السبت 5 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قليل من الزهد.. كثير من الجهل

قليل من الزهد.. كثير من الجهل
قليل من الزهد.. كثير من الجهل


 
حالة من الجهل والعجز تنتاب السينما المصرية عندما يتعلق الأمر بالدين، سواء كان الحديث عن التاريخ أو الشخصيات أو حتى فى التعبير عن أسلوب العبادة الذى يتخذه البعض وبشكل أكثر تحديداً - التصوف. الذى لم يتم التعبير عنه بشكله الصحيح والحقيقى لا فى الأعمال التى تناولته بشكل صريح ولا الأعمال التى حاولت إلقاء الضوء عليه. وفى الأغلب لا يظهر التصوف أو المتصوفون إلا فى صورة ربما لا تمت للواقع بصلة. والأعمال الفنية التى ظهرت فيها أحياناً مشاهد عن المتصوفين لم تخرج عن تصوير حلقات ذكر من خلال شخصيات تهز رءوسها يمينا ويساراً كما لو أن حالة هيستيرية انتابتها. ولم نر فى أعمال كثيرة صورة قريبة أو صادقة لشكل الحضرات أو للشخص المتصوف.
 
وعلى الرغم من أن الدين كان له تواجد كبير فى السينما منذ سنوات طويلة، والأعمال الدينية تنتج منذ الخمسينيات، لكن الاقتراب من التصوف والمتصوفين كان محدوداً ونادراً. وغالباً ما يأتى من خلال فنانين يكونون فى حياتهم الحقيقية متصوفين ولديهم علم وإدراك وثقافة بالمعنى الحقيقى للتصوف. وكان من بداية المحاولات التى ينتمى أصحابها للتصوف فيلم للفنان «عباس فارس» وهو «السيد البدوى» من إخراج «بهاء الدين شرف» عام ,1953 حيث قام «عباس فارس» - الفنان المتصوف - بتجسيد شخصية السيد أحمد البدوى وشاركه بطولة الفيلم «تحية كاريوكا»، «كوكا»، و«سراج منير».. وقد ارتكز الفيلم فى الأساس على محاولة أميرة العراق «فاطمة بنت برى - تحية كاريوكا» إغواء السيد البدوى ثم هدايتها على يده، واهتم الفيلم بتمثيل حياة اللهو والعبث من خلال مشاهد الرقص والعرى للتعبير على قدرة البدوى على تغيير ذلك. وهداية وإرشاد الناس لطريق الله أو المغالاة فى إظهار مشاهد تبين كرامات البدوى.. وفى محاولة مجتهدة ولكنها متعجلة لإظهار بعض من القصص والمواقف المعروفة عن البدوى يسير الفيلم. ويبدو أن هذه المحاولات جعلت الفيلم غير متماسك دراميا ومفتقدا إلى الدقة والسرد المحكم. وهذا ما أدى بدوره إلى حالة الظلام المحاطة بالفيلم الذى لم يعلم عنه الكثيرون شيئا وربما لم يره معظم المصريين.
ثم تقدم السينما المصرية فى السنوات اللاحقة لفيلم «السيد البدوى». فيلمين عن نفس الشخصية «رابعة العدوية» واحدة من أشهر الشخصيات المتصوفة فى التاريخ الإسلامى.. الفيلمان تم التحضير لهما فى نفس الوقت. وعقب موافقة رجال الأزهر على إمكانية تقديم حياة رابعة على الشاشة. الفيلم الأول هو «شهيدة الحب الإلهى» إخراج «عباس كامل» عام .1962 بطولة الممثلة اللبنانية «عايدة هلال»، «رشدى أباظة» وحسين رياض» والفيلم الثانى هو «رابعة العدوية» إخراج «نيازى مصطفى» عام .1963 بطولة «نبيلة عبيد»، عماد حمدى» و«فريد شوقى».
 
الفيلمان تصارعا طوال فترة تنفيذهما بداية من اختيار العنوان وحتى اختيار نفس المصدر كمرجع للسيناريو وهو كتاب «رابعة العدوية شهيدة العشق الإلهى» من تأليف «عبدالرحمن بدوى». ولكن الفيلم الأول «شهيدة الحب» اختصر إلى حد كبير النصف الأول من حياة رابعة وكان تسليط الضوء على النصف الثانى الذى زهدت به، وأيضا ابتعد عن تجسيد شخصية رابعة» على أنها بائعة هوى أو تلقى بجسدها لمن يريد، فهى ترفض أن تمنح جسدها لأى رجل وتكتفى بالغناء مضطرة لأنها جارية. وقد اختار المخرج صوت المطربة «سعاد محمد» لأداء الأغانى. بينما جاء الفيلم الثانى «رابعة العدوية» - وهو الأشهر حتى الآن - فى صورة أكثر ترفاً. فالفيلم قدرت له ميزانية ضخمة 40 ألف جنيه. وقامت «أم كلثوم» بأداء الأغانى وظهر الفيلم بالألوان. ولكن وقع الفيلم فى فخ التكثيف من إظهار النصف الأول من حياة رابعة وهو النصف الملىء بالمجون، و«رابعة» هنا تعيش حالة عشق للأمير «عصام - عماد حمدى» ولكنها تنهار بعد مقتله وتندرج فى حياة السكر وتمنح جسدها لأى رجل فى محاولة للنسيان.. فى كلا الفيلمين يظهر رجل زاهد ليهدى رابعة إلى طريق الله وتستجيب له وتذهب لتعيش منعزلة فى الصحراء وتكون أشهر المتصوفات. تعرض الفيلمان لانتقادات عنيفة بسبب نصفهما الأول الذى رآه الباحثون مليئا بالأخطاء وغير حقيقى ولا يلتزم بالواقع التاريخى .خاصة أن الدراسات التاريخية عن رابعة تؤكد أنها قد نشأت فى بيئة إسلامية صالحة، حفظت القرآن ودرست الحديث.. ورفضت الزواج وعاشت طوال حياتها عذراء لأنها انصرفت إلى التعبد والزهد.
 
