024 إلى %2.2 فى العام الحالي.
وليس غريبا أن يدخل عدد كبير من شركات أمريكية تعتمد على الأسواق الخارجية فى دوامة عدم اليقين، فمالت حركتها إلى الركون وعدم الإقدام، حتى تتبين مواضع أقدامها.
من هنا يمكن أن نفهم كيف تغيرت مواقف أصحاب مليارات من سياسات ترامب، منهم كين لانجون، واحد من أكبر مؤيديه المتبرعين له، وقال إن تعريفات ترامب مرتفعة وعاجلة دون منطق، ويبدو أن هيئة مستشاريه يبدون له أراء سيئة، هل يعقل أن نفرض على فيتنام تعريفة تبلغ 46%، وأن نضع 34 % إضافية ، لترتفع على الرسوم أعلى السلع الصينية %54، هذه تعريفات عدوانية لا تمنح المفاوضات التجارية الجادة أى فرصة للنجاح.
ووصف بيل أكمان التعريفات الجديدة وهو أيضا من متبرعى حملة ترامب الرئاسية بأنها خطأ سياسى فادح. أما الملياردير ستانلى دراكنميلر، وكان مستشارا لوزير الخزانة فقد نشر على موقع أكس معترضا: لا أؤيد التعريفات التى تتجاوز %10.
وقال ويلبور روس، وزير التجارة فى ولاية ترامب الأولى، لصحيفة فايننشال تايمز: إن الشركات الكبرى يمكنها التعامل مع الأخبار الجيدة والأخبار السيئة على حد سواء، لكن من الصعب التعامل مع عدم اليقين، الخوف من المجهول هو الأسوأ للناس، ونحن فى فترة من الخوف الشديد من المجهول.
وفعلا لو نظرنا إلى النتائج العاجلة لتعريفات ترامب الجمركية، نجد فوضى تجارية عالمية تشبه بركانا ثار فجأة، قطعا لن تستمر، وسوف تهدأ وتسكن، لكن على حرب تجارية، بين القوة الاقتصادية الأولى على الكوكب، وبقية العالم، أى بين %26 لأمريكا و%74 لبقية دول العالم، وقطعا ستكون مؤلمة لجيوب غالبية سكان الأرض ومعيشتهم ، خاصة أن نصف هؤلاء السكان يعيشون على أقل من ست دولارات فى اليوم، و%26 منهم يعيشون فى فقر مدقع، وهؤلاء لا يفكر فيهم ترامب ولا مليارديراته!