الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

93 عامـــًا على ميلاد «فيلسوف البسطاء» صلاح جاهين

25 ديسمبر .. ذكرى ميلاد أحد أعمدة شعر العامية المصرية، وأحد أبرز المثقفين المصريين فى القرن العشرين وهو صلاح جاهين صاحب العديد من الألقاب ولعل أبرزها فيلسوف البسطاء والضاحك الباكى، وهى ألقاب اكتسبها من أسباب رددها المقربون منه ووثقتها الوقائع، ولأنه شخصية استثنائية .. فسيرته الذاتية مليئة بكل ما هو استثنائى .. ولذلك فإن الكتابة عنه فى ذكراه لن تكون مجرد سرد سلسلة تاريخية ولكنها ومضات من حياته وهو ما سنحاول ذكر بعض منها فى سطورنا التالية.



 

كانت ولادة صلاح جاهين ( يوم 25 ديسمبر 1930) متعثرة تعرضت أثناءها والدته للخطر، فوُلد شديد الزرقة دون صرخة حتى ظن المحيطون أن الطفل قد ولد ميتًا، ولكن جاءت صرخة الطفل منبهة بولادة طفل ليس ككل الأطفال، وكانت لهذه الولادة المتعثرة تأثيرها، فمن المعروف أن الولادة المتعثرة تترك آثارها على الطفل فتلازمه طول حياته وقد تتسبب فى عدم استقرار الحالة المزاجية أو الحدة فى التعبير عن المشاعر - سواء كانت فرحًا أو حزنًا، وهو ما لوحظ فى صلاح جاهين الذى يفرح كالأطفال ويحزن لدرجة الاكتئاب عند المصائب.

استطاع صلاح جاهين ببساطته وتلقائيته التعبير عن كل ما يشغل البسطاء بأسلوب يسهل فهمه واستيعابه، وهو ما جعله فارسًا يحلق برسومه وكلماته ويطوف بها بين مختلف طبقات الشعب المصرى.

حى شبرا 

ولد جاهين فى حى شبرا، فى البيت نفسه الذى ولد فيه أيضًا الموسيقار بليغ حمدى، لم يلتق الاثنان فى طفولتهما حيث كان والد جاهين قاضيًا يتنقل بالأسرة بحكم عمله فى محافظات مصر المختلفة.

وفى تنقلاته مع والده كان جاهين يقرأ حتى إنه تعلم القراءة قبل أن يتعلم المشى، فعندما كان فى الثالثة من عمره، استقالت أمه من عملها كمُدرسة حتى تتفرغ لتربيته وخلال شهور قليلة كان يقرأ ويكتب «أقرأ وأكتب».

وقد حكى لزوجته منى قطان كما كتبت فى كتابها الجديد «صورة شخصية لزوجة الشاعر» الصادر عن «دار الكرمة»، أنه كان قارئًا نهمًا: «ذات مرة أغلقوا عليه مكتبة مدرسته الابتدائية فى صعيد مصر، وظل بها محبوسًا طوال الليل، لأن المشرفين لم يلاحظوا وجوده عند موعد الإغلاق وظلت أمه تبحث عنه فى كل مكان».

دنيا الفن

ومن بوابة المرض دخل صلاح جاهين دنيا الفن ففى سن الحادية عشرة قضى 4 شهور فى سرير المرض «جثة بلا حراك» كما قال، وعندما بدأ فى التعافى كان والده يقرأ له الكتب: «استولى على كل انتباهى العليل كتاب من دون الكتب، اسمه (مشاهير المصورين) سيرة ذاتية لكبار الرسامين العالميين، من ليوناردو دافنشى وحتى فان جوخ.. مازلت أذكر أبى وهو يقرأ لى الفصل الأخير فى الكتاب». 

وبعد أن انتهت الشهور الأربعة واسترد عافيته، وجد نفسه يغادر السرير، ويفتح شباك الغرفة ويكتب أولى قصائده، ويومها قرر أن يكون لديه مكتبة: «أنا عندى مكتبة وسرير ومرتبة.. أطنطن ما بينهم واتشقلب شقلبة» وهى القصيدة التى كتبها فى سن الخامسة عشرة ابتهاجًا بمكتبته. 

