الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
قناة السويس..  كثير من الأوهام والأخطار أيضًا!

قناة السويس.. كثير من الأوهام والأخطار أيضًا!

أحيانًا ندخل فى ألعاب خطيرة بحسن نية على شبكات التواصل الاجتماعى، ونجد أنفسنا دون وعى منا طرفًا فى هجمات شرسة يشنها أعداء الوطن علينا، من هذه الألعاب فيديو على تيك توك بعنوان يجمع بين الحقارة والشماتة «إعلان وفاة قناة السويس»، ولو ظل على تيك توك ما اهتممت بالكتابة عنه، لكنى وجدته أيضًا على الواتساب، فلماذا يرفعه مواطن مصرى على الواتساب بالعنوان الحقير؟



 

 الفيديو خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو إلى مواطنيه يزف لهم مشروعًا عالميًا يصفه بأنه غير مسبوق، ويقول: «عبارة عن وضع بنى تحتية ستربط بين آسيا وأوروبا، وهى رؤية قديمة ستغير وجه الشرق الأوسط ووجه إسرائيل، وستؤثر على العالم بأسره، وتبدأ هذه الرؤية من الهند ثم تمر خلال الإمارات العربية المتحدة والسعودية والأردن وإسرائيل وصولًا إلى أوروبا، هو ممر اقتصادى يحول دولتنا دولة إسرائيل إلى مفرق رئيسى فى هذا الممر، وقد اتصلت بنا الولايات المتحدة بشأن تنفيذ هذه الفرصة التاريخية، وبعدها أجرت اتصالات دبلوماسية مكثفة من أجل هذه الرؤية، التى تعيد تشكيل ملامح منطقتنا، وتجعل الحلم واقعًا، وأتوجه بالشكر إلى الرئيس الأمريكى جو بايدن وإدارته على المجهود الكبير».

وتعجبت من عنوان الفيديو، فخطاب رئيس الوزراء الإسرائيلى من النوع السياسى العاطفى، لم يرد فيه أى معلومات عن حجم «البضائع» التى يتوقع أن تمر بإسرائيل ومدى المكاسب المادية وفرص العمل التى سيتيحها المشروع للإسرائيليين، ولم يتحدث عن التجارة المنقولة من آسيا إلى أوروبا عبر هذا الممر الاقتصادى ونسبتها إلى حجم التجارة الكلى المتبادل بين القارتين..فلماذا أقحمت قناة السويس فى الفيديو ومن أين أتى العنوان «الوقح»؟

ربما لو راجعنا تفاصيل المشروع قد نكتشف حقائق هذا الخطر الداهم على قناة السويس ومقداره..

يتكون مشروع الممر الاقتصادى من ثلاث ممرات فرعية، بحرى من الهند إلى الإمارات، سكك حديدية من الإمارات إلى إسرائيل عبر السعودية والأردن، وممر بحرى من حيفا إلى اليونان، ومنها بريًا إلى كل أنحاء أوروبا..

 وقبل أن نفسر الممرات الثلاثة وقدراتها على نقل التجارة العالمية بين الهند وأوروبا وتأثيراتها، نسأل سؤالًا بديهيًا مبدئيًا: ما علاقة الولايات المتحدة به ولماذا تتبنى مشروعًا اقتصاديًا يبعد آلاف الأميال عن حدودها وتصر عليه، وتعلنه مع الاتحاد الأوروبى فى قمة العشرين التى عقدت فى الهند قبل أسبوعين، مع أنها لن تستخدمه فى نقل أى من سلعها تصديرًا أو استيرادًا، فأهم شركائها التجاريين هم كندا والمكسيك وبريطانيا وألمانيا واليابان والصين ؟ 

كيف تلعب دور الراعى الرسمى والمستثمر المحرض وهى خارج دائرة عمله؟

لا يمكن فهم هذا المشروع بعيدًا عن كتابات المحافظين الجدد فى الولايات المتحدة عن قرن أمريكى جديد، وهى كتابات انهمرت على العقل الأمريكى العام والخاص بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، ووضعت أفكارًا وتصورات عن كيفية إبقاء واشنطن على قمة النظام العالمى قطبًا منفردًا فى القرن الحادى والعشرين، وكانت من نتائجها غزو أفغانستان والعراق باسم الحرب على الإرهاب، والتوسع فى الوجود العسكرى الأمريكى خارج الحدود.

باختصار هو مشروع سياسى وليس مشروعًا اقتصاديًا، فالمنهج الضامن لدور أمريكا المهيمن، هو أن تدس أنفها وخيوط السيطرة والتحكم على طرق التبادل التجارى بين أسواق المنتجات الخام والسلع تامة الصنع، مما يتيح لها فرص اللعب من خلف الكواليس، والتلاعب بالخيوط بما يسمح بتعظيم مكاسبها، والحد من قدرات الدول المنافسة على النمو بطفرات تهدد مكانتها الاقتصادية، وتحديدًا الصين وروسيا.

والجزء الاقتصادى الفعال هو ربط دول عربية مؤثرة ربطًا اقتصاديًا لا ينفصم مع إسرائيل، باعتبار أن هذا الربط هو أول خطوة فى تأسيس واقع جديد فى الشرق الأوسط، الواقع الذى تحلم فيه إسرائيل بأن تكون لها اليد الطولى اقتصاديًا، وحسب كلام بنيامين نيتانياهو «يجعل دولتنا مفرقًا رئيسيًا فى هذا الممر ويعيد تشكيل ملامح منطقتنا».

