الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
المصريون.. والرحلة الصعبة إلى «مصر» الجديدة!‏

المصريون.. والرحلة الصعبة إلى «مصر» الجديدة!‏

ونحن صغار كنا نشاهد فتية من الأشقياء، يعاكسون البنات بالألفاظ أحيانا وبالأيدى نادرا، ‏وذات يوم كنا عائدين من السينما فى غبشة المساء، بعد حفلة الساعة الثالثة عصرا، التى كان ‏يسميها الممثل البديع عبد السلام النابلسى من «ثلاثة إلى أربعة ونص» فى فيلم حكاية حب ‏لعبد الحليم حافظ، ولقينا خناقة ودما مسالا وحشدا هائلا، وكان فتى من هؤلاء الأشقياء قد ‏دخل فى «عركة» مع شاب غريب ضبطه يعاكس بنتا من «حتتنا»، ولم يتركه إلا بعد أن ‏أشبعه ضربا وأصابه فى رأسه.‏



 

انتهت الخناقة وسألت الفتى «المحموق»: لماذا.. ما هو أنت أيضا تعاكس البنات؟!‏

رد غاضبا: عمرى ما «عكست» بنت من شارعنا.‏

قلت فى نفسى وقتها: ما هذا المنطق المغلوط؟، التحرش هو التحرش، فكيف يراه خطيئة ثم لا ‏يتورع عنها؟ لم أفهم هذا التناقض الهائل، وأضفته إلى تناقضات كنت أتابعها فى تصرفات المصريين، كان ‏البعض منهم يخرج من صلاة الجمعة يشترون من جوقة البائعين المتراصين على أبواب ‏الجامع، ثم يدس بين طيات جلبابه حبة طماطم أو برتقالة أو شنطة جلد صغيرة أو يمشى دون ‏أن يدفع ثمن ما اشتراه مستغلا الهوجة المحيطة بالبائع، أو يغالط فى الحساب، وكانت الحيرة ‏المؤلمة تستبد بى وتقسو على عقلى: كيف لمصلٍ لم يمض على صلاته سوى دقائق ويرتكب ‏فعلا مُجرما ومُحرما فى آن واحد؟

وكبرت أيامنا بتعاقب الشمس والقمر، وظل اللغز يلح على عقلى دون إجابة وأظنه ألح عليكم ‏أيضا، وكلنا واجه سائق ميكروباص يمارس البلطجة بعربته على الناس. ثم تجده فى لحظة ‏وهو يفسح الطريق بذوق ولطف، أو نعرف قصة مسئول أو مدير أو رئيس مجلس إدارة أو ‏وزير كان يعمل بمنتهى الجدية والحرص ثم يلهف عمولة من وراء ظهر القانون أو يتفنن فى ‏الحصول على مكاسب غير شرعية بالقانون، أو موهوب يصل إلى منصب مرموق بطلوع ‏الروح ويقلد سابقيه فى مطاردة الأكفاء وقطع الطريق عليهم، أو نسكن فى شقق نظيفة للغاية ‏بينما سلالم العمارة والمناور فى غاية القذارة، أو ندفع ثلاثين جنيها بقشيشا فى عشاء عادى ‏ولا ندفعها فى إصلاح أسانسير عطلان فى عمارتنا.. إلخ. ‏

قطعا مساحة التناقضات تتسع كما لو أن المصريين مصابون بانفصام فى الشخصية، ‏باختصار لا أظن أن شعبا من شعوب الأرض فيه هذه المساحة الواسعة من التناقضات فى ‏شخصيته: منتهى النبل ومنتهى الخسة، منتهى الشهامة ومنتهى النذالة، منتهى الكرم ومنتهى ‏البخل، منتهى القوة ومنتهى الضعف، منتهى النشاط ومنتهى الخمول، منتهى التعصب ‏ومنتهى التسامح، منتهى التحضر ومنتهى البدائية، منتهى التعلم ومنتهى الجهل، منتهى ‏الخنوع ومنتهى التمرد..‏

