الأربعاء 8 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

مع فضيلة د. على جمعة عضو هيئة كبار العلماء (5) الرحمات والمغفرة بابهما مفتوح إلى يوم الدين.. ومن أراد أن ينهل منهما فعليه بجزء الليل الأخير

روضة رمضان



 

مع بدءِ أيامِ  شَهْر رمضان  حرصنا على أن نكونَ معكم من خلال روضة رمضانية  تقدم مادةً صحفية من نوع خاص تُشبع رغبة القارئ فى معرفة رأى الدين فى بعض القضايا وتأخذ بيده للجلوس على مائدة أحد كبار العلماء للتعرُّف على رأى الدين فى العديد من القضايا؛ حيث خصَّصنا فى «روضة رمضان» هذا العام حوارًا أسبوعيًا مع فضيلة الدكتور على جمعة مفتى الجمهورية السابق الذى يتسمُ بغزارة العلم والفقه، فضلاً عن كونك تشعر بالألفة معه كونه يحمل صفة العالِم  الفقيه.

كما كان لنا فى الروضة تحقيقٌ فى عدد من الموضوعات التى نعرضها تباعًا كل أسبوع نتعرَّف من خلالها على رؤية تنويرية دينية صحيحة تثير الوعى الدينى، وتسهم فى تعميق الفهم الصحيح للدين.

ولم نتجاهَل فى «روضة رمضان» هذا العام من طرح عدد من الفتاوَى التى تساعدنا فى رمضان على تجاوُز بعض الأمور التى قد تلتبس لدَيْنا خلال

 الشهر الكريم. 

 

يعد فضيلة الدكتور على جمعة عضو هيئة كبار العلماء ورئيس اللجنة الدينية بمجلس الشعب، والمفتى السابق، وشيخ الطريقة الصديقية الشاذلية النموذج الأمثل للعالم المجدد فى عصرنا المتلاحق الأحداث، حيث استطاع فضيلته امتلاك أداوت التجديد بفهم صحيح للواقع وأحكام الدين الحنيف، لذلك كانت له منهجية ورؤية عصرية فى نقل تعاليم الدين الصحيحة، وأحكام الشرع الحنيف من متون التراث، وكتب الفقه وأصوله والتى يصعب على الكثيرين فهمها الصحيح، إلى الجانب التطبيقى فى حياتنا بصورة عصرية تقبلها الناس بمختلف ثقافاتهم ومعرفتهم، فأصبح بما يقدمه من توضيح للدين مجدد العصر.

ومن خلال روضة رمضان نبحر مع فضيلة العلامة الدكتور على جمعة فى معرفة منهجه، ورؤيته فى كثير من القضايا التى يصعب على كثير منا الوصول فيها إلى رؤية يطمئن لها الإنسان، وتحقق له الاتباع الصحيح للدين. وفى حلقتنا ومع انتهاء الشهر الفضيل ينتاب البعض السؤال عن الرحمات والمغفرة وهل لها وقت؟ 

وهنا يؤكد د.على جمعة أن الرحمات والمغفرة بابهما مفتوح إلى يوم الدين، ومن أراد أن ينهل منهما فعليه بجزء الليل الأخير فإنه تنزل فيه الرحمات من الله، وذلك فى كل ليلة لا تختص به ليلة دون ليلة قال رسول الله: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير يقول: من يدعونى فأستجيب له، من يسألنى فأعطيه، من يستغفرنى فأغفر له» من أجل ذلك كان على المسلم أن يحرص على إصلاح ذات بينه، وعلى أن يجمع كلمته مع أخيه.

والمسلم مأمور دائما وأبدا بأن يصلح ذات بينه مع الناس عامة، قال تعالى: (لَا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)، كما هو مأمور أن يصلح ذات بينه مع المؤمنين، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وقد بين النبى الفضل العظيم والنفع العميم المترتب على إصلاح ذات البين، فقال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة»، قالوا: بلى، قال: «صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هى الحالقة»، وبعد أن ذكر الإمام الترمذى هذا الحديث قال: ويروى عن النبى  أنه قال: «هى الحالقة لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» (سنن الترمذى)، فجعل النبى أجر الإصلاح بين الناس أعلى وأفضل من عبادات تعد ركنا أصيلا فى الإسلام، ليستنفر همة المسلم فيحرص على الإصلاح فى المجتمع، مما يجعله مجتمعا صالحا تتحقق فيه وحدة الصف وسلامة الهدف. 