بدأ صلاح جاهين بكتابة الفصحى فى أواخر الأربعينيات، وفى عام 1951 رأى فى الصحف صور الفلاحين وهم يساقون كالقطيع. قال لنفسه: «لا فائدة لشعرى إن لم أكتب بلغة هؤلاء الناس».. ومن يومها بدأ الكتابة بالعامية، «لكنى مع الزمن اكتشف أنى أكتب بالعامية أفكارًا فصحى».

قلوب المساجين

وعندما قرأ قصيدة «فى سجن مبنى من حجر.. فى سجن مبنى من قلوب السجانين.. قضبان بتمنع عنك النور والشجر زى العبيد مترصصين» لشاعر مصرى يكتب العامية، وقرر البحث عن هذا الشاعر، الذى لم يكن سوى فؤاد حداد: «رجل مثقف يجيد الفرنسية والإنجليزية ومتمكن من العربية والعامية، لا أجد شاعرًا يضاهيه سوى المتنبى» حسبما قال صلاح.

ومع حداد اكتشف جاهين أسرار الكتابة بالعامية لا كونها مجرد قصائد زجلية. وعندما ألقى القبض على فؤاد حداد لأسباب سياسية دخل جاهين فى مرحلة اكتئاب شديدة، وكان يسير فى شارع قصر العينى عندما دندن مع نفسه: «مع إن كل الخلق من أصل طين ..وكلهم بينزلوا مغمضين ..بعد الدقايق والشهور والسنين ..تلاقى ناس أشرار وناس طيبين..عجبي» وصعد صلاح إلى مجلة صباح الخير، حكى لرئيس التحرير أحمد بهاء الدين حكايات السطور الأربعة، فطلب منه بهاء كتابة 4 منها كل أسبوع للنشر بالمجلة. لتولد الرباعيات التى تعتبر واحدة من أشهر القصائد المصرية. 

«كلمة سلام»

فى عام 1955 أصدر جاهين ديوانه الأول «كلمة سلام»، وقد كتب الروائى فتحى غانم فى مجلة آخر ساعة عن الديوان مقالًا حمل عنوان « شاعر مولود منذ 25 عامًا وعمره خمسة آلاف عام»، بعدها استدعاه رئيس تحرير المجلة محمد حسنين هيكل وسأله: لماذا تكتب عن الشيوعيين؟ اندهش غانم من السؤال: تقصد من؟. أجاب هيكل: صلاح جاهين.. أخبرنى جمال عبد الناصر أنه شيوعى وأجهزة الأمن تراقبه!.. بعد شهور قليلة كان جاهين منشد الثورة، وصانع أيديولوجيتها شعريًا، بل كتب النشيد القومى المصرى «والله زمان يا سلاحي»، وكان الشعر واحدًا من وجوه جاهين المتعددة، كان جاهين رسامًا للكاريكاتير، مغنيًا، صحفيًا وكاتبًا للمقال، كاتب سيناريو ومنتجًا للأفلام، صانع كتب، وممثلًا شارك فى العديد من الأفلام من بينها رابعة العدوية، واللص والكلاب، وغيرها من المجالات التى جعلت كاتبًا مثل نجيب محفوظ يكتب إليه فى إهداء روايته «الحرافيش»: «تحيات مباركات بعدد مواهبك المتنوعة».

بدأ صلاح جاهين رحلته الصحفية بالعمل فى جريدة بنت النيل ثم جريرة التحرير، وفى هذه الفترة أصدر ديوان كلمة سلام أول دواوينه الشعرية. وبالرغم من شهرة جاهين وريادته فى فن الكاريكاتور إلا أن هذه الموهبة اكتشفها فى سن متأخرة وظهرت للنور فى منتصف الخمسينيات حين التحق بالعمل فى مجلة روزا اليوسف، ثم مجلة صباح الخير التى شارك فى تأسيسها عام 1957، ومن أشهر شخصياته الكاريكاتورية: قيس وليلى، قهوة النشاط، والفهامة.

