بین حربین وجائحة.. الولایات المتحدة.. معادلة الربح والخسارة

مروة الوجيه
فى عام 2016 كانت الولایات المتحدة على موعد واحدة من أشهر الانتخابات المصیریة، دونالد ترامب فى مواجهة هیلارى كلینتون، الانتخابات التى وصفت بـ«الهزلیة» فلا أحد تخیل أن یكون رئیس المكتب البیضاوى أكثر الشخصیات الكومیدیة فى عالم رجال الأعمال صاحب الجملة الشهیرة You are Faired ترامب، لتدخل أمریكا مرحلة عجیبة، هذا الرجل الذى قلب موازین القوى رأسًا على عقب، لم یعد الاقتصاد الأمریكى كما كان، قل لم یعد حلفاء واشنطن هم الشاغل الأهم، ولم یعد العالم كله كما كان، بعد أن ضربت الجائحة العالمیة كوفید- 19 أرجاء العالم كله، ویقول ترامب كلمته الشهیرة «اشربوا الكلور» للقضاء على كوفید.
4 سنوات غیرت ملامح العلاقات والسیاسات الأمریكیة ثم جاء بایدن «المخلص» الذى استطاع أن یوقف نزیف الجائحة، لكنه واجه خلال أربع سنوات حربین بین روسیا وأوكرانیا ثم غزة والحلیف الأزلى إسرائیل، الذى أخذت طریق التصادم للمرة الأولى من تاریخ العلاقات الثنائیة.. وقبل أن نكون مستعدين لمواجهة فصل جدید من الانتخابات الرئاسیة بعد أقل من خمسة أشهر بین ترامب وبایدن ومع احتدام التنافس بینهما یجب أن نعرف ما الفرق والنتائج بین أربع سنوات فى حكم ترامب وأخرى فى حكم بایدن؟
الوجه الآخر لـ«كوفید- 19»
قد بدت آثار جائحة كورونا واضحة على الاقتصاد الأمریكى منها مخاطر الوصول إلى حالة الركود الاقتصادى من جراء الإغلاق الصحى الذى كان محل خلاف بین إدارة ترامب والحكومات المحلیة والذى تسبب بتعطل حركة الإنتاج والنمو الاقتصادى وزیادة نسبة البطالة بعد فقدان ملایین الوظائف فى مختلف القطاعات مسجلة خسائر لم تشهدها الولایات المتحدة من قبل.
وقد أقدمت الإدارة الأمریكیة على الاقتراض الأكبر فى تاریخ الولایات المتحدة بقیمة ما یقارب 3 تريلیونات دولار لمواجهة جائحة كورونا وما نتج عنها من أزمات اقتصادیة واجتماعیة. ووفق خبراء اقتصادیين أن التكلفة للمال المهدر قد تصل إلى 1.7 تریلیون دولار عام 2020، وأن الأزمة الاقتصادیة الحالیة رفعت من نسبة عجز المیزانیة الأمریكیة إلى مستویات لا یمكن تحمّلها وأنه بحلول عام 2025 یمكن أن یساوى سداد الدیون وحده میزانیة وزارة الدفاع «البنتاجون» بالكامل التى أصاب فیروس كورونا قیاداتها وأفرادها وأجبر حاملة الطائرات «روزفلت» على الخروج من الخدمة.
وتأتى هذه المؤشرات صادمة للإدارة الأمریكیة ومخالفة لسیاسات الرئیس ترامب الذى أقر فى وقت سابق المیزانیة العامة لبلاده المقدرة ب 4,8 تريلیون دولار مع خفض فى الإنفاق الداخلى والمساعدات الخارجیة مقابل ارتفاع فى الإنفاق العسكرى والأمنى.
حیث خفض میزانیة وزارة الخارجیة والرعایة الصحیة والخدمات البشریة وغیرها، فى حین تفاخر برفع میزانیة وزارة الدفاع التى بلغت ب 738 ملیار دولار مقسمة بین الموازنة الأساسیة والعملیات الخارجیة المحتملة ومیزانیة تشكیل القوات الفضائیة الجدیدة فى الجیش الأمریكى ونفقات دفاعیة أخرى. إضافة إلى زیادة الإنفاق على التسلح النووى معللاً ذلك أنهالا یملك خیارات أخرى فى سباق التسلح النووى مع روسیا والصین.
