سحر الأعداد الأولى وسر العدد 17: روزا.. فى البدء كانت فنية

عبدالله رامى
يظن البعضُ أن السيدة «فاطمة اليوسف» اعتزلت الفنَّ بتأسيس مجلتها بعد خلافها مع «يوسف بك وهبى»؛ لكن ما يبدو من الأعداد الأولى للمجلة أن «روزا» قررت إنشاء مسرحها الخاص؛ فكانت صفحات كل عدد بمثابة فصل جديد، تقول فيه ما تريد، مسرحية كانت هى بطلتها المنفردة فى البداية، وكأنه عرض مونودراما.
ربما يتأكد هذا بشكل واضح فى العدد 17؛ حيث يحمل غلافه صورة السيدة «روزاليوسف» بعنوان: «صاحبة المجلة»، الصورة التى تبعها توضيح داخل صفحات العدد بأنها نشرت نزولاً على رغبة القراء/ الجماهير. أو بمعنى آخر كانت الصورة بمثابة «سوكسيه» للبطلة المنفردة على مسرحها الخاص.
وقتها؛ لم يكن سهلاً أن تحافظ «السّت» على استمرارية إصدار مجلتها، إذ تقول: «بدأنا فى إصدار المجلة وصدر العدد الأول والثانى، واتضح أن الحسبة 12 جنيهًا، كنّا مع كل عدد نضع أيدينا على قلوبنا لأننا لا نملك ما نصدر به العدد الذى يليه، وينقذنا فى آخر لحظه الموزع الذى يقول بفرح بيعت لآخر نسخة» بحسب ما ذكرته «نجوى صالح» فى كتاب «فاطمة اليوسف ونموذج المرأة العصرية».
إذا كان التحدى الأول بالنسبة للسيدة «روزا» اقتصاديًا؛ فوقتها لم تعرف السياسة طريقها للمجلة بعد. فقط مساحة فنية حرة تنشر فيها لوحات الفن العالمى على الغلاف، وتناقش فى صفحاتها أسرار المسارح والملاهى. وتشير فيها لأفضل راقصات العالم، ونجوم المسارح الفرنسية والأوروبية.
فى الأعداد الأولى خلال العام 1925 وبدايات 1926 كان نادرًا ما تحمل صفحات المجلة توقيعًا لأحد غير «روزاليوسف» فى افتتاحيتها، ربما قصة لــ«محمود بك تيمور» أو ترجمة لأحد الأسماء الكبيرة فقط، ومرات قليلة جدًا وبخط صغير نرى توقيع «حندس» الاسم الحركى للأستاذ «محمد التابعى»؛ أمّا بقية الصفحات ففى غياب التوقيع عنها توهمك بأنها تنتمى إلى «صاحبة المجلة».
ونرى تأكيدًا آخرَ على ذلك من التنويه المنشور داخل صفحات المجلة فى أعداداها الأولى: «السيدة روزاليوسف ترجو حضرات الراغبين فى مقابلتها لعمل من أعمال المجلة أن يتفضلوا بزيارتها فى منزلها بشارع جلال نمرة 10 بعد ظهر يوم كل جمعة من الساعة 4 إلى الساعة 7 ولحضراتكم الشكر».
هكذا كانت «روزا» تدير وتقرّر وترسم شخصية المجلة التى تحمل اسمها؛ شخصية فنية بالأساس.
نجد مثلاً مساحة كبيرة مخصّصة للنجمة الأمريكية وقتها «بيرل هويت»؛ لكن هل تتناول «روزا» قصتها لأنها نجمة فقط؟! بالتأكيد لا..
فالزاوية التى تم تناول القصة منها أن «هويت» امرأة جميلة وفى نفس الوقت (نحن الآن فى العام 1926) تجيد قيادة السيارة وتحسن الرماية والفروسية؛ لكنها فجأة اعتزمت اعتزال كل ذلك وتذهب إلى الدير!.. وتذيل الخبر بتحليل: «مَن يدرى لعلها تريد أن تمثل دورًا جديدًا».
هذه القصة بالتحديد يمكن أن تكشف لنا عن الخطوط العريضة بالنسبة للمجلة التى ستصبح المَدرسة الأهم فى الصحافة العربية. ورغم أن صفحاتها كانت لا تزال للفن فقط؛ لكنها ترسّخ لمفهوم «القصة الصحفية» حتى ولو فى خبر فنى عابر أو فى سطور قليلة. لم تتوقف أبدًا عند حاجز الخبر وانطلقت إلى فنون الحكى الصحفى.