الرباعيات

ظل جاهين طوال سنوات عمره يعمل لأكثر من 12 ساعة يوميا، أثمرت عن ما يزيد على 161 قصيدة، بالإضافة إلى الرباعيات التى تعتبر درة أعماله، التى استمر فى كتابتها يوميا فى الفترة من عام 1959 حتى عام 1963، ونشرها أسبوعيا فى مجلة صباح الخير، ثم توقف عن كتابتها حين انتقل إلى جريدة الأهرام، ليعود إلى كتابتها مرة أخرى عام 1966 حين عاد كرئيس تحرير لصباح الخير، وذلك لمدة عام كفَّ بعده نهائيا عن كتابتها.

اكتسبت هذه الرباعيات شهرتها من سلاسة الكلمات وبساطتها بالرغم من عمق المضمون، كما أنه يناقش من خلالها العديد من القضايا فى شتى المجالات والموضوعات التى تمس الشارع المصرى بل والعربى أيضا، فمن منا يمر يومه دون أن يتذكر واحدة من رباعياته تندرا على ظروف حياته اليومية، ومن منا لم يتبادلها مع حبيب أو صديق، فضلا عن استخدام رباعياته كافتتاحية للعديد من البرامج الإذاعية والتليفزيونية، والتى كان أشهرها الإذاعية الكبيرة إيناس جوهر التى ارتبط صوتها لدينا برباعية جاهين الشهيرة: غمض عينيك وأرقص بخفة ودلع.. الدنيا هى الشابة وأنت الجدع.. تشوف رشاقة خطوتك تعبدك.. لكن أنت لو بصيت لرجليك تقع.

وفى عام 1978 تحولت الرباعيات من مكتوبة إلى مسموعة فى ألبوم غنائى بصوت الفنان الكبير على الحجار، وألحان الموسيقار الراحل سيد مكاوى، وتوزيع الفنان منير الوسيمى، كما قام التليفزيون المصرى بعرض مسلسل يتحدث عن رباعيات صلاح جاهين فى 21 أبريل 2005، وذلك بمناسبة مرور 20 عاما على وفاته.

عالم السينما

لم يقتصر نشاط جاهين الفنى على كتابة الشعر والقصائد الغنائية فقط، فقد كتب سيناريو فيلم خلى بالك من زوزو والذى يعتبر أحد أكثر الأفلام رواجا فى السبعينيات، كما كتب أيضا عدة أفلام منها: أميرة حبى أنا، شفيقة ومتولى والمتوحشة، بالإضافة إلى اشتراكه بالتمثيل فى مجموعة من الأفلام وهى: شهيد الحب الإلهى عام 1962، لا وقت للحب عام 1963 والمماليك 1965، وأنتج فيلم عودة الابن الضال، وقد أسفرت هذه التجربة عن علاقات وطيدة ربطت جاهين بالعديد من الفنانين الذين اعتبروه مصدر إلهامهم الفنى وقدوة فى فلسفة الحياة الخاصة بهم، كما اقترن اسمه باكتشاف العديد من الأسماء الفنية اللامعة.

وهكذا كرس جاهين حياته لخدمة وإثراء الفن والثقافة حتى مواقفه السياسية التى كان أبرزها إيمانه بثورة يوليو ومحبته لقائدها فكانت قصائده لسان حال الشعب للتعبير عن فرحتهم بإنجازات تلك الفترة. لكن تظل أشهر مواقفه التى تحولت إلى أزمة شخصية هى هزيمة 1967 التى عبر عنها من خلال كلمات قصيدة تراب دخان، وبالرغم من أن نشاطه لم يتوقف بل كان فى ازدياد إلا أن النقاد ومحبى جاهين يعتبرون هذا الحدث هو بداية النهاية فقد أورثته الهزيمة مرارة لم يستطع التخلص منها حتى رحل عن عالمنا فى 21 أبريل عام 1986، تاركًا إرثًا عظيمًا من الأشعار والرباعيات التى لن يسعنا فى الحديث عنها وعن أثرها فينا مئات الصفحات والبرامج.

حياة جاهين الأسرية

حبه للفن، وثوراته المتكررة على كل ما هو معتاد، كانا سببا فى زواج الفنان الراحل صلاح جاهين أكثر من مرة، فرغم قدرته على الاعتياد على الحياة الزوجية إلا أنه كان يشبه ريشته التى كان يرسم بها، دائما ما تكون هائمة بين اليمين واليسار وتستقر للحظات فقط.