وحول كيف نحقق الاعتصام بالله ونستمر عليه طوال العام ؟ 

وفى هذا يرى د.على جمعة أن الاعتصام بالله تعالى يأتى بعد الاعتصام بحبله فالدرجة الأولى أعلى وأرقى من الثانية‏، ‏ الاعتصام بحبل الله طريق البداية‏، ‏ والاعتصام بالله هو درجة الإحسان‏، ‏ الاعتصام بحبل الله هو سلوك الطريق إلى الله للمبتدئين، والاعتصام بالله هو غاية التحقيق للمنتهين‏،‏ الاعتصام بحبل الله هو منهج الحياة، والاعتصام بالله هو غاية العبد ومنتهاه‏، ‏ الاعتصام بالله سبحانه وتعالى يأتى بعد ما تنتهى من الاعتصام بحبله؛ فالاعتصام بحبل الله هو اتخاذ الوسائل واستعمال الأسباب كما أمر الله، والاعتصام بالله هو استنجاح المقاصد من الله والاعتماد فى حصول النتائج على الله.‏‏

ويوضح قائلا: «أن الاعتصام بالله‏:‏ هو الترقى عن كل موهوم والتخلص من كل تردد‏:‏ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله وهذا العالم بأجمعه وتفصيله عالم لا حول فيه ولا قوة لأنه عالم حادث مخلوق ولأنه عالم فإنه غير باق ولأنه عالم محتاج إلى غيره ولأنه له بداية وله نهاية ولأنه ليس مقصودا لذاته إذا وضعنا هذا فى مقابلة الله الباقى القدير الأول الآخر الظاهر الباطن الذى هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فأين الموهوم وأين الحقيقة؟ الحقيقة الثابتة‏:‏ الله‏، ‏ وأما الموهوم فهو هذا الذى نظن ولا نعرف الغيب فيه‏، ‏ ولا نقدر على أمر أنفسنا ولا ندرى كيف ننام ولا كيف نقوم‏، ‏ فما هذا؟ موهوم‏، ‏ فإذا ترقيت من الموهوم إلى الحقيقى فقد بدأ نور المعرفة يصل إلى قلبك وأصل طريق الله المعرفة‏.‏

وعند الأمر بالاعتصام بالله فالأمر يختلف فإنه سبحانه وتعالى يقول فى أول الآية‏: (وَجَاهِدُوا فِى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) فقدم قبل الأمر بالاعتصام بالله الأمر بالإسلام والإيمان والعمل فقال (وَجَاهِدُوا) (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (وَآَتُوا الزَّكَاةَ) وكذلك دائما فلابد من العمل وهذا هو الاعتصام بحبل الله؛ فحبل الله‏‏ الأوامر والنواهي‏، ‏ والدين هو حبل الله‏، ‏والقرآن حبل الله المتين‏، ‏ثم قال‏: (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) فالأول‏:‏ الاعتصام بحبل الله، والثانى الاعتصام بالله ولذلك عبر فى آية آل عمران بكلمة جميعا عندما ذكر حبل الله فلابد للكل أن يعتصموا به التزاما بالإيمان بالله والجماعة، وعدم التفرق، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر على كل المستويات، لكن لم يقل هنا ‏(جميعا‏)‏ لأن هؤلاء أهل درجة الإحسان العليا الذين قال الله فيهم‏: (ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ  وَقَلِيلٌ مِنَ الآَخِرِينَ) [الواقعة:13-14] فهذا القرآن من عند الله لا يستطيع أحد أن يؤلفه أو شيئا منه ولو امتدت به الأزمان والأحقاب لأنه مازال إلى اليوم يفتح مغاليقه‏، (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِى الآَفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ). 