كل الصفات الحميدة فى أوجها وكل المثالب القبيح فى قوتها..‏

ما كل هذا التناقض وما أسبابه؟

وهل هذا التناقض عائق يحول دونهم وعالم التقدم والرقى والتخلص من أزماتهم الاقتصادية ‏الصعبة؟ لو راجعنا تاريخ مصر، ومصر ليست شمسا وقمرا ونيلا وشجرا وأرضا وإنما هى بشرها ‏وأهلها، لن نجد شبيها، إذ تعرضوا تقريبا لغزوات ونقل ثقافات من الشرق والغرب، من ‏الصحراء والمدائن، تقلبوا فى نظم وقيم وتقاليد وامبراطوريات، بكل اختلافاتها وتباينها ‏وتناقضاتها، امتصوها جميعا، بكل ما فيها ومصروها، كانوا أشبه بمعدن ينتقل من النار إلى ‏الماء ثم إلى النار ثم إلى الماء، وكل نار لها وهج مختلف ودرجة شدة قاسية، وكل ماء له تدفق ‏ومذاق خاص..‏

حالة عجيبة وشاذة، هم أصحاب أقدم حضارة إنسانية، ثم عاشوا كل الحضارات التالية لهم، لم ‏تمر بهم أو تعبر عليهم، بل كانوا جزءا أساسيا منها، عليهم أن يفهموا أصحابها ويتعاملوا ‏معهم، ويبتكروا ألاعيب يحافظون بها على أرضهم وحياتهم وثقافتهم دون صدامات تهلكهم ‏وتستنزف «مخزونهم الحضاري»، فتوسعت قماشة الشخصية المصرية وشملت كل هذه ‏التناقضات، أحيانا يسُود منها الفضائل وأحيانا يسود منها السئيات، حسب الحالة التى يفرضها ‏نظام الحكم لنشاطهم الإنسانى فى كل جوانب حياتهم.‏

والآن مصر فى حالة تفكير ومراجعة وتأمل وسط ظروف عالمية مشتعلة أزمة اقتصادية ‏صعبة، تحلم بأن تكسرها وتعيد ترتيب حياتها بطريقة تدفع بها إلى الأمام، خاصة أن كثيرا ‏من أبنائها يؤمنون أنها تملك قدرات كامنة تؤهلها لهذه الرحلة إلى مستقبل أفضل. ‏

شىء طبيعى جدا أن يسأل المصريون: متى نستطيع أن نقف على أقدامنا ونعيد بناء حياتنا دون ‏تلك المنغصات التى عشنا فيها قرونا؟، كيف تتحسن أحوالنا ونصبح فى مصاف الدول ‏المتقدمة بما يناسب قيمة مصر الحضارية؟

بالقطع الإجابة صعبة للغاية، فقراءة مستقبل أمة خارجة من حالة فوران وسيولة دامت بضع ‏سنوات، وما زالت تحيطها مخاطر جمة على حدودها الشرقية والغربية والجنوبية، هو نوع ‏من ضرب الودع وقراءة الطالع، لكن الأمم يتشكل مستقبلها بالرؤى الصحيحة والتوافق العام ‏وليس الأحادى، وبالعمل الجاد على تحويل أحلامها العظيمة إلى واقع تعيشه كل لحظة ولا ‏تتوقف عن تطويره.‏

وهذا النوع من الأسئلة بالضرورة يحمل بين طياته مخاوف وقلقا وربما شكا، فالطريق يبدو ‏طويلا وأضواؤه باهتة وعلاماته الدالة على ما فيه يغطيها غبار، نصنع نحن بعضه، وتصنع ‏الظروف بعضه، فى ظل تربص جارف من جماعة معادية تسببت فى إفشال مصر ‏وتقويضها، ودول تعمل على أن تظل مصر متأرجحة بين المشكلات والحلول.

