استدعاء (الضرورة) للأستاذ هيكل من بين الكتب إلى ساحة الحرب فى غزة (10) «ملفات بيبى» الرقصة الأخيرة لمجرم الحرب الإسرائيلى
بين صعود وهبوط، تستمر الحياة، رحلة معقدة مليئة بالقصص والحكايات، وتبقى قصة المعمارى اليهودى القاتل، الذى ولد فى القدس لأب علمانى من أصل بولندى، حكاية مثيرة لا تخلو لحظة فيها من الدراما والإثارة والوحشية والقتل والدماء، تاريخ ملوث يقترب من ثلاثة أرباع قرن، 75عامًا تحتشد بالمفارقات، ولعل أقوى محطاتها، قصة صعوده إلى سدة الحكم على رأس دولة (تأسست على أرض مغتصبة من أهلها)، ليغتصب صاحبنا السلطة ويختطفها فى أطول مدة حكم يبقى فيها داخل بلاط السلطة رئيسا لوزراء بلاده.
تكتمل فصول الإثارة عندما يعود للحكم فى فترته الأخيرة وهو مدان بجرائم رشوة وفساد، ليقود بلاده نحو الهاوية والدمار ويشعل منطقة الشرق الأوسط كلها بحرائق لا تنطفئ ليحصل رسميا على لقب «مجرم حرب»، يضمه إلى ألقاب أخرى لا تقل حقارة حصدها فى مشواره العسكرى والسياسى القذر، والذى سيكون أنسب ختام يليق به، هو فضحه فى الأيام القادمة عبر مهرجان سينمائى دولى بعرض تنويه عن وثائقى يذاع فيه لأول مرة مشاهد حصرية لجلسات محاكمته بتهمة الفساد، ليكن «ملفات بيبى» هو رقصته الأخيرة، لعل الله يريحنا منه.
>بيبى اختيار شعبه
يرصد الأستاذ محمد حسنين هيكل بشكل مفصل لحظات مخاض فارقة فى تاريخ دولة إسرائيل، خصص لها فصلا إضافيا فى نهاية الكتاب الثالث من سلسلته المهمة «المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل»، الذى جاء تحت عنوان «سلام الأوهام.. أوسلو- ما قبلها وما بعدها»، وكأنه كان مدركا بأن هذا الميلاد يمثل نقطة النهاية فى مسار عملية السلام المعقدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
يقول الأستاذ واصفا المشهد السياسى فى إسرائيل فى صيف عام 1996: «ولم تكن هذه الانتخابات للكنيست الرابع عشر منذ إنشاء دولة إسرائيل هى الأعنف فقط، ولكنها كانت الأهم أيضا، ذلك أن الحكومة المنبثقة عن المجلس النيابى الجديد سوف يكون عليها أن تتخذ قرارات مهمة. فهذه هى المرة الأولى التى يجرى فيها الاستفتاء على ما سوف تعطيه إسرائيل من ثمن يشترى ويضمن لها السلام الذى طالما تحدثت عنه وغنت من أجله. فى كل انتخابات قبل ذلك كان احتمال الحرب هو التحدى المطروح وليس احتمال السلام، وأما هذه المرة فإن ما سمى بالسلام -!- قطع شوطا طويلا اقترب من نهايته إذا رضيت إسرائيل بدفع ثمن بسيط وبالتقسيط!. قبل هذه اللحظة لم تقدم إسرائيل مقابلا، وانما حصلت على كل شيء بوضع اليد».
>قطار نتنياهو
ويكمل الأستاذ: «إذا أعطوا شيئا فى المؤجلات المعلقة مشى قطار السلام!، وإذا لم يعطوا توقف القطار وربما انخلعت القضبان». وكانت مؤجلات اللحظة فى القضية الفلسطينية خطيرة وثقيلة، كما يصفها هيكل «كل القضايا الحيوية؛ المستوطنات- اللاجئون- الأرض- القدس»، ثم يسرد تفاصيل أخرى للمشهد ويعقد مقارنة بين الخصمين الرئيسيين فى الانتخابات الإسرائيلية، شيمون بيريز رئيس الوزراء المؤقت بعد اغتيال رابين، زعيم حزب العمل، وخصمه (الحصان الأسود) فى هذه الانتخابات من حزب الليكود، والذى وصف هيكل وجهته السياسة، قائلا: «واما نتنياهو فله رؤية فى تثبيت وترسيخ النصر، تعتمد على أولوية أن تكون( كامل أرض إسرائيل) هى القاعدة التى يتحلق حولها الشرق الاوسط بحقائق القوة وهذا هو إطار الحلم الشرق أوسطى».
وتمت الانتخابات ونجح بنيامين نتنياهو وشكل الحكومة الإسرائيلية للمرة الأولى ليبدأ خطواته نحو تحقيق مشروعه السياسية ورؤيته لمستقبل بلاده كما تخيله، والذى اختاره شعبه لهذه المهمة الملعونة.
