الأحد 8 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

بكين أنقذت موسكو «كثيراً».. و«أسطول الظل» رهان رابح فى قطاع النفط.. كيف صمد الاقتصاد الروسى أمام «أكبر حزمة عقوبات فـــــى التاريــــــخ»؟!

«غزو روسيا لأوكرانيا بدأ على الأغلب».. هكذا تحدث مسئول بحلف شمال الأطلسى (الناتو) فى يوم الرابع والعشرين من شهر فبراير لسنة 2022، بعد أن أعلن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين يومها عن «عملية عسكرية خاصة» فى أوكرانيا، قائلاً إن تحركات بلاده وسيلة «للدفاع عن النفس من التهديدات» التى تأتى من جارتها الجنوبية الغربية.



تحرك روسيا قوبل برفض شديد من الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى مدار أكثر من عامين من الحرب الروسية - الأوكرانية التى أثرت على اقتصاد العالم كله، فرضت الدول الغربية على روسيا عقوبات تجاوز عددها الـ19 ألفاً و200 عقوبة، فى مقدمتها عقوبات أمريكية وكندية وسويسرية ومن دول الاتحاد الأوروبى،  ووصلت حزم العقوبات المفروضة على روسيا 12حزمة عقوبات، تغطّى نحو 1800 فرد وكيان مختلف، فيما يمكن وصفه بأنه «أكبر حزمة عقوبات فى التاريخ».

وعلى الرغم من الحرب المستمرة والعقوبات الكثيرة صمد الاقتصاد الروسى وتمكن من إبداء مرونة واسعة، بل إنه يحقق أداءً إيجابياً يشير إلى أن موسكو نجحت إلى حد كبير فى التصدى لتأثير العقوبات التى فُرضت عليها لتقويضها، وصنّف البنك الدولى الاقتصاد الروسى فى المرتبة الخامسة عالمياً من حيث القوة الشرائية، ويتوقع صندوق النقد الدولى نمو الناتج المحلى الإجمالى الروسى بنسبة 1.1 % فى عام 2024، وكأن الحرب العسكرية وحرب العقوبات كانت بوابة الوصول إلى تحقيق النمو!

 

 

 

فشل رهان الانهيار المالى

بحسب صحيفة «الإيكونوميست»، فإن الانهيار المالى الذى كان يراهن عليه الغرب لا يحدث، بينما يتجه الاقتصاد الروسى للنمو هذا العام بنسبة تصل إلى 2.6 %، بعدما نما بنحو 3 % العام الماضى، مستفيداً من الإنفاق العسكرى الضخم والجهود التى اتخذت لتحفيز قطاع الإنشاءات فى البلاد. كما لا يبدو أن الشركات تواجه أى صعوبات فى الاستمرار؛ بدليل تراجع معدل إغلاق الأعمال التجارية إلى أدنى مستوى له فى 8 سنوات، بعد أن تمكنت الشركات من إنشاء سلاسل توريد جديدة، بحيث بات أكثر من نصف واردات السلع فى روسيا تأتى من الصين.

وحتى التضخم الذى لا يزال يتجاوز 7% على أساس سنوى وفق أرقام يناير، لا يبدو أنه يثير القلق فى ظل التوقعات التى ترجح بدء تلاشى الضغوط التضخمية بعد أن أصبحت موسكو أكثر استقلالية واكتفاءً ذاتياً فى إنتاج الغذاء على وجه التحديد.

ومع ذلك لا يزال طريق الاقتصاد الروسى محفوفاً بالتحديات، وأهمها عودة التضخم للارتفاع من جديد فى حال هبوط الروبل الروسى،  فضلاً عن احتمالية تراجع أسعار النفط التى تشكل مصدر دخل رئيسى فى البلاد.