فى الأعداد الـ17 الأولى يلفت نظرك أيضًا أن كل أغلفة المجلة كانت محلقة فى الفضاءات الفنية بين لوحات عالمية مثل: «شيطان فى صورة ملاك» و«الأمومة» و«الحب السماوى» أو صورة الممثلة العالمية «ليليان جيش» وصورة لقبلة «بين عاشقين». عدا عدد واحد (العدد 3) الذى حمل صورة رجل هو الفنان «زكى طليمات» كونه عضوًا فى بعثة التمثيل إلى فرنسا، وتصفه أسفل الصورة بعبارة «أديب ولع بفن التمثيل منذ الصغر».
يستوقفك أيضًا على صفحات هذه الأعداد الفنية الأولى صورة لـ «عبدالرحمن بك الجميعى» وهو مدير إدارة المطبوعات، والذى تتمثل وظيفتها فى الرقابة لمنع نشر ما لا يتفق مع الآداب والمصلحة العامة. فتصفه «روزا» بأنه «رجل جم الظرف والأدب يلقى زائره بالبشاشة والترحاب لكن فى الوقت نفسه شديد التدقيق فى أداء مهام عمله الكثيرة».
ولهذا المنشور مؤشران..
الأول دليل على مساحة الوعى الجمعى والانفتاح وقتها على الفنون الغربية باختلافاتها من تمثيل ورقص وغناء فى حالة يتقبلها الوعى الجمعى بل ويحتفى بها الرقيب «موافقًا على نشرها». ولم يعرف وقتها المجتمع جماعات المتأسلمين التى «حرمت علينا عيشتنا».
أمّا المؤشر الثانى؛ فهو شكل العلاقة بين «روزا» فى أعدادها الأولى لدرجة احتفائها بالرقيب على صفحاتها؛ لأنه لا يوجد أصلا ما يوتر هذه العلاقة. فالمجلة لم تكن قد بدأت بعد فى الاشتباك مع الواقع. وكانت صفحاتها «للفن فقط»، وبالتالى لا يوجد ما قد يثير سخط أى رقيب.
سر العدد 17
رجوعًا للعدد 17 بين سحره وسرّه ودرسه. فما قبل هذا العدد شىء يختلف عمّا بعده تمامًا. ليس فقط على مستوى الشكل، ليس فقط بسبب تغيير شكل غلاف المجلة؛ لكنه العدد الذى يحمل إعلان أن المجلة ستصدر بشكل مختلف فى 20 صفحة. وسيتغير بعده شكل الغلاف على مستوى الرؤية والرأى؛ كإعلان رمزى أن «روزا» دخلت مرحلة جديدة، يوجد بها بجوار الفن أشياء أخرى وسيكون فيها التعامل مع الفن أكثر اشتباكا مع الوقع فى مصر.
هكذا يخبرنا غلاف العدد 18 بلونه البنفسحى وتكوينه المختلف؛ عليه صورة «السيدة روزا» أيضًا ولكن هذه المرّة صورة أنيقة من وجهها تنظر لنا ولا تدير لنا ظهرها. الصورة مذيّلة بجملة «صاحبة المجلة» وأبيات شعر تتغزل فيها.
لكنى أؤكد لك أن «روزا» التى على غلاف العدد 18 ليست هى نفسها على العدد 17. الصورة الأخيرة تبدو لسيدة قررت التربع على «عرش الصحافة»، أدارت ظهرها للفن؛ أمّا الصورة الأولى فكانت لا تزال ترى نفسها نجمة مسرحية على صورة أفيش. ويبدو أن هذا سرٌّ حمله العدد 17 ليفصل بين مرحلة «صاحبة المجلة» التى قررت أن تكون «صاحبة الجلالة».
فن الاشتباك
بداية من هذه المرحلة (مارس 1926) ستستمر «روزا» لمدة عامين، أغلب ما ينشر فيها الفن أيضًا ولكن بقواعد جديدة. ليس الفن السارح فى ملكوت الله؛ ولكن الفن المشتبك مع الواقع والمواجه له. الفن الذى يحمل قضية المرأة وتحريرها على كتفيه.
لنجد العدد التالى يحمل صورة «أم كلثوم» فى صورة نادرة لها بغطاء رأسها الريفى ونظراتها الحالمة مذيلاً بـ«صوتها ينساب من فم الطبيعة». لم يكن ذلك احتفاءً بـ«أم كلثوم» التى ستصبح كوكب الشرق بعد ذلك ولكنه أيضًا احتفاء بالبنت المصرية التى تعبر بصوتها أسوار القرية.
هذا جزء من التغيير الذى أشرت إليه. فبعد أن كان الاحتفاء بنجوم الأرض تحول الاحتفاء بنجوم أهل الأرض التى تنشر فيها المجلة.