>قصة مجرم الحرب
يبلغ بنيامين نتنياهو الشهر القادم 75 عاما، قضى منها 15 عاما فى منصب رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلى، وهو يرأس حزب الليكود، ويشغل منصبه الحالى منذ 29 ديسمبر سنة 2022، وكان قد شغل ذات المنصب بين عامى 2009 إلى 2021، وكانت ولايته الاولى بين عامى 1996 1999، ليُعتبر رئيس الوزراء الأطول مدةً فى تاريخ بلاده، كما أنه أول رئيس وزراء يولد فى إسرائيل (ولد فى 21 أكتوبر سنة 1949) بعد تسميتها كدولة مستقلة من الأمم المتحدة وإعلان دولة إسرائيل فى 15 مايو سنة 1948.
وقدم هيكل فى كتابه تحليلا مهما يعكس معنى انتخاب نتنياهو سنة 1996، وهذا التحليل ما يزال صالحا كدليل استرشادى يفسر معنى إعادة انتخابه للحكم فى كل مرة، يقول الأستاذ: «الأرقام التى حملت نتنياهو إلى رئاسة الوزراء فى إسرائيل كافية لإظهار عده حقائق:
1 - إن إسرائيل تعرف نفسها كمجتمع حرب ولكنها لا تعرف نفسها كمجتمع سلام.
2 - أن هذا المجتمع لا يريد أن يدفع مقابلا للسلام، وانما يريد كما يقال أن يعطى «السلام فى مقابل السلام». وهذا معناها بالضبط تثبيت وترسيخ النصر دون حاجة إلى تكافؤ فى المبادئ أو فى المصالح، بعد أن بطل التكافؤ فى موازين القوى.
3 - إن هذا المجتمع ليس جاهزا لكى يبت فى المؤجلات المعلقة وهى كثيرة (المستوطنات- اللاجئون)، ثم أنه ليس مستعدا على الإطلاق لإعطاء شبر من الأرض فى القدس.
4 - إن هذا المجتمع يريد إسرائيل دوله يهودية.
5 - إن هذا المجتمع فى إسرائيل لا يستطيع أن يعيش الا بالأسطورة التوراتية رغم كل مظاهر التقدم فى حياته».
>بيبى.. فيلم وثايقى
وأخيرا، كشفت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، أن الفيلم الوثائقى الأمريكى الجديد «ملفات بيبى»، الذى يتناول تهم فساد ضد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، سوف يعرض فى مهرجان تورنتو السينمائى الدولى هذا الأسبوع، ويتضمن الفيلم تسجيلات مصورة من التحقيقات التى خضع لها نتنياهو بواسطة الشرطة الإسرائيلية.
والفيلم من إنتاج الحائز على جائزة الأوسكار، أليكس جيبنى، وإخراج أليكسيس بلوم. وسُجلت المقاطع المصورة بين عامى 2016 و2018 كجزء من جمع الأدلة لتحديد ما إذا كان ينبغى توجيه لائحة اتهام ضد نتنياهو، والتى وُجهت ضده الفعل سنة 2019، وشملت تهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة.
ووصلت التسجيلات المصورة إلى جيبنى، العام الماضى، وتتضمن تحقيقات مطولة مع نتنياهو وزوجته سارة ونجله يائير وأصدقاء مقربين، وكذلك موظفين فى مسكن رئيس الحكومة الرسمى، وفق ما ذكرت مجلة «فارايتى» الأمريكية.
ونقلت المجلة عن جيبنى قوله «إن هذه التسجيلات تلقى الضوء على شخصية نتنياهو بطريقة غير مسبوقة وغير عادية. إنها دليل قوى على شخصيته الفاسدة والمرتشية وكيف قادتنا إلى ما نحن عليه الآن».
وأشار جيبنى إلى أن الفيلم يتنقل بين حاضر نتنياهو وماضيه، «ويكشف شيئًا شكسبيريًا عن الرجل بمعنى أن فساد شخصيته البطيء وحاجته اليائسة للبقاء فى السلطة دفعته إلى القيام بأشياء فظيعة نرى الآن أدلة عليها».
واختتمت بلوم قائلة: إن خطة «الإصلاح القضائى» لإضعاف جهاز القضاء، التى أطلقتها حكومة نتنياهو، مطلع العام الماضى، كانت أحد الأسباب التى دفعتها إلى العمل على هذا الفيلم.
>خلاصة الكلام
وأختم بكلمات معبرة للأستاذ هيكل ومن كتابه السابق ذكره، تحمل لنا خلاصة الكلام: «إن المفارقة الكبرى التى تلفت النظر على ساحة الصراع العربي- الإسرائيلى فى هذه الظروف هى:
- إن العرب راجعوا أنفسهم (بحق أو بغير حق) فى خطاب الحرب، وقبلوا خطاب السلام.
- وإن الإسرائيليين لم يراجعوا أنفسهم (عملا وفعلا) فى خطاب السلام، بل إنهم فى لحظة الحقيقة أعرضوا عنه وأثبتوا أنه ليس اختيارهم الطوعى أو الطبيعى»!>