التصوف وصوفية مصر

وهنا انتقلنا إلى قضية متعلقة بالتطبيق فى الاعتصام بالله وهى التصوف، والسؤال عن حقيقة ما يردده البعض من أن التصوف يؤدى لتغييب العقل والابتعاد عن صحيح الدين والابتداع؟

وهنا يرى د. على جمعة أن كل هذا ينافى الحقيقية ويؤكد أن التصوف نشأ ليضع أتباعه فى خضم الأحداث الاجتماعية والسياسية فى المجتمع الإسلامى لا ليكونوا فى معزل عن تلك الأحداث‏، ‏بل عمل على إعدادهم ليكونوا فى خدمة الدين والأمة والوطن‏.‏ فلم يقف التصوف ولا الصوفية عند حالة الذكر والزهد والتعبد الفردى أو الجماعي، بل أصبح للتصوف مؤسسات كبيرة لها امتداد فى العالم أجمع، وصارت تقوم بدور تنموى وسياسى واجتماعى.

ويستشهد د.على جمعة على هذا الأمر بأن الصوفية أفرزت على مر العصور علماء ورجالا وقامات يزخر ويزدهر التاريخ الإسلامى بهم استنادا إلى شعبيتهم الجارفة، وحب جماهير المسلمين لهم، وما وصلوا إلى هذه المكانة وتلك المرتبة إلا بحسن التأسى والسلوك على المنهج القويم الثابت عن الكتاب والسنة واحترام علماء الأمة والسعى إلى وحدة المسلمين وابتغاء تماسكهم، ولذا لم يقتصروا على جهاد النفس فحسب كما يردد من لا يعرفهم، ولكنهم جمعوا إلى ذلك القوة فى محاربة الأعداء والطغاة..ومن نماذج هؤلاء الإمام الغزالى ومحيى الدين بن عربى والعز بن عبد السلام والإمام النووي، وفى العهد غير البعيد حمل الصوفية لواء الثورة الوطنية فى مصر فى مواجهة أمراء المماليك، حيث قاد الإمام الدردير الصوفى الكبير ثورة كبيرة ضد المماليك قبل الثورة الفرنسية بثلاث سنوات، أجبرت المماليك على الاعتراف بأن الأمة مصدر السلطات، ومنعتهم من فرض ضرائب جديدة إلا برأى الشعب، مع الإقرار الكامل بحرية الأمة وكرامتها.

ويوضح د.على جمعة قائلا: «للتصوف أصول وضوابط كبرى هى: التمسك بكتاب الله، والاقتداء بسنة رسوله، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب المعاصى، والتوبة، وأداء الحقوق.. كما أن التصوف يكون بالصبر على الأوامر واليقين فى الهداية، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)، وقد نص الصوفية على أنه: لا يصلح للتصدر فى طريق الصوفية إلا من تبحر فى علم الشريعة وعلم منطوقها ومفهومها وخاصها وعامها وناسخها ومنسوخها، وتبحر فى لغة العرب حتى عرف مجازاتها واستعاراتها وغير ذلك.

ولقد نشأت الصوفية فى مصر على أساس من الوسطية والاعتدال، وقد صاحبها إنشاء أول خانقاة فى مصر فى عصر الناصر صلاح الدين الأيوبي، وانتشرت من بعدها الخانقاوات والمدارس الصوفية فى ربوع مصر فعملت على إعداد المريدين والطلاب إعدادا نفسيا وتربويا وأخلاقيا لمواجهة المخاطر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التى كانت تعصف بالمجتمع المسلم بين فترة وأخرى. وتمسكا بالمبدأ الوسطى الذى قام عليه الإسلام، فكانت الصوفية فى مصر بعيدة عن الغلو، وتتميز بالاعتـدال وتنأى عن الشطط، فقد كانت الطرق الصوفية المصرية يجمعها طابع خاص هو العناية بالجانب العلمى والخلقى.

ومع ما كان للتصوف فى مصر من حياة روحية خاصة، فقد كان له تأثيره الخاص على العديد من مظاهر الحياة المحيطة به، وكان ذلك داعيا إلى الاعتماد عليه فى الدعوة إلى الله ورسوله، وهو ما ساعد الصوفية بقوة فى تشكيل الهوية الدينية الوسطية فى مصر، وكان سبيلها فى ذلك بساطة العرض الذى تقوم به وسهولة الانضواء تحت لوائها فى ظل الخطوب التى تعرضت لها مصر خلال الفترات المختلفة، حيث كانت التكايا والزوايا والخانقاوات ملاذا آمنا للمظلومين والفقراء والضعفاء، وغدت تلك المراكز نبراسا دينيا حضاريا يتخرج فيه المسلم