فى إشارة واضحة للاستمرار فى تراكم القوة وخاصة النوویة ومواكبة للانتشار العسكرى الخارجى حول العالم المتمثل بأكثر من 750 قاعدة عسكریة و 7 أساطیل بحریة تعمل تحت 10 قیادات قتالیة موحدة لحفظ أمن الولایات المتحدة وضمان هيمنتها العالمیة ومصالحها الاستراتیجیة مع حلفائها حول العالم. وبمقارنة مؤشرات الأزمة الاقتصادیة وبین میزانیة البناتجون فإن الإنفاق العسكرى شكل عبئًا كبیرًا على كاهل الاقتصاد الأمریكى.
أمریكا ترامب كانت تتبع نهجًا اقتصاديًا مختلفًا مع بدایة توليه حكم واشنطن، حیث كان جزءًا رئیسيًا من الاستراتیجیة الاقتصادیة خلال السنوات الثلاث الأولى ( 2017- 2019 ) هو تعزیز النمو الاقتصادى من خلال التخفیضات الضریبیة والإنفاق الإضافى، وزادت هذه الإجراءات عجز المیزانیة الفدرالیة بشكل كبیر. حافظ على الوضع الاقتصادى الإیجابى الذى ورثه عن الرئیس أوباما مع اقتراب سوق العمل من اختفاء البطالة واستمرار تحسن مقاییس دخل الأسرة وثروتها بشكل أكبر. كما نفذ الرئیس ترامب سیاسة الحمایة التجاریة من خلال تطبیق التعریفات الجمركیة بشكل أساسى على الواردات من الصین كجزء من استراتیجیته. «أمریكا أولاً». زاد عدد المواطنین الأمریكیین الذین لا یملكون تأمینًا صحيًا فى عهد ترامب وفقًا لمكتب المیزانیة فى الكونجرس، فى حین كان من المتوقع أن تؤدى التخفیضات الضریبیة إلى تخفیف عدم المساواة فى الدخل.
ورث الرئیس ترامب فى ینایر 2017 اقتصادًا بلغ بالفعل مستوىً قیاسیًا فى العدید من التدابیر الرئیسیة مثل عدد الأشخاص الذین لدیهم وظائف ومتوسط دخل الأسرة الحقیقى وصافى الثروة الأسریة ومستوى سوق الأوراق المالیة. كما أظهر انخفاض معدل البطالة بنسبة 4.7٪ وانخفاض التضخم بشكل كبیر وتخفیف العجز فى المیزانیة.
أشار ترامب إلى المذبحة الأمریكیة فى خطاب تنصیبه وأعلن عن استراتیجیة اقتصادیة سماها «أمریكا أولاً» بدأ إدارة الاقتصاد على أرض صلبة من حیث التدابیر، الإجمالیة الرئیسیة.
كان أحد الأجزاء الرئیسیة لاستراتیجیة ترامب الاقتصادیة هو تعزیز النمو مؤقتًا من خلال التخفیضات الضریبیة والإنفاق الإضافى. ومن خلال مقارنة الفترة 2014- 2016 (السنوات الثلاث الأخیرة فى عهد الرئیس أوباما) بالفترة 2017- 2019 (السنوات الثلاث الأولى فى عهد الرئیس ترامب) فقد تضمنت النتائج الفعلیة عدة متغیرات متحسنة مثل معدل البطالة الذى كان ینخفض منذ 2010 لجمیع الفئات العرقیة.
تحسنت بعض المتغیرات (على سبیل المثال: نمو الناتج المحلى الإجمالى الحقیقى ونمو الأجر الاسمى)، بینما تراجعت عوامل أخرى (مثل التضخم ونمو الأجور الحقیقیة).
مقارنةً بتوقعات مكتب المیزانیة للكونجرس قبل تنصیب ترامب مباشرةً: تحسن معدل البطالة وخلق فرص العمل والناتج المحلى الإجمالى الحقیقى خلال الفترة بین عامى 2017 و 2019.
