من الشرق فى «سوريا» للغرب فى «كوريا».. أزمات تعصف بالداخل الآسيوى ثــورات الخريف الكورى الجنوبى

آلاء شوقى
ساعات قليلة انقلب فيها الوضع رأسًا على عقب داخل «كوريا الجنوبية»، وصارت محط أنظار العالم، ونقطة لتسليط الضوء الإعلامى، وسط دهشة صنَّاع القرار الغربيين، جراء التحولات السريعة التى اجتاحت المشهد الداخلى.. فى ظل تزايد التوقعات بأن ظاهر المشهد ليس كباطنه.
ففى خطوة مفاجئة اتخذ الرئيس الكورى الجنوبى «يون سوك يول» قرارًا بإعلان الأحكام العرفية فى البلاد مساء الثلاثاء الماضى، لتصبح المرة الأولى فى البلاد منذ عام 1980.
وقال الرئيس الكورى الجنوبى حينها، إن الأمر كان حاسمًا للدفاع عن النظام الدستورى للبلاد؛ موضحًا أنه أعلن الأحكام العرفية لحماية البلاد -مما وصفه- بتهديد القوات الشيوعية الكورية الشمالية، والقضاء على القوى المناهضة للدولة، والموالية لكوريا الشمالية، وحماية النظام الدستورى الحر!!
ومع انتشار الخبر، قامت سيارات الشرطة الكورية الجنوبية بحصار البوابة الأمامية للجمعية الوطنية (البرلمان)؛ بينما دخل العشرات من الجنود المسلحين إلى المبنى، بعد اقتحام المبنى عنوة من خلال كسر نافذة.
ولكن، أدى هذا الإعلان وتداعياته، إلى تصاعد الأحداث بشكل دراماتيكى، حيث اضطرب المشهد الداخلى بعد أن رفض النواب والشعب هذا القرار.
وصوت أعضاء البرلمان بـ190 من أصل 300 صوت، بمن فى ذلك أعضاء من حزب الرئيس الكورى الجنوبى الحاكم على رفض الإعلان؛ كما قال زعيم المعارضة «لى جاى ميونج» إن إعلان الأحكام العرفية «غير دستوري»؛ داعيًا الشعب إلى الاحتجاج خارج البرلمان.
وفى السياق ذاته، اندلعت اشتباكات بين آلاف المتظاهرين والجنود، والشرطة.
أدت هذه الفوضى السريعة، التى صدمت العالم، إلى رجوع رئيس «كوريا الجنوبية» عن قراره إجباريًا بعد نحو 6 ساعات من صدوره، حيث قال «يون سوك يول» فى خطاب وطني: «قبلت القرار الذى اتخذته الجمعية الوطنية بحل ورفع الأحكام العرفية».
إلا أن الأزمة لم تتوقف عند هذا الحد، بل قدم أعضاء المعارضة فى «كوريا الجنوبية»، التى تسيطر على الجمعية الوطنية، اقتراحًا بعزل الرئيس، حيث ذكرت وكالة أنباء «يونهاب» الكورية الجنوبية، أن 6 أحزاب معارضة، قدمت مشروع قانون إلى الهيئة التشريعية يدعو إلى عزل «يون».
كما تجمع الآلاف من المحتجين فى «سيول» للمطالبة باعتقاله.. وقالت أكبر نقابة عمالية فى «كوريا الجنوبية» الأربعاء الماضى -أيضًا- إن أعضاءها سيدخلون فى اضراب عام، لأجل غير مسمى، حتى يستقيل «يون».
إن الأحداث التى تغيرت فى ساعات قليلة فى «كوريا الجنوبية»، التى تعتبر نموذجًا للقوة الناعمة الآسيوية، أدخلت البلاد، منعطفًا حادًا فجأة فى اتجاه آخر، أقلق حليفتها المقربة -حاليًا- «الولايات المتحدة»؛ بينما لوّحَت بعض أصابع الاتهام إلى إشارات بتدخل خارجى فى المشهد الكورى الجنوبى، وتحديدًا من الجانب الروسى.
ولكن، لفهم هذا المشهد الغامض والمركب، يجب فهم المشهد السياسى الداخلى فى «كوريا الجنوبية» فى الوقت الحالى، بالتوازى مع المشهد العالمى المتغير، بسبب تنافس القوى الكبرى، جراء اختلاف المصالح. أحكام عرفية فى مواجهة انقسامات داخلية
فور صدور إعلان الأحكام العرفية، برزت عدة تساؤلات رئيسية على الساحة، أبرزها: ما هى طبيعة الأحكام العرفية الكورية الجنوبية، ولماذا اتخذها الرئيس الكورى الجنوبى فى هذا التوقيت، والسر وراء رد الفعل البرلمانى والشعبى العنيف؟!
إن الإجابات على تلك التساؤلات، هى ما تكشف طبيعة المشهد السياسى المضطرب داخل «كوريا الجنوبية»..