أسطول الظل

يعد قطاع النفط من أكبر القطاعات الروسية التى تم استهدافها بالعقوبات الغربية، وبعد مرور أكثر من عامين على بداية الحرب الروسية - الأوكرانية، ورغم العقوبات الاقتصادية الواسعة التى تستهدف قطاع النفط على وجه الخصوص، فإنه لا يزال النفط الروسى يصل إلى وجهاته عن طريق ما يُسمى بـ«أسطول الظل»، فما هو هذا الأسطول؟

يُطلق مصطلح «أسطول الظل» على ناقلات النفط المستعملة التى اشترتها شركات الشحن الروسية بهدف إيصال النفط الروسى إلى الدول التى لا تفرض حظراً على هذا النفط مثل الصين أو الهند. وحسب تقرير لوزارة الخزانة الأمريكية صدر فى عام 2020، فالناقلات التى تتبع «أسطول الظل» تقوم بتغيير الأعلام التى تحملها، وإيقاف تشغيل أجهزة الإرسال حتى لا يتم تتبعها، أو حتى إرسال إشارات خادعة، إضافة للقيام بتبادل النفط فى البحر. وأضاف التقرير أن بعض هذه الناقلات تقوم بتغيير اسم السفينة، وتعمد إلى استخدام أسماء شركات وهمية، أو تزوير المستندات لإخفاء ملكية الناقلة التى تُبحر عادة من دون أى تأمين حقيقى عليها، حيث تهدف من خلال كل هذه الترتيبات إلى البقاء بعيداً عن متناول هيئات إنفاذ القانون البحرى.

 

 

 

 

 

وقدّرت شركة الذكاء الاصطناعى البحرى «ويندوارد» فى أواخر سنة 2023 أن «أسطول الظل» الروسى يتكون من نحو 1400 إلى 1800 سفينة، وهو ما يعادل خُمس تجارة النفط العالمية، وفق ما ذكرته شبكة «سى إن إن» الأمريكية. ووفق تقرير لوكالة «بلومبرج» عام 2023، فإن طرق التفاف روسيا على العقوبات الغربية عززت أعمال عشرات التجار وشركات الشحن الذين يصعب تعقبهم، فى وقت يبلغ ما يتقاضونه بوصفهم «ناقلين بالظل» 11 مليار دولار سنوياً من عائدات موسكو من النفط بين وقت مغادرة النفط روسيا وحتى وصوله إلى المشترين.

أسرار صمود الاقتصاد الروسى

يرى الكاتب الصحفى الروسى أندريه أنتيكوف أن ثمة العديد من العوامل الرئيسية وراء صمود الاقتصاد الروسى ضد العقوبات الغربية؛ على رأسها استعداد موسكو المسبق لمثل هذا السيناريو. وأشار الكاتب الروسى فى تصريحات صحفية إلى أن العقوبات التى تعرضت لها روسيا بعد الحرب فى أوكرانيا ليست الأولى، وكانت قد فُرضت عليها كثير من العقوبات فى عام 2014 بعد ضم شبه جزيرة القرم للأراضى الروسية، بما فى ذلك عقوبات على بعض البنوك الروسية وطرد تلك البنوك من نظام سويفت (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك). هذه الخطوة دفعت السلطات الروسية – وتحديدا البنك المركزى الروسى – للتفكير حول ضرورة بناء نظام مشابه لـ«سويفت» فى داخل روسيا ليكون خاصًا بها فقط، وهو ما حدث قبل بدء العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا.

سبب آخر هو أن النظام البنكى لم يتفكك عقب تطبيق العقوبات على روسيا، فالنظام المالى فى روسيا ظل قائماً ومتماسكاً وهو ما سمح باستمرار الأعمال للمصانع والشركات وحتى المواطنين، ونجحت روسيا على مدار السنوات الماضية – منذ 2014 بشكل خاص – فى تعزيز الجبهة الداخلية من خلال مجموعة من الإجراءات الاستباقية، وهى الإجراءات التى خففت من وطأة وتأثير العقوبات بعد ذلك عليها بعد الحرب فى أوكرانيا. جنباً إلى جنب والسياسات المالية والنقدية التى اتبعتها منذ بداية الحرب لمعالجة تداعياتها.