المستفید الأكبر
مع نهایة جائحة كورونا استطاع الاقتصاد الأمریكى أن یصمد بقوة بسبب سیاسات ترامب على مدار ثلاث سنوات، لكن مع ترك ترامب الحكم ومجىء بایدن، الذى واجه حربین فى أوكرانیا ثم غزة، لم یختلف الأمر كثیرًا، أیضًا استطاعت واشنطن أن تجنى ربح الحرب فى روسیا حتى من حلفائها الأوروبیین.
وفق تقریر لصحیفة «لیزیكو» أوضح أنه منذ بدء الحرب على أوكرانیا أن أوروبا تخلفت اقتصادیا عن الولایات المتحدة، خاصة فى مجال الاستثمار والإنتاجیة، وصحیفة لیزیكو تفسر ذلك بأن الشركات الأمریكیة استفادت قبل الحرب وقبل جائحة الكوفید بسنتین، من الفوائد الفعلیة السلبیة والتى استمرت عدة سنوات لتستثمر فى القطاع الرقمى وترفع من إنتاجیتها.

حكومات وشركات أوروبا لم تعمد إلى تكثیف الاستثمار، فالحكومة الألمانیة كانت تستطیع أن تقترض بفائدة سلبیة لعدة سنین، ولكنها لم تعمد إلى رفع دینها بصورة أكبر من أجل الاستثمار، وفى فرنسا كان التضخم أعلى من الفائدة ولكن استثمار الدولة لم یرتفع بشكل ملحوظ.
أما الشركات فقد فضلت أغلبیتها، وخاصة الكبرى منها، الاستثمار خارج البلاد، نتیجة ذلك ارتفعت الإنتاجیة بین آخر فصل فى 2019، أى قبل الكوفید، لتبلغ الیوم 4٪ فى الولایات المتحدة، بینما لم تتجاوز ال 0.8 ٪ فى أوروبا.
ازدیاد التفاوت فى الاستثمار والإنتاجیة لا یعود فقط إلى الفارق فى دینامیكیة الاقتصاد فى هذه الفترة، كما یوحى مقال لیزیكو، إنما لعوامل أخرى أیضا برزت فى عهد ترامب، وهى الحمائیة وإعادة رؤوس الأموال الأمريكیة من الخارج نتیجة إعفاء ضریبى، وساعد العاملان على رفع من حجم الاستثمار، أضف إلى ذلك أن الدولة الأمريكیة استطاعت أن تستفید من أزمتى الكوفید وأوكرانیا لرفع من حجم الاستثمارات بشكل خیالى، واستطاعت إدارتا ترامب وبایدن القیام بذلك دون أن تنخفض قیمة الدولار، من خلال رفع الدین العام إلى حوالى 120٪ من الدخل القومي، بینما لا یتجاوز دین الدولة الألمانیة 80 ٪ حالیا.
إنذار الحرب
بعد اندلاع الحرب الروسیة – الأوكرانیة فى 24 فبرایر 2022، والتى تسببت فى معاناة واسعة النطاق، لا یزال الاقتصاد العالمى یعانى من عواقبها مثل قلة الإمدادات من الحبوب والأسمدة والطاقة إلى جانب المزید من التضخم وحالة عدم الیقین الاقتصادى فى عالم كان يواجه بالفعل الكثیر من الاثنین.
إلا أنه بقدر ما كان تأثیر الحرب كئیبا، أثبتت الشركات والدول فى العالم المتقدم قدرتها على الصمود حیث تجنبت حتى الآن السیناریو الأسوأ للركود، لكن فى الاقتصادات الناشئة كان الألم الاقتصادى أكثر حدة.
وفى الولایات المتحدة والدول الغنیة الأخرى، تراجع بشكل مطرد الارتفاع المؤلم فى أسعار المستهلكین الذى عززه جزئیا تأثیر الحرب على أسعار النفط، حیث اعتمد محاربو التضخم فى الاحتیاطى الفیدرالى الأمریكى على زیادة أسعار الفائدة التى هددت بدفع أكبر اقتصاد فى العالم إلى الركود ودفعت العملات الأخرى للانخفاض مقابل الدولار.