وأتصور أن الهدف الثانى هو مربط الفرس بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة، لأن القيمة الاقتصادية لهذا الممر الحلم أو الرؤية القديمة محدودة، إذا قيست بتكاليفه الباهظة وعوائده التى قد تتعرض لمخاطر كبيرة جدًا، ولهذا لم تر هذه الرؤية القديمة النور منذ طرح الفكرة مرتين، الأولى مع غلق قناة السويس بعد حرب يونيو 1967، والثانية بعد إعادة فتحها بخمس سنوات، بأن تصل السفن إلى إيلات التى تصبح منطقة حرة ومنها عبر سكك حديدية إلى حيفا دون المرور على قناة السويس.

وأذكر فى بداية عملى الصحفى نشرت حوارًا مع المهندس محمد عزت عادل رئيس هيئة قناة السويس وقتها فى روزاليوسف، وكنا فى عام 1986 وسألته عن مشروع إيلات وأمثاله، فأخرج خارطة لقارات العالم القديم: آسيا وأوروبا وإفريقيا وقال لي: أى مشروع يمكن أن يقتطع جزءًا مما يمر فى قناة السويس نعتبره منافسًا لنا، ونحن على علم بوجود منافسين كثر سواء فى ممرات من آسيا إلى أوروبا بالسكك الحديدية أو غيرها، أما مشروع إيلات..فلا خوف منه، ولن ينفذونه، فهو يخسرهم الجلد والسقط.

لهذا لم أقلق من خطاب بنيامين نيتنياهو، وبدا محاولة عجول «لترميم» وضعه المتأزم فى الشارع الإسرائيلى منذ شهور طويلة، إلى حد اندلاع بعض الاضطرابات والمصادمات مع الشرطة.

لكن كان الغضب كل الغضب من العنوان الوقح، الذى رفعت به الكتائب الإلكترونية المعادية الفيديو على شبكات التواصل الاجتماعى.

فى المساء جلست مع شلة على مقهى شعبى، نلعب طاولة أغلب الوقت، نتحدث فى أحوال الدنيا بعض الوقت، بعضهم على المعاش من وظائف جيدة، بعضهم ما زال فى الخدمة، وبعضهم من أصحاب مشروعات خاصة متوسطة، وانضم إلينا شاب تجاوز الثلاثين بقليل، يتردد على عمه من آن لآخر، فجأة سأل الشاب: طبعًا سمعتم عن مشروع الممر الاقتصادى بين الهند وأوروبا.. كيف نتجنب تأثيره على قناة السويس؟

قلت فى اقتضاب: لا أظنه مؤثرًا لأسباب كثيرة يطول شرحها.

قال الشاب: لكن التقارير ومواقع السوشيال ميديا تتحدث عن أخطار كثيرة تهدد قناة السويس.

قلت: كلام فارغ لا يمت للاقتصاد بصلة، قناة السويس ممر مائى غير قابل للمنافسة، يعنى لا يوجد مشروع يربط بين آسيا أوروبا قادر على منافسة قناة السويس، وعموما آسيا ليست الهند فقط..

أولًا: أهم دولتين اقتصاديًا فى آسيا هما الصين واليابان، وحجم التبادل التجارى لهما مع العالم يقترب من 8 تريليونات دولار، بينما تجارة الهند تصديرًا واستيرادًا تصل إلى تريليون دولار تقريبًا.

ثانيًا: يقولون إن الممر الجديد قد يوفر 40 % من الوقت، وهذا كلام يحتاج إلى إعادة تفكير، فالطريق الجديد من الهند ليس ممرًا مستقيمًا تستخدمه البضائع دون توقف، إنما هو طريق منقسم إلى مراحل، بحرى من الهند إلى الإمارات، وتفرغ السفن حمولتها ويعاد شحنها فى قطار يقطع مسافة تقترب من 2800 كيلومتر، ثم يتكرر التفريغ والشحن فى ميناء حيفا، لتحملها سفن إلى اليونان، أى هناك وقت ضائع ليس قليلًا فى التفريغ وإعادة الشحن «الدوبل هاندننج»، ناهيك أنه مكلف جدًا، والأهم أن سفينة عملاقة واحدة تحمل عشرين ألف حاوية، لو قررت أن تسلك الممر الجديد، فهى تحتاج إلى ما لا يقل عن عشرين ألف عربة قطار بضائع، لنقلها من دبى إلى حيفا.

ثالثًا: قناة السويس ممر بحرى تكاليف تشغيله محدودة، وقابلة للتحكم فيها، أى يسهل الضغط بتعديل رسوم المرور فى القناة إلى الحد الذى يجعل أى ممر منافس بلا جدوى اقتصادية.

هل معنى ذلك ألا نقلق؟

العكس هو الصحيح، علينا أن نقلق ونقلق بشدة، لكن القلق لا يحل ولا يربط، الذى يحل ويربط هو العمل الجاد فى استثمار ضفاف أهم ممر ملاحى على كوكب الأرض، فنحن نتحدث أكثر مما نعمل، يجب أن نحول ضفاف القناة إلى مناطق صناعية ومناطق حرة، حتى نغلق أبواب الأوهام أمام الآخرين.