«أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها».. هل يهدينا الروائى مفكرته الشخصية؟ خدعـة طــارق إمــام!
عبدالله رامى
مع بداية الزمان ونشأة الإنسان كان للسحر تجليات عديدة اختلفت وتباينت مع تطور الدنيا؛ منه ما «أغوى أعين الناس» وما «أغوى عقولهم» وما «أثار فضولهم».
وفى تاريخ الغواية تظل الحكايات أكثر التجليات السحرية القادرة على التشكل والبقاء والأبقى قدرة على الإغواء.
ربما بهذا المنطق يتقاطع الحكّاء -فى نقطة ما- من المهارة مع الساحر الذى يخرج الأرنب من قبعته أو يضع حبيبته ممددة فى صندوق خشبى ينقسم لنصفين، تنقبض القلوب، فتخرج الفتاة كاملة وتطمئن الجماهير ويهز التصفيق القاعة للساحر الذى أعاد إحياء فَتاتِه!
ظلت تلك الخدعة قابلة لإثارة الفضول والدهشة لقرون طويلة، لكن ربما أفقدها التكرار والانتشار جاذبيتها. وبنفس الطريقة فقدت الكثير من البنى الروائية فى الحكى سرها وسحرها. جماهير الساحر أصبحت أكثر تعطشا لجرعات أكبر من الدهشة. كما هو حال القراء تماما.
الجيل الجديد من السحرة استطاعوا إبقاء أعين جماهيرهم منتبهة ومندهشة بحيلة جديدة وهى: «إيهام كشف السر». تغيرت قواعد اللعبة تماما، فبدلا من تنفيذ الخدعة يكشفها لك. هذا ما يثير دهشة الجمهور الجديد وفضولهم. طريقة سيكون عمرها مقدرًا بعدد لا نهائى من الخدع التى تنتظر كشف سرها لتشعر بأنك متفوق على أسلافك الذين خدعوا فقط، ولم يُقدّر لهم معرفة كواليس اللعبة.
لكن ما علاقة كل ذلك بـ«طارق إمام»؟
الروائى والحكاء الكبير «طارق إمام» هو ابن مخلص بالتأكيد لتاريخ السحر والغواية. لكنه ليس من السحرة الذين ينقلون الوصفات لإعادة عرضها، بل ممن يجربون وصفاتهم الخاصة حتى تبقى الحكايات -وإن كانت قديمة- قادرة على إثارة الدهشة.
فى عمله المنشور أخيرًا «أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها- دار الشروق 2024» يعيد «إمام» ترتيب العالم بمنطقه الخاص.بمعنى أصح يكشف لنا فى أقاصيصه سره فى بناء رواياته العجيبة أو يوهمنا بذلك!
من أول الغلاف الذى رسمه الفنان الفرنسى sylvain mendy تعرف أنك على أعتاب عالم مختلف؛ له زمنه وتتابعه الخاص الذى يظهر لك حتى من ترتيب الفهرس فى الجزء الأول: «لأننا نولد عجائز» وحتى «لأننا نموت أطفالًا»؛ فى لعبة تخبرك أن عالمك المعروف وزمانك المحسوب سيقلب رأسا على عقب خلال 125 أقصوصة.
الأقاصيص هى ابنة مشروع «إمام» التجريبى، بل الأوقع أنها تمثل التكثيف الأمثل لرؤيته ومشروعه كله. وكأنه فى تلك الأقاصيص يكشف عن وحدات البناء التى استخدمها فى روايته الأخيرة «ماكيت القاهرة»؛ مفككا المدينة ليعيد تشكيلها مرة أخرى.
فى الأقصوصة التى تحمل عنوان «مدينة كاملة من الأشخاص الذين لا يكبرون» ربما يتجلى همّ الروائى/ الساحر فى أن يُبقى تراث أسلافه قادرا على إثارة الدهشة؛ إذ يشتبك «إمام» مع تراث أجداده من السحرة فى «ألف ليلة وليلة» بطريقة ما: فى مقابل شهريار الذى واجه «الخيانة» بقتل كل بكر بعد أن تنام ليلة فى فراشه؛ يواجه بطل الأقصوصة «الزمن» بإنجاب طفل جديد «كلما خط شاربٌ وجه طفل أو داهم الدم عانة طفلة» خوفا من نسيان اسمه أو انقطاع امتداده، فى مجاز يُظهر بوضوح التباين بين تحدى السحرة القدامى والحكائين فى عصرنا.
وبعدها بصفحات قليلة نجد لعبة الجيل الجديد من السحرة بـإيهام كشف السر، فيكتب الحكاء تحت عنوان «الخدعة»: «لكى يثبت صدق خدعته، وقف الساحر أمام القطار» فى ومضة تنتهى بـ«نجا الساحر، أمام الجميع، دون خدعة، لكن الوقت لم يتح لمتفرجيه كى يصدقوه»!
لم تنته ألعاب الروائى حتى قصته الأخيرة؛ فيقرر أن يحول خط الزمن الأفقى الذى اتفق مع القارئ عليه منذ الفهرس «من عجز إلى طفولة» إلى زمن دائرى ممتد فى آخر أقصوصة بعنوان «موتى» حيث يتنبأ الحكاء بيومياته المستقبلية بنفس منطق ميلاد طفل جديد فى قصته «الذين لا يكبرون» بما يؤمن له عيش فترة أطول إذا جاء الموت.
ربما هذا ما يؤرق «إمام» فى مشروعه بالكامل إذ يعتمد التجريب كطريقة يزيد بها قدرة تراث أجداده من الحكائين على الوصول إلى قارئ فى عالم مختلف..سريع التغير.
وفي أقاصيصه؛ ربما يهدينا الروائى مفكرته الشخصية.. أو هكذا ظننت.