الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
حين صحح المصريون مسار التاريخ!

حين صحح المصريون مسار التاريخ!

سيتوقف التاريخ طويلا أمام هتاف المصريين الذى ابتكروه فى 30 يونيو 2013 ونفذوه على أرض الواقع، صحيح كان لهم هتافات كثيرة ومتنوعة منذ أصدر الرئيس المغضوب عليه محمد مرسى إعلانه الدستورى الخاص فى 22 نوفمبر 2012، والذى حوله من رئيس إلى حاكم بأمر الله، لكن هتاف «النهاية» كان عبقريا فيه شخصيتهم وسماتهم المعروفة عنهم، بالطبع ظل يداعب خيال الناس وأفكارهم حتى اختمر بعد سبعة أشهر وثمانية عشر يوما وانطلقت به ألسنتهم: «النهارده العصر..آخر يوم فى القصر».



نعم لم يكن هتافا فحسب، بل كان قرارا شعبيا غير قابل للنقض والإبرام، اتخذوا وهم مدركون أنه محفوف بالمخاطر، ويترصده الدم، فالرئيس الذى يجب أن يخرج من القصر، له جماعة وتنظيم دولى، والجماعة لها فرقة خاصة مسلحة وتاريخ فى العنف مسطور فى وثائق وأدلة دامغة وأحكام قضائية من أربعينيات القرن العشرين، لكن الشعوب تمضى أحيانا فى دروب فى غاية الوعورة، كى تحافظ على هويتها وسماتها مهما كان الثمن.

ولم يكن غريبا أن الجماعة هى التى رسمت بنفسها الطريق إلى الهتاف القرار، نعم فعلت ذلك عمدا مع سبق الإصرار والترصد، حين تصورت أن المصرييين أصبحوا «رعية» فى معية الحاكم بأمر الله، وأنهم سيقبلون أى   قرارات قادمة من «مولاهم»، الذى اختارته السماء ومنحته الملك، والبشر مجرد أدوات أو روافع لتنفيذ الوعد، كان قرار عودة مجلس الشعب المنحل بحكم من المحكمة الدستورية أول خطوة على الطريق إلى النهاية، أعقبها خطوات وخطوط بنفس نمط التفكير والتصرفات الغرورة، مثل إحالة النائب العام «المختار» طلعت عبدالله مجموعة كبيرة من الشخصيات العامة المعارضة إلى النيابة بتهمة قلب نظام الحكم والخروج على الشرعية الدستورية وإثارة الفوضى وتكدير الأمن العام والسلم الاجتماعى، ولكنها بلاغات من أعضاء فى الجماعة، تعيين محافظين من الإخوان وتيارات الجهاد، منهم عادل خياط محافظا للأقصر، وكان متهما فى عملية إرهابية فى معبد حتشبسوت، قتل فيها 58 سائحا فى عام 1997، بث جلسة وطنية على الهواء مع القوة السياسية والشخصيات العامة دون علمهم، وهم يناقشون قضايا أمن قومى مثل بناء سد النهضة، عقد اجتماع مكتب الإرشاد العالمى اجتماعا له بالقاهرة، عقد مؤتمر صحفى لحزب الجماعة ومناصريه يهاجمون فيه المحكمة الدستورية ومحاكمة أعضائها بتهمة الخيانة العظمى، نهيك عن حصار المحكمة شهورا طويلة.. إلخ.

باختصار وبعنجهية السلطة والقوة راحوا يدفعون المصريين إلى رسم المشهد العام لـ30 يونيو، فى كل محافظة، ومدينة، ومركز، وقرية وكفر ونجع، وحين اكتمل لم تجد الجماعة نفسها فيه لا فى القصر ولا فى الوطن كله.

 -1- 

صحت القاهرة فى 30 يونيو على شمس عفَّية، تبخ صهدا غاضبا، وبدت فى أول النهار خاوية، أو هجرها أهلها، المحال مغلقة، محطات الوقود فارغة من طوابير السيارات لأول مرة منذ شهور، نوافذ البيوت مصمتة، لكن الشرفات ترفرف عليها أعلام منصوبة، ولافتات تشى بالنيات المتوارية خلف الجدران «أرحل»، «يسقط يسقط حكم المرشد»..إلخ.

ويبدو أن خلاء الشوارع أغرى رئيس الوزراء الدكتور هشام قنديل أن يخرج فى الفجر، فى موكب «استطلاعى»، أو مفرزة راصدة على ميدان التحرير والشوارع المحيطة به، وحين لم يجد شيئا ملفتا أو مختلفا، أكمل «استطلاعه» إلى ميدان مصطفى محمود ثم ميدان رمسيس ومنه إلى الشوارع المحيطة بقصر الاتحادية، وانتهى إلى وزارة الاستثمار فى شارع صلاح سالم بين مستشفى العباسية للصحة النفسية وأرض المعارض القديمة، ربما قراره بعدم الذهاب إلى مكتبه فى مقر مجلس الوزراء القريب من ميدان التحرير تحسبا لأى مفاجآت قد تحاصره بالمقر، وربما ليكون قريبا من مقر الرئاسة، لكن المدهش أن وزراء وسط البلد قلدوه ولم يذهبوا إلى مكاتبهم كوزراء الأوقاف والتعليم العالى والتعليم والصحة.

كانوا يظنون أن 30 يونيو مجرد تعبير عن الرأى مبالغ فيه، سوف ينحصر فى ميدان التحرير ويعود أصحابها على أعقابهم، ولم يتصوروا أبدا أنها عملية طرد شاملة.

