نبيل عمر
المصريون.. والرحلة الصعبة إلى «مصر» الجديدة!
ونحن صغار كنا نشاهد فتية من الأشقياء، يعاكسون البنات بالألفاظ أحيانا وبالأيدى نادرا، وذات يوم كنا عائدين من السينما فى غبشة المساء، بعد حفلة الساعة الثالثة عصرا، التى كان يسميها الممثل البديع عبد السلام النابلسى من «ثلاثة إلى أربعة ونص» فى فيلم حكاية حب لعبد الحليم حافظ، ولقينا خناقة ودما مسالا وحشدا هائلا، وكان فتى من هؤلاء الأشقياء قد دخل فى «عركة» مع شاب غريب ضبطه يعاكس بنتا من «حتتنا»، ولم يتركه إلا بعد أن أشبعه ضربا وأصابه فى رأسه.
انتهت الخناقة وسألت الفتى «المحموق»: لماذا.. ما هو أنت أيضا تعاكس البنات؟!
رد غاضبا: عمرى ما «عكست» بنت من شارعنا.
قلت فى نفسى وقتها: ما هذا المنطق المغلوط؟، التحرش هو التحرش، فكيف يراه خطيئة ثم لا يتورع عنها؟ لم أفهم هذا التناقض الهائل، وأضفته إلى تناقضات كنت أتابعها فى تصرفات المصريين، كان البعض منهم يخرج من صلاة الجمعة يشترون من جوقة البائعين المتراصين على أبواب الجامع، ثم يدس بين طيات جلبابه حبة طماطم أو برتقالة أو شنطة جلد صغيرة أو يمشى دون أن يدفع ثمن ما اشتراه مستغلا الهوجة المحيطة بالبائع، أو يغالط فى الحساب، وكانت الحيرة المؤلمة تستبد بى وتقسو على عقلى: كيف لمصلٍ لم يمض على صلاته سوى دقائق ويرتكب فعلا مُجرما ومُحرما فى آن واحد؟
وكبرت أيامنا بتعاقب الشمس والقمر، وظل اللغز يلح على عقلى دون إجابة وأظنه ألح عليكم أيضا، وكلنا واجه سائق ميكروباص يمارس البلطجة بعربته على الناس. ثم تجده فى لحظة وهو يفسح الطريق بذوق ولطف، أو نعرف قصة مسئول أو مدير أو رئيس مجلس إدارة أو وزير كان يعمل بمنتهى الجدية والحرص ثم يلهف عمولة من وراء ظهر القانون أو يتفنن فى الحصول على مكاسب غير شرعية بالقانون، أو موهوب يصل إلى منصب مرموق بطلوع الروح ويقلد سابقيه فى مطاردة الأكفاء وقطع الطريق عليهم، أو نسكن فى شقق نظيفة للغاية بينما سلالم العمارة والمناور فى غاية القذارة، أو ندفع ثلاثين جنيها بقشيشا فى عشاء عادى ولا ندفعها فى إصلاح أسانسير عطلان فى عمارتنا.. إلخ.
قطعا مساحة التناقضات تتسع كما لو أن المصريين مصابون بانفصام فى الشخصية، باختصار لا أظن أن شعبا من شعوب الأرض فيه هذه المساحة الواسعة من التناقضات فى شخصيته: منتهى النبل ومنتهى الخسة، منتهى الشهامة ومنتهى النذالة، منتهى الكرم ومنتهى البخل، منتهى القوة ومنتهى الضعف، منتهى النشاط ومنتهى الخمول، منتهى التعصب ومنتهى التسامح، منتهى التحضر ومنتهى البدائية، منتهى التعلم ومنتهى الجهل، منتهى الخنوع ومنتهى التمرد..
كل الصفات الحميدة فى أوجها وكل المثالب القبيح فى قوتها..
ما كل هذا التناقض وما أسبابه؟
وهل هذا التناقض عائق يحول دونهم وعالم التقدم والرقى والتخلص من أزماتهم الاقتصادية الصعبة؟ لو راجعنا تاريخ مصر، ومصر ليست شمسا وقمرا ونيلا وشجرا وأرضا وإنما هى بشرها وأهلها، لن نجد شبيها، إذ تعرضوا تقريبا لغزوات ونقل ثقافات من الشرق والغرب، من الصحراء والمدائن، تقلبوا فى نظم وقيم وتقاليد وامبراطوريات، بكل اختلافاتها وتباينها وتناقضاتها، امتصوها جميعا، بكل ما فيها ومصروها، كانوا أشبه بمعدن ينتقل من النار إلى الماء ثم إلى النار ثم إلى الماء، وكل نار لها وهج مختلف ودرجة شدة قاسية، وكل ماء له تدفق ومذاق خاص..
حالة عجيبة وشاذة، هم أصحاب أقدم حضارة إنسانية، ثم عاشوا كل الحضارات التالية لهم، لم تمر بهم أو تعبر عليهم، بل كانوا جزءا أساسيا منها، عليهم أن يفهموا أصحابها ويتعاملوا معهم، ويبتكروا ألاعيب يحافظون بها على أرضهم وحياتهم وثقافتهم دون صدامات تهلكهم وتستنزف «مخزونهم الحضاري»، فتوسعت قماشة الشخصية المصرية وشملت كل هذه التناقضات، أحيانا يسُود منها الفضائل وأحيانا يسود منها السئيات، حسب الحالة التى يفرضها نظام الحكم لنشاطهم الإنسانى فى كل جوانب حياتهم.