فتزين صورة السيدة «منيرة المهدية» غلاف عدد آخر بوصفها «أشرقت فى الفن إشراق الشموس فهى للمسرح والفن عروس». وغلاف آخر يحمل صورة «يوسف بك وهبى» فى شبابه. والسيدة «فيكتوريا موسى» الممثلة. والآنسة «أمينة رزق». والسيدة «مارى منصور» الممثلة. والسيدة «صالحة قاصين» الممثلة بفرقة «الريحانى». والسيدة «فاطمة سرى» المطربة الشهيرة.
ونجد أكثر من 85 غلافًا لأعداد كانت بمثابة تأريخ لنجوم الفن المصريين فى ذلك الوقت.
أتخيل.. فى ظل حالة الزخم التى صنعتها «روزا» كان السؤال الدائر على الأقل فى دوائر النخبة ونجوم الفن: «يا ترى مَن سيكون نجم غلاف روزا القادم؟!».
التصوير حرام!
لا نزال فى مارس 1926.. نتوقف عند باب جديد تم استحداثه اسمه الأسبوع على صفحات المجلة يتناول الحوادث والأخبار. الآن تبدأ الصفحات فى الاشتباك المباشر مع ما يطرح من أفكار وما يظهر من شخصيات. فنجد عنوان «التصوير حرام!» ومن دون توقيع يكتب المحرّر نرى نقدًا لاذعًا لموظف كبير فى نقابة محترمة دخل يطلب الخصم الذى يكفله له كارنيه النقابة فى أحد المتاجر لكن الكارنيه لا يحمل صورة فوتوغرافية. وعندما يسأله الموظف بالمحل عن السبب..
يجيبه الموظف: لأن التصوير حرام. وكان سؤال «روزا» عن الإمام الذى أفتى بتحريم الصور؟!
إلحاد بالمرأة!
وفى عدد آخر نجد عنوانًا لافتًا بقلم «أمين عزت الهجين»: «لماذا ألحدتُ؟!» يعلن فيه على الملأ إلحاده ويجهر به دون رهبة. الرجل لم يلحد بالله بل ألحد بالمرأة!. الرجل لم يعد يرى فى المرأة أى جمال ويراها سببًا فى كل فضائح التاريخ.
لتبدأ بعد ذلك حالة كبيرة من الاشباك والأخذ والرد على صفحات المجلة حول حقوق المرأة فى المجتمع وضرورة نزولها للعمل. وحقها فى الطلاق وتعويضها عنه. هذا الحديث قبل 100 سنة لم يكن بالسهولة التى نراها اليوم. لم يكن بديهيًا بل كان خطابًا طليعيًا لأقسى درجة.
صرخة «روزا»
الفن على صفحات «روزا» فى السنوات الأولى لم يكن مقتصرًا على الاحتفاء؛ ولكن السيدة «فاطمة اليوسف» خاضت بنفسها واحدة من أهم وأكبر القضايا دفاعًا عن الممثلين المصريين وحقوقهم فكتبت إلى نقابة الممثلين «السادة الذين طال نومهم وعلا غطيطهم.. لكم أن تسترسلوا فى النوم على ألا يكون فى ذلك مضيعة لحقوق الآخرين». وتضيف: «الممثلون والممثلات فى حاجة قصوى إلى نقابة لهم. نقابة حية لا نقابة ميتة».
وتوجّه «روزا» صرختها أيضًا للممثلين: «أمركم فى يدكم. اصرخوا بالنقابة فإن أفاقت من نومها وعكلت فانضموا إليها وعضدوها. وناصروا من بينكم مَن يغار على مصالحكم وكرامتكم وأجلسوهم منكم مجلس الرئاسة والثقة».
هكذا وعلى مدار الـ103 أعداد الأولى من «روزا» كان فى البدء الفن، الذى أصبح بعد العدد 17 فن الاشتباك. فنجد صفحاتها تؤرخ لظهور «عزيزة أمير» كأول سيدة مصرية فى السينما. ومعارك السيدة «روزا» مع «يوسف بك وهبى». وشاهدة على ظهور «أم كلثوم» و«محمد عبدالوهاب».
ليبدأ فى مرحلة تالية ظهور المجلة بشكل مختلف بداية من العام 1928. يحمل غلافها كل الألوان كما تحمل صفحاتها كل فنون العمل الصحفى والاتجاهات. فأصبحت المجلة السياسية الأولى.
ومن وقتها وعلى مدار تاريخ «روزا» كانت محاولات عديدة لإعادة «روزا» سيرة الأعداد الأولى وحصرها «للفن فقط»؛ لكن كل تلك المحاولات واجهت صرخة «أم كلثوم»: «عاوزنا نرجع زى زمان.. قول للزمان ارجع يازمان».