ولعدة أشهر، جعل البنك المركزى الروسى مكافحة التضخم محور اهتمامه الرئيسى. وفى منتصف ديسمبر، رفع البنك سعر الفائدة الرئيسى إلى 16 %، وهى الزيادة الخامسة على التوالى منذ يوليو 2023. وأشار أنتيكوف إلى أنه بعد خروج كل من «فيزا» و«ماستر كارد» من روسيا، بذل البنك المركزى الروسى قبل العملية العسكرية الجهود لإقامة البطاقات الوطنية فى روسيا، وهو ما سمح من جديد للمواطنين أن يستعملوا البطاقات البنكية.

وقال أنتيكوف إن روسيا تمكنت من تنويع العلاقات الاقتصادية مع الدول الأخرى بعدما تم فرض عقوبات عليها فى 2014، حيث بذلت موسكو الكثير من الجهود لإقامة الاتصالات الاقتصادية والتجارية مع الدول الشرقية والجنوبية بما فى ذلك الدول العربية والأفريقية، وهذا ما جعلها تتجاوز المشاكل المتعلقة بالعقوبات وتمكنها من إيجاد مستهلكين جدد للبضائع الروسية ولذلك صمد النظام الاقتصادى.

ويمتلك الاقتصاد الروسى احتياطيا كبيرا يمكنه من النمو، وبالمقارنة بنتائج العام السابق، ارتفع الناتج المحلى الإجمالى بنسبة 3.5 %، ونمت الصناعة بنسبة 6 %، والاستثمار 10  %؛ ما يعنى قدرة موسكو على مواجهة العقوبات، بينما انخفض دين الدولة الخارجى من 46 مليار دولار إلى 32 مليارا، كما حقّقت التجارة السلعية خلال العام الجارى فائضا بلغ 308 مليارات دولار حسب الإحصاء الروسى،  أو 292 مليار دولار حسب منظّمة التجارة العالمية، لتحتل روسيا بذلك الفائض الكبير المركز الثانى بعد الصين.

 

 

 

>هل هذا يعنى أن العقوبات فشلت؟

قالت إيلينا ريباكوفا، الزميلة البارزة فى معهد «بيترسون» للاقتصاد الدولى لهيئة الإذاعة الربيطانية: «كانت المشكلة الكبرى هى فهمنا لما يمكن أن تفعله العقوبات، وما لا يمكن أن تفعله.. الأمر ليس مثل الضغط على مفتاح كهربائى وتختفى روسيا.. ما يمكن أن تفعله العقوبات هو اختلال توازن الدولة مؤقتا حتى تجد طريقة للالتفاف حول العقوبات، أو حتى تجد طرقا بديلة للحصول على الشحنات، أو بيع نفطها.. نحن بالضبط فى هذا النطاق حيث وجدت روسيا حلاً بديلاً».

وأعادت موسكو توجيه صادراتها النفطية من أوروبا إلى الصين والهند. وفى ديسمبر 2022، قدّم زعماء مجموعة السبع والاتحاد الأوروبى خطة سقف للسعر، تهدف إلى الحد من الإيرادات التى تجنيها روسيا من صادراتها النفطية، من خلال محاولة إبقائها أقل من 60 دولارا للبرميل. لكن الخبراء الغربيين يعترفون بأن روسيا تمكنت من التحايل على هذا الأمر بسهولة تامة. وتسلط قصة سقف الأسعار الضوء على المعضلة التى تواجه الولايات المتحدة وشركاءها. ومع إدراكهم لحقيقة أن روسيا تشكل واحدا من أكبر اللاعبين فى سوق الطاقة العالمية، فقد حاولوا الحفاظ على تدفق النفط الروسى لتجنب ارتفاع أسعار الطاقة. والنتيجة هى أن موسكو لا تزال تجنى الأموال.