بداية، الأحكام العرفية، هى فرض بحكم مؤقت للجيش الكورى الجنوبى، وعادةً ما يتم اللجوء إليها فى أوقات (الحرب، أو التمرد، أو الكوارث الطبيعية).
ويؤدى هذا إلى تعليق جميع القوانين القائمة، بما فيها الحقوق المدنية العادية؛ كما يُعلن فيه حظر جميع الأنشطة السياسية، بما فى ذلك عمليات الجمعية الوطنية، والجمعيات المحلية، والأحزاب السياسية، والجمعيات السياسية، والتجمعات، والاحتجاجات.
ويتم اتخاذ هذه الخطوة عندما تعتبر السلطات المدنية غير قادرة على أداء مهامها.
ويذكر، أنه تم إعلان الأحكام العرفية 16 مرة، منذ تأسيس «كوريا الجنوبية» فى عام 1948. لذلك، فهى خطوة ليست جديدة على مسمع الرأى العام.
وعليه، فإن الأزمة تكمن فى ما لخصه المحلل الأمنى والدفاعى، والأستاذ الزائر فى كلية «كينجز لندن»، وجامعة «إكستر»، البروفيسور «مايكل كلارك»، الذى قال إن فرض الأحكام العرفية، كان محاولة من «يون»، لإحباط معارضيه السياسيين.
بصورة أكثر وضوحًا، تتبلور الإجابة فى الخلفية التى سبقت القرار، منذ التاسع من مارس 2022، حينما عقدت «كوريا الجنوبية» انتخابات رئاسية متقاربة النتائج، بعد أشهر من الحملات الانتخابية المتقلبة والمتوترة.
وأعلن -حينها- فوز مرشح حزب (قوة الشعب) المحافظ «يون سوك يول» -الرئيس الحالي- بحصوله على %48.56 من الأصوات، ليفوز بفارق ضئيل جدًا عن مرشح (الحزب الديمقراطي) «لى جاى ميونج» بفارق %0.73 فقط، وهو الفارق الأقرب على الإطلاق فى تاريخ البلاد، ما يشير لوجود انقسام سياسى داخلى في البلاد.
وفى المقابل، استحوذت المعارضة -الممثلة فى (الحزب الديمقراطي)- على البرلمان. ومن هنا، بدأ الصدام بين البرلمان والرئيس الكورى الجنوبى، بداية من 22 محاولة لعزلة فى البرلمان، وصولًا لخلافات قبل أيام قليلة من إعلان الأحكام العرفية، حيث خفضت الجمعية الوطنية ميزانية الحكومة للعام المقبل، وبدأت إجراءات لعزل رئيس هيئة التدقيق الحكومية، والمدعى العام الكورى الجنوبى.
أدى هذا إلى تصعيد جديد بين الطرفين، إذ احتج الوزراء على الخطوة التى اتخذها الحزب الديمقراطى، لخفض أكثر من أربعة تريليونات وون من اقتراح ميزانية الحكومة؛ كما انتقد الرئيس «يون» المعارضة، بسبب ما وصفه «دكتاتوريتها التشريعية»، التى أعاقت قدرته على حكم البلاد بشكل فعال.
ومع ذلك، لم تتوقف الأزمة عند هذا الحد، بل انعكست تداعياتها على الشعب الكورى، خاصة فى ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية، وارتفاع الأسعار، وغيرها من القضايا التى تشغل المواطنين، ما أدى لنشوب عدة احتجاجات منتظمة تطالب باستقالته، من بينها: عريضة تهدف إلى تقديم مشروع قانون للبرلمان، من أجل عزل «يون» على أساس أنه غير لائق للمنصب، وقعها أكثر من 811 ألف شخص، منذ 20 يونيو، حتى 1 يوليو الماضى.
هل هناك دعم خارجى للتوترات الداخلية الكورية؟
أشار عدد من المحللين السياسيين أصابع الاتهام لتدخل روسى محتمل فى تأجيج الأوضاع الداخلية لكوريا الجنوبية، بل وصل الأمر عند البعض بوصف ما حدث فى «سيول»، بأنه رد روسى لما فعلته «واشنطن» لتقويض نفوذ الأولى فى «سوريا»، بعد التصعيد الأخير فى «حلب» خلال الأيام القليلة الماضية.. أى أن التوترات التى حدثت فى «كوريا الجنوبية»، هي خطوة روسية تهدف -أيضًا- لتقويض النفوذ الأمريكى فى ذلك البلد.
ولكن، جدير بالذكر، أن الجانب الأمريكى نفى تورطه فى التصعيد السوري؛ بينما لم يُقدم -فى المقابل- دليلا واضحا على تدخل روسى محتمل فى الشأن الداخلى الكورى الجنوبى.