والآن مصر فى حالة تفكير ومراجعة وتأمل وسط ظروف عالمية مشتعلة أزمة اقتصادية صعبة، تحلم بأن تكسرها وتعيد ترتيب حياتها بطريقة تدفع بها إلى الأمام، خاصة أن كثيرا من أبنائها يؤمنون أنها تملك قدرات كامنة تؤهلها لهذه الرحلة إلى مستقبل أفضل.
شىء طبيعى جدا أن يسأل المصريون: متى نستطيع أن نقف على أقدامنا ونعيد بناء حياتنا دون تلك المنغصات التى عشنا فيها قرونا؟، كيف تتحسن أحوالنا ونصبح فى مصاف الدول المتقدمة بما يناسب قيمة مصر الحضارية؟
بالقطع الإجابة صعبة للغاية، فقراءة مستقبل أمة خارجة من حالة فوران وسيولة دامت بضع سنوات، وما زالت تحيطها مخاطر جمة على حدودها الشرقية والغربية والجنوبية، هو نوع من ضرب الودع وقراءة الطالع، لكن الأمم يتشكل مستقبلها بالرؤى الصحيحة والتوافق العام وليس الأحادى، وبالعمل الجاد على تحويل أحلامها العظيمة إلى واقع تعيشه كل لحظة ولا تتوقف عن تطويره.
وهذا النوع من الأسئلة بالضرورة يحمل بين طياته مخاوف وقلقا وربما شكا، فالطريق يبدو طويلا وأضواؤه باهتة وعلاماته الدالة على ما فيه يغطيها غبار، نصنع نحن بعضه، وتصنع الظروف بعضه، فى ظل تربص جارف من جماعة معادية تسببت فى إفشال مصر وتقويضها، ودول تعمل على أن تظل مصر متأرجحة بين المشكلات والحلول.
لكن بالقطع نحن أحسن حالا من أيام ماضية، ويتعجب المرء ممن يبكون على أيام الرئيس حسنى مبارك، ويشقون الجيوب حسرة على ضياعها، ويعددون محاسنها كما تعدد النساء محاسن الموتى أمام القبور، ربما كانت أيام مبارك أكثر أمنا لنا وليس استقرارا، لكنها كانت أياما بلا مستقبل، حالة ركود وجمود وتبلد، كنا مجتمعا متيبسا ساكنا فى خلاياه فيروسات شرسة، أقلها خطورة الفساد المالى، وأشدها فيروس إفساد الناس أنفسهم، ليصبحوا عجينة خربة سهلة الانقياد، حتى صارت مصر بحرا هائجا يخرج من جوفها أسوأ ما فيها، من عشوائيات وبطالة وبلطجة وتكدس ونفاق وطول لسان وانهيار فى الأداء العام لوظائف ومناصب كثيرة عامة وخاصة، وهذا الإفساد الإنسانى الذى حدث جانب كبير منه هو ما يعوق حركتنا للأمام، وجعلنا نمضى الآن بأدوات بعضها معطوب وبعضها نصف كفء وبعضها حسن، ويلزمنا بعض الوقت لمحاصرة هذا الفيروس وتخليص الناس من تأثيره، ولن يحدث هذا إلا بزراعة أمل حقيقى وصحيح فى أفئدة الناس وعقولهم، أمل فى غد أفضل لهم ولأولادهم.
وولادة المستقبل مثل ولادة الأجنة من أرحام الأمهات، معاناة وألم وصراخ ونزيف، وبسبب تمكين حالة الترهل من جسد المجتمع المصرى ومراكزه العصبية سوف يحتاج إلى عمليات قيصرية لصناعة مستقبله، وقد حدثت جزئيا فى السنوات الخمس الماضية، منها مد شبكة هائلة من البنية التحتية شديدة الكفاءة والأهمية، ولم تستكمل بعد، لأن دعاة الإجهاض من عناتيل وعتاويل الفشل، يعملون على قدم وساق حتى لا تُنجب مصر نظاما مختلفا عما ألفوه، لا يتيح لهم نفوذا وثروة ومكانة كالتى تمتعوا بها.
وأيضاً كان من الطبيعى أن ترتفع بلطجة الشارع وسفالة العبارات إلى حدهما الأقصى، هذا هو حال المجتمعات الجامحة فى فترة تغيير الواقع، فكل القيم تصبح سائلة ومرنة وغير متماسكة، فالمعيار القانونى والقيمى لضبط التصرفات والسلوكيات غائب أو سقط، وكان أيام مبارك ضعيفا بالرغم من وجوده.
وهذا الصراع الحادث مهم للغاية من أجل مصر المستقبل، ولا يجب أن نخاف منه، وهذه الأزمة العابرة لا يمكن أن تدفعنا إلى اليأس وفقدان الأمل، وأتصور أنها ستكون «فاصلة» فى تاريخ مصر، بين حال وحال مختلف تماما، لكن سيظل البحر هادرا هائجا فترة حتى يتخلص من معظم نفاياته ثم يهدأ على نظافة، فقط علينا أن نحسم الصراع نهائيا لمصلحة دولة تكون محلا للسعادة لكل مواطنيها وليس لبعض مواطنيها.
نحن نتغير وعملية التغيير مؤلمة وكثيرة المراحل وتأخذ وقتا وعلينا أن نتحمل ثمن التغيير، وأن ندفع ثمنه ونحن واثقون من مستقبلنا، ولا ندع غيرنا يصنعه لنا، بأن نستكمل بناء مؤسسات قوية تعمل بكفاءة، ونظام يحميها قائم على العدالة.
والعدالة هى مفتاح الشخصية المصرية، إذا لمسها المصريون وعاشوها واقعا فى حياتهم دون استثناءات وامتيازات، سيصنعون معجزات تنقل مصر إلى مرتبة تنتظرها وتستحقها.