بعد هذه الأعمال المحدودة عن المتصوفين ابتعدت السينما تماما عن تجسيد أى شخصيات متصوفة، وعلى الرغم من أن تاريخ التصوف ينتمى إليه شخصيات مثل: صلاح الدين الأيوبى والعز بن عبدالسلام فإن الفيلمين اللذين ظهرت بهما هذه الشخصيات. لم تسلط الأضواء على هذه الناحية عندهما. فى فيلمى «الناصر صلاح الدين» و «وا إسلاماه».
 
واستمرت السينما فى تجاهل تجسيد أى من الشخصيات الصوفية على الشاشة وذلك على الرغم من أن التاريخ يمتلئ بمثل هذه الشخصيات والبحث وراء بعضها كان من الممكن أن ينتج عنه حكايات درامية تليق بالسينما وتجذب المتفرجين خاصة بعد نجاح «رابعة العدوية».. ولكن السينما لم تتعامل بشكل جاد مع التصوف.. وقررت بعض الأفلام فقط الاكتفاء بإظهار بعض المقامات أو الأضرحة كضرورة درامية تتعلق بلجوء الفقراء والمظلومين والمغلوبين على أمرهم إلى الأولياء. ليس تصوفا منهم ولكن تظهرهم الدراما على أنهم جهلة يكتفون بالدعاء والتوسل للأولياء لتلبية مطالبهم أو إزالة الظلم عنهم ويظهر ذلك على سبيل المثال فى «الزوجة الثانية» إخراج «صلاح أبو سيف» عندما تشكو فاطمة - سعاد حسنى محنتها ويأتيها الرد من أحد المشايخ ليطمئنها. وفى «الأرض» إخراج «يوسف شاهين» عندما تدعو «وصيفة» لوالدها أو يدعو «عبد الهادى» كى تكون «وصيفة» من نصيبه وكذلك نجد مشاهد متشابهة فى «قنديل أم هاشم» إخراج «كمال عطية»، «بين القصرين» إخراج «حسن الإمام» و«الأرض الطيبة» إخراج «محمد ذو الفقار».
 
وفى سنوات لاحقة ومع موجة الواقعية الجديدة التى ظهرت فى الثمانينيات، يبدأ المخرجون فى إعلانهم للتمرد على مثل هذه المواقف فينتقدونها فى إفلامهم ويعتبرون أصحابها سواء الأولياء أو المريدين نماذج سيئة للدين والتدين.. ويتجلى ذلك فى أفلام «للحب قصة أخيرة» إخراج «رأفت الميهى»، «سارق الفرح» و«الكيت كات» إخراج «داود عبدالسيد».. بينما يقدم الراحل «عاطف الطيب» نموذجاً يعد هو الأهم فى التعامل مع أزمة الصراع بين العلم أو الفكر والدين من خلال فيلم «قلب الليل» عام 1989 المأخوذ عن رواية بنفس العنوان لـ«نجيب محفوظ». ومن بطولة «نور الشريف» و«فريد شوقى» فى الرواية ثم الفيلم تتجسد شخصية الجد - فريد شوقى وهو شخص متصوف، متدين يقيم فى قصره أمسيات لكبار المنشدين ويأمل أن يتخذ حفيده نفس الدرب ولكن الحفيد يحاول - كما حاول الأب من قبله - الخروج عن هذا العالم واكتشاف العالم الخاص به والمنهج الذى يجمع بين الفكر الشيوعى والإسلامى معا.
 
وبعد سنوات من «قلب الليل» يظهر البطل المتصوف من جديد فى فيلم «ألوان السما السبعة» إخراج «سعد هنداوى» عام 2007 ومن بطولة «فاروق الفيشاوى» و«ليلى علوى».
 
الفيلم يحاول الذوبان فى عالم من الروحانيات التى تتجسد فى الموسيقى والتصوير ليوصل إحساس البطل الذى تتلاشى نفسه وتسمو روحه لتكاد أن تصل للسماء السبعة.
 
ومع ذلك تستمر السينما فى التعامل مع التصوف بنفس أسلوب مخرجى الستينيات، فالمقامات والأضرحة لا تخص إلا الفقراء والجهلة والحضرات وحلقات الذكر تصور على أنها حالات من الهيستيريا الجماعية البعيدة. أو حتى يذهب البعض دون أن يدرى ماذا يفعل أو يقول أو من يناجى. مثل «فرنسا - عبلة كامل» فى فيلم «خالتى فرنسا» إخراج «على رجب» عندما تقف أمام المقام وتلغز جارتها لتسألها «هو اسمه إيه يا أختى؟!