وأضافت إيلينا ريباكوفا «بطريقة ما، رفضنا فرض عقوبات مناسبة على النفط الروسى.. هذا الحد الأقصى للسعر هو محاولة من جانبنا للحصول على كعكتنا وأكلها.. وتتمثل الأولويات فى السماح بدخول النفط الروسى إلى السوق وخفض عائدات روسيا منه.. وعندما تتعارض هاتان الأولويتان، فمن المؤسف أن الأولى تفوز.. وهذا يسمح لروسيا بجمع الكثير من الإيرادات ومواصلة الحرب».

وأصبحت روسيا أكبر مورد للنفط للصين. لكن أهمية بكين بالنسبة لموسكو تمتد إلى ما هو أبعد من صادرات الطاقة. أصبحت الصين شريان الحياة للاقتصاد الروسى. وسجلت التجارة بين البلدين رقما قياسيا بلغ 240 مليار دولار العام الماضى. فإذا تجولت فى سان بطرسبرغ أو موسكو، فلن تحتاج إلى أن تكون خبيرا فى الاقتصاد حتى تفهم مدى أهمية الصين بالنسبة لروسيا، التى تعانى من العقوبات. تمتلئ متاجر الإلكترونيات بالأجهزة اللوحية والأدوات الذكية والهواتف المحمولة الصينية. 

ويهيمن وكلاء السيارات الصينية الآن على سوق السيارات المحلية. ولكن فى نهاية المطاف، ليست صناعة السيارات هى التى تدفع النمو الاقتصادى فى روسيا. الإنفاق العسكرى يفعل ذلك. ومنذ بدأت روسيا الحرب فى أوكرانيا، ظلت مصانع الأسلحة تعمل على مدار الساعة، وتم توظيف المزيد والمزيد من الروس فى قطاع الدفاع. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع الأجور فى المجمع الصناعى العسكرى.

لكن أُنفِقت مبالغ كبيرة على الجيش، وسيكون هناك مبلغ أقل يمكن إنفاقه على كل شيء آخر. ويقول كريس ويفر، الشريك المؤسس لشركة الاستشارات الأوراسية «ماكرو»: «على المدى الطويل، أنت تدمر الاقتصاد.. لا توجد أموال تذهب إلى التطوير المستقبلى». ويقول إنه فى عام 2020 كان هناك الكثير من النقاش حول برنامج المشروع الوطنى،  والذى بموجبه كان من المقرر إنفاق 400 مليار دولار على تحسين البنية التحتية والنقل والاتصالات فى روسيا. وبدلاً من ذلك «تم تحويل كل هذه الأموال تقريبا لتمويل المجمع الصناعى العسكرى ودعم استقرار الاقتصاد (المتأثر بالحرب)».

وبعد أكثر من عامين من القتال، تكيف الاقتصاد الروسى مع ضغوط الحرب والعقوبات. لكن الولايات المتحدة تهدد الآن بفرض عقوبات ثانوية على البنوك الأجنبية التى تساعد فى إجراء معاملات مالية مع موسكو، وهذا يخلق مجموعة جديدة كاملة من المشاكل لروسيا.

ويقول كريس ويفر «لقد تباطأت وتيرة وصول المنتجات إلى روسيا.. من الصعب الوصول إلى قطع الغيار.. كل يوم هناك قصص عن رفض البنوك فى الصين وتركيا وغيرها تنفيذ المعاملات المالية الروسية، سواء كانت أموالاً من روسيا لشراء سلع أو أموال تعود إلى روسيا لدفع ثمن النفط أو الواردات الأخرى.. وما لم يتم حل هذه المشكلة، فسوف تواجه روسيا أزمة مالية بحلول الخريف».

ولهذا السبب سيكون من الخطأ أن نستنتج أن روسيا تغلبت على العقوبات. حتى الآن تم العثور على طرق للتعامل مع تلك العقوبات، والالتفاف حولها، والحد من التهديد الذى تشكله. لكن الضغوط التى يتعرض لها الاقتصاد الروسى بسبب العقوبات لم تختفِ.