وبالنسبة للصین فقد تخلت عن عملیات الإغلاق الصارمة ذات الصلة بفیروس كورونا فى أواخر العام الماضي، والتى أعاقت النمو فى ثانى أكبر اقتصاد.
وكانت هناك بعض من عوامل الحظ الجید التى ساعدت فى الوضع أیضا: فقد ساعد الشتاء الأكثر دفئًا من المعتاد على خفض أسعار الغاز الطبیعى والحد من أضرار أزمة الطاقة بعد أن قطعت روسیا الغاز عن أوروبا إلى حد كبیر.
وفى تقریر لوكالة «أسوشیتدبرس» قال آدم بوسن، وهو رئیس معهد بیترسون للاقتصاد الدولى قوله، إن الحرب «كارثة إنسانیة». «لكن تأثیرها على الاقتصاد العالمى هو صدمة عابرة».
ولطالما كانت مصائب قوم عند قوم فوائد».. على الرغم من العواقب الاقتصادیة البالغة التى خلفتها الحرب فى أوكرانیا، إلا أن هناك بعض المستفیدین من تلك الحرب بجنى الكثیر من الأرباح.
لم تقتصر حسابات الربح والخسارة فى تلك الحرب على طرفیها روسیا وأوكرانیا فحسب، بل امتد التأثیر لیشمل العالم بأثره؛ فعادة ما تعید الحروب والنزاعات تشكیل الاقتصاد العالمي، مع تحقیق بعض الدول لمكاسب لتتضرر أخرى وتتكبد الخسائر.
وفى تلك الحرب التى طال أمدها برزت الولایات المتحدة كلاعب أساسي، باستغلالها إمكاناتها من الطاقة ورفع صادراتها من الغاز المسال بشكل خاص إلى أوروبا، وتعزیز فرض نفوذها على القارة العجوز عبر استخدام الطاقة كأداة للضغط، خاصة بعد أن طاردت روسیا بالعقوبات، التى وصفت بأنها الأكبر فى التاریخ.
بعد العملیة العسكریة لروسیا فى أوكرانیا أوقفت بلدان الاتحاد الأوروبى معظم عملیات الشراء المرتبطة بالطاقة من موسكو للضغط اقتصادیا علیها، ووفق ما أعلنت وكالة الجمارك الروسیة، تراجعت الصادرات الروسیة لأوروبا بأكثر من الثلثین فى 2023 مع خفض الاتحاد الأوروبى بشكل كبیر عملیات شراء النفط والغاز الروسیین.
وتحولت الولایات المتحدة الأمريكیة لأكبر مُصدر للغاز المُسال إلى القارة الأوروبیة، بفضل الحاجة له، بعد أن أزاحت قطر عن الواجهة لتصبح هى المُصدر الأول للغاز المسال فى العالم.
نحو 64 بالمئة من صادرات الغاز المسال بالولایات المتحدة تذهب للقارة الأوروبیة، مما ینعكس على الشركات الأمريكیة المُنتجة، وهو ما یعود على الاقتصاد الكلى الأمريكى، خاصة أن أمريكا لدیها خطط مستقبلیة حتى عام 2028 لمضاعفة إنتاجها من الغاز، لزیادة حجم صادراتها.
وبحسب تقریر أوابك، نجحت أمريكا فى تحقیق المعدلات المذكورة نتیجة عودة محطة Freeport LNG إلى طور التشغیل الكامل منذ شهر فبرایر 2023، بعد توقفه لعدة شهور بسبب الحادث الذى تعرضت له فى شهر یونیو من عام 2022 نتیجة تسرب غاز المیثان من أحد خطوط شحن الغاز الطبیعى المسال.
وبلغ إجمالى ما صدرته Free Port LNG خلال عام 2023 نحو 13.22 ملیون طن، وذلك مقابل 6.3 ملیون طن خلال عام 2022، أى بزیادة فى الإنتاج بلغت قرابة 7 ملايين طن.