لكن بالقطع نحن أحسن حالا من أيام ماضية، ويتعجب المرء ممن يبكون على أيام الرئيس ‏حسنى مبارك، ويشقون الجيوب حسرة على ضياعها، ويعددون محاسنها كما تعدد النساء ‏محاسن الموتى أمام القبور، ربما كانت أيام مبارك أكثر أمنا لنا وليس استقرارا، لكنها كانت ‏أياما بلا مستقبل، حالة ركود وجمود وتبلد، كنا مجتمعا متيبسا ساكنا فى خلاياه فيروسات ‏شرسة، أقلها خطورة الفساد المالى، وأشدها فيروس إفساد الناس أنفسهم، ليصبحوا عجينة ‏خربة سهلة الانقياد، حتى صارت مصر بحرا هائجا يخرج من جوفها أسوأ ما فيها، من ‏عشوائيات وبطالة وبلطجة وتكدس ونفاق وطول لسان وانهيار فى الأداء العام لوظائف ‏ومناصب كثيرة عامة وخاصة، وهذا الإفساد الإنسانى الذى حدث جانب كبير منه هو ما يعوق ‏حركتنا للأمام، وجعلنا نمضى الآن بأدوات بعضها معطوب وبعضها نصف كفء وبعضها ‏حسن، ويلزمنا بعض الوقت لمحاصرة هذا الفيروس وتخليص الناس من تأثيره، ولن يحدث ‏هذا إلا بزراعة أمل حقيقى وصحيح فى أفئدة الناس وعقولهم، أمل فى غد أفضل لهم ‏ولأولادهم.‏

وولادة المستقبل مثل ولادة الأجنة من أرحام الأمهات، معاناة وألم وصراخ ونزيف، وبسبب ‏تمكين حالة الترهل من جسد المجتمع المصرى ومراكزه العصبية سوف يحتاج إلى عمليات ‏قيصرية لصناعة مستقبله، وقد حدثت جزئيا فى السنوات الخمس الماضية، منها مد شبكة ‏هائلة من البنية التحتية شديدة الكفاءة والأهمية، ولم تستكمل بعد، لأن دعاة الإجهاض من ‏عناتيل وعتاويل الفشل، يعملون على قدم وساق حتى لا تُنجب مصر نظاما مختلفا عما ألفوه، ‏لا يتيح لهم نفوذا وثروة ومكانة كالتى تمتعوا بها.‏

وأيضاً كان من الطبيعى أن ترتفع بلطجة الشارع وسفالة العبارات إلى حدهما الأقصى، هذا ‏هو حال المجتمعات الجامحة فى فترة تغيير الواقع، فكل القيم تصبح سائلة ومرنة وغير ‏متماسكة، فالمعيار القانونى والقيمى لضبط التصرفات والسلوكيات غائب أو سقط، وكان أيام ‏مبارك ضعيفا بالرغم من وجوده.‏

وهذا الصراع الحادث مهم للغاية من أجل مصر المستقبل، ولا يجب أن نخاف منه، وهذه ‏الأزمة العابرة لا يمكن أن تدفعنا إلى اليأس وفقدان الأمل، وأتصور أنها ستكون «فاصلة» فى ‏تاريخ مصر، بين حال وحال مختلف تماما، لكن سيظل البحر هادرا هائجا فترة حتى يتخلص ‏من معظم نفاياته ثم يهدأ على نظافة، فقط علينا أن نحسم الصراع نهائيا لمصلحة دولة تكون ‏محلا للسعادة لكل مواطنيها وليس لبعض مواطنيها.‏

نحن نتغير وعملية التغيير مؤلمة وكثيرة المراحل وتأخذ وقتا وعلينا أن نتحمل ثمن التغيير، وأن ندفع ثمنه ونحن واثقون من مستقبلنا، ولا ندع غيرنا يصنعه لنا، بأن نستكمل بناء ‏مؤسسات قوية تعمل بكفاءة، ونظام يحميها قائم على العدالة.‏

والعدالة هى مفتاح الشخصية المصرية، إذا لمسها المصريون وعاشوها واقعا فى حياتهم دون ‏استثناءات وامتيازات، سيصنعون معجزات تنقل مصر إلى مرتبة تنتظرها وتستحقها.