كان يقدس الحياة الزوجية ويرى أن استمرار الحب هو الدافع الوحيد لاستمرار الزواج، ورغم ذلك تزوج مرتين، كان قلبه قادرا على الحب من جديد وكأنها المرة الأولى، رغم الكثير من التحديات كـنوبات اكتئاب، وتحديات، وفارق سن، واختلاف أديان، وتزوج جاهين أول مرة من زميلته الرسامة، السيدة سوسن زكى، فى عام 1955، وأنجب منها بهاء وأمينة، وكان لقاؤهما بسبب حب سوسن للرسم ولكن منعها أهلها من دراسته، فالتحقت بمؤسسة دار الهلال للعمل بها كرسامة.

والتقت هناك صلاح جاهين، الذى كان يعمل فى مجلة التحرير، وتعارفا وتمت خطبتهما وسرعان ما تزوجا، وكان اتفاقهما أن يصارحا بعضهما بكل شىء، واستمر زواجهما لمدة 12 عاما فقط بسبب أحد الاعترافات لها، ونفذ جاهين الاتفاق، وصارحها بأنه يحب امرأة أخرى وهى «الفلسطينية منى قطان»، مما جعل السيدة سوسن تطلب الطلاق وانفصلا فى هدوء ولكن حافظا على علاقتهما كصديقين.

منى قطان

منى قطان، فلسطينية ارتضت لقب الزوجة الثانية، وكان لها قصة أخرى طويلة منذ خروجها من بلدها وحتى ارتباطها بجاهين، فقد ولدت منى فى حيفا بفلسطين، وكان والدها رجل أعمال فلسطينيا من أصول لبنانية، ولكن فى عام 1947 تبدلت الأحوال وانتقلت إلى القاهرة بسبب قرار تقسيم فلسطين المفاجئ.

كانت والدتها جاكلين خورى صحفية تعمل فى جريدة الأهرام، وتواجدت منى مع والدتها داخل المبنى حتى إنها أحبت العمل فى هذا المجال، وقررت العمل فى الإذاعة، والتقت منى بجاهين لأول مرة فى جريدة الأهرام فى عام 1963، هى صحفية، وهو رسام كاريكاتير، وأعجبا ببعضهما منذ اللحظة الأولى ولكن لم يعترفا بذلك بسبب وجود الكثير من العقبات والتحديات التى تتمم زواجهما.

كانت منى تصغر جاهين بـ 13 عامًا، وكان جاهين فى ذلك الوقت متزوجًا ويحب زوجته سوسن، فضلاً عن السبب الأقوى وهو اختلاف ديانتهما، ومعارضة أهلها للزواج منه، وكان الحل لاستمرار علاقتهما هو أن يرتبطا حتى تتحسن الظروف ويتزوجا، وبالفعل ارتبطا لمدة ثلاثة أعوام حتى تمت خطبتهما فى عام 1966، وعلى الرغم من إصابة صلاح جاهين باكتئاب بعدها بعام بسبب الأحداث السياسية إلا أن وجود منى فى حياته هوّن عليه الكثير.

وفاة جاهين

كان جاهين بالنسبة لمنى والدها الذى افتقدت حنانه، وصديقها الذى لم تجده فى بلاد غريبة عن بلدها، وحبيبها الذى يدعمها فى كل شىء، وأخيرا زوجها الذى ناضل وتحدى كل الظروف من أجل تتويج حبهما بالزواج، وواستمر زواجهما أكثر من 20 عاما، وأنجبت منه ابنتهما الوحيدة سامية جاهين فى عام 1976، وهذا العام هو نفسه الذى قرر فيه جاهين أن يعود إلى زوجته الأولى سوسن، ووافقت أن تُرد إلى عصمته مرة أخرى لأنها كانت لا تزال تحبه، وتوفى صلاح جاهين فى 21 أبريل من عام 1986، واختلف كثيرون على حقيقة وفاته منتحرا أم أنه توفى بشكل طبيعى.