ومع ذلك، (لا دخان بدون نار).. والحديث هنا لا يدور حول العداء الروسى مع النظام الكورى الجنوبى الحالى فحسب، والناجم عن دعم رئيس «كوريا الجنوبية» باستمرار الجهود الغربية لمساعدة «أوكرانيا» فى مواجهة «روسيا»، وقبوله فرض عقوبات على «موسكو»، ما أدى لنيل استحسانه فى «واشنطن»، حيث كانت إدارة الرئيس «جو بايدن» سعيدة بتحالف «كوريا الجنوبية» بشكل أوثق، لتكون حصنًا أمريكيًا أمام «الصين، وكوريا الشمالية، وروسيا».
بل الحديث يدور حول بعض الإشارات حدثت فى الداخل الكورى الجنوبى، والتى أثارت شكوكًا حول تدخل روسي؛ وعلى رأسها اعتراض البرلمان الكورى الجنوبى على إرسال مساعدات عسكرية إلى «أوكرانيا» لتدعمها فى حربها ضد «روسيا».. كما حذرت العديد من الأصوات فى البرلمان من اتخاذ «سيول» موقفًا متشددًا ضد «موسكو».
وعلاوة على ذلك، أكد بعض السياسيين داخل «كوريا الجنوبية»، وتحديدًا الذين يؤيدون الحفاظ على العلاقات مع «روسيا»، أن من مصلحة «سيول» ترك الباب مفتوحًا للتعاون الاقتصادى مع «موسكو»، فضلا عن تقديم صورة «كوريا الجنوبية» بشكل أفضل فى النظام العالمى.. إلا أن هذا لم ينل استحسان الرئيس الكورى الجنوبى الموالى للغرب.
على كل، أثار موقف البرلمان الكورى الجنوبى الأخير بشأن المساعدات العسكرية لأوكرانيا شكوك بعض المحللين السياسيين فى وجود نفوذ روسى خفى داخل أروقة البرلمان، خاصة وأن تلك الواقعة ليست الأولى من نوعها.
فأشارت وسائل إعلام غربية منذ شهور قليلة، ومن بينها مجلة (The Diplomat)، التى تتخذ من «واشنطن» مقرًا لها، فى مايو الماضى، إلى وجود مؤشرات بأن «موسكو» مهتمة بدق إسفين بين «سيول»، و(الغرب)، بشأن «أوكرانيا»، وذلك أثناء عرض المجملة لتقرير، كان يدور حول تدخل روسى محتمل لمنع صفقة تصدير أسلحة كورية جنوبية إلى «بولندا»، تنقلها الأخيرة إلى القوات الأوكرانية.
وفى هذا الصدد، أفادت المجلة أن «كوريا الجنوبية» تتعرض لعمليات نفوذ روسية، عبر إقناع عناصر النخبة السياسية فى «سيول» بأن الحفاظ على العلاقات مع «موسكو» أكثر أهمية من السعى إلى عقد صفقات مع «وارسو»؛ مؤكدة أن «روسيا» قد تستغل الانقسام الحزبى داخل «كوريا الجنوبية»، من أجل تعقيد الشراكة الناشئة فى مجال الأسلحة بين «بولندا»، و«كوريا الجنوبية»، لعدم دعم «أوكرانيا».
وبعيدًا عن صفقة الأسلحة تلك، فكانت إشارات المجلة بالتدخل الروسى فى الداخل السياسى لكوريا الجنوبية، هى محل تساؤلات وسائل الإعلام الغربية خلال الفترة الأخيرة.
ويبقى السؤال، لماذا قد تفعل «موسكو» أمرًا كهذا؟!
وعليه، تفرض الإجابة الأكثر طرحًا حاليًا نفسها، وهى الشكوك الفعلية بأن ما حدث فى «كوريا الجنوبية»، هو رد روسى على «الولايات المتحدة»؛ خاصة بعد القلق الأمريكى الواضح من احتمالية عزل حليفها رئيس «كوريا الجنوبية» الحالى.
ويعود السبب وراء القلق الأمريكى، هو ما نوه إليه العقيد الأمريكى المتقاعد «سيدريك ليجتون» لشبكة (CNN)، إذ قال، إن: «أى حالة من عدم الاستقرار فى «كوريا الجنوبية» لها عواقب وخيمة على سياسة «الولايات المتحدة» فى منطقة المحيطين الهندى والهادئ»؛ مؤكدًا أنه كلما قل الاستقرار فى «كوريا الجنوبية»، أصبح تحقيق أهداف سياسة «الولايات المتحدة» أسوأ.
على كل، ستكون التطورات والاحتمالات فى «كوريا الجنوبية» الآن لتغيير القيادة موضع مراقبة عن كثب من جانب «روسيا» ومن بعدها «الصين»، اللتين تعارضان بشدة الوجود العسكرى الأمريكى فى «آسيا»، ما يجعل «واشنطن» فى حالة ترقب شديدة، لأنه لا يزال هناك الكثير من الأمور الغامضة فى المشهد، وليس على مستوى «كوريا الجنوبية»، أو «سوريا»، أو حتى «أوكرانيا» البعيدة؛ بل هو نتيجة طبيعة لحالة التغير -الواضحة- فى النظام الدولى الحالى.