كانت الجماعة قد سربت أخبارا مقصودة، بأن تعديلا وزاريا موسعا سيحدث بعد ساعات يشمل رئيس الوزراء نفسه، وسوف يدخل الوزارة الجديدة وجوه مقبولة شعبيا، بهدف تخفيف حالة الاحتقان. 

لم يكن الخبر صحيحا، ولم ير تخفيف حالة الاحتقان فى أى حوارات داخل الجماعة أو مع التيارات الدينية المناصرة لها، بل كانت القبضة الحديدية هى مفتاح الحل فى إدبياتهم.

   - 2 –

فكرت الجماعة فى خدعة قوية تمنع الناس من النزول فى 30 يونيو، فأوعزت للحكومة بأن تصرف معاشات يوليو فى ذلك اليوم بالعلاوات الجديدة، ولكم أن تتصورا ماذا يحدث من وقوف تسعة ملايين مصرى أمام مكاتب البريد وماكينات الصرف وشبابيك البنوك فى كل أنحاء البلاد لاستلام المعاش بالزيادة.

المدهش لا أصحاب المعاش نزلوا، ولا موظفى الحكومة أنفسهم، فبدت المكاتب الحكومية شبه مهجورة، وهبطت نسب الحضور فى أغلب المحافظات دون الربع إلا فى محافظة واحدة هى دمياط وصلت أعدادهم إلى 40 %، ويبدو أن المصريين كانوا مصرين على تنفيذ هتافهم القرار، دون أى تردد.

ووقف على أبواب مجموعة التحرير مجموعة من المعاقين ومنعوا الموظفين من الدخول، وطردوا الذين جاءوا مبكرا، وقال محسن رشاد منسق ثوار من اجل تراب مصر المعاقين إن المعاقين قادرون على إسقاط الرئيس إذا لم يستطع الأسوياء ذلك.

فى الوقت نفسه تحدى بعض المصريين حرارة الجو فى مدن عديدة مثل الشهداء فى المنوفية، والزقازيق بالشرقية (مقر الجامعة التى عمل بها الدكتور محمد مرسى أستاذا)، وبدأوا تنفيذ هتافهم من الثامنة صباحا، وعلا صوت النساء فيها: صوت المرأة ثورة وليس عورة، أما أهالى أسيوط فقد فرضت البيئة والأجواء المحيطة بهم منطقها عليهم، إذا خرجوا إلى الشوارع بإعلام مصر داخلها الهلال والصليب يهتفون: لو أبو الهول ساب مصر أحنا مش حنسيبها، فتصدى لهم أنصار الجماعة والتيارات المتأسلمة، واعتلوا أسطح العمارات، وأطلقوا عليهم الأعيرة النارية والخرطوش، فسقط أول شهداء اسيوط «أبانوب عادل ومحمد عبدالحميد»، ولم يرحل المتظاهرون عن محيط مبنى المحافظة.

ومع مرور ساعات النهار وبدء الشمس فى الإصفرار هرولت ملايين الأقدام خارج بيوتها ودورها على امتداد البلاد من أسوان إلى مطروح، فى مشهد لم يحدث من قبل، نعم لم يحدث من قبل فى قرى لم يسبق لأهلها أن خرجوا فى مظاهرة، بل إن الفكرة نفسها لم تخطر على بالهم فى أى زمن، كانت أول مرة يتجمعون فيها معا بعيدا عن جنازة لكبير فى القرية محبوب منهم، ويهتفون بشعارات شعبية لم تعرفها الألسنة من قبل: «إدى اللى ظلمك ميت شلوت.. مصر حترجع بنت بنوت»!!

تحولت شوارع مصر إلى صخور بشرية أشد صلابة من الجرانيت، تهدر وتندفع بأنفاس أهلها جارفة فى طريقها الجماعة إلى المجهول.

- 3 –

هؤلاء هم المصريون العاديون، ملح هذه الأرض الطيبة، الصابرون المتحملون الذين يشيلونها فى حباب أعينهم، دون كلل أو ملل مهما تألموا، هؤلاء الذين صححوا مسار التاريخ حين تعرج وانحرف عن مساره المعتاد، وراح يدهس خريطة المنطقة العربية، ويغير من ملامحها وحدودها وطبيعة أهلها.

وأدرك صناع المسار الجديد أن «مصر» هى «السد، وأن مهما حدث من تجريفات هنا أو هناك، فى السودان أو اليمن أو العراق أو سوريا، وبقيت مصر، يمكن أن تسترد المنطقة نفسها وتعود دولها إلى طبيعتها وحدودها بعد حقبة أو بعد قرن، لكن إذا سقط السد وتناثرت أعمدته وحجارته، فسوف تجرف المياه المندفعة من خلف السد كل حدود المنطقة وأهلها إلى «عالم مختلف بائس»، على قدر مقاس الذين خططوا وسعوا ومولوا وساندوا.

نعم.. هذا شعب عظيم، استطاع ببساطة وبفطرته وجيناته الحضارية الكامنة تحت جلده، أن يقلب المؤامرة ويغير مسارها أو يصححه إلى ما يريد، ومهما كانت صعوبات الواقع وأزماته الآن، فهى حالة مؤقتة يعمل المصريون على حلها وتجاوزها، لكن المؤامرة كانت ستغير هويته، تكوينه النفسى والإنسانى، تاريخه الممتد فى الزمان من أول الزمان، وقيمته الخالدة فجرا للضمير فى تاريخ البشرية

نعم مد المصريون أيديهم إلى عجلة الأحداث وأداروها بالكيفية التى أعادت إليهم مصر كما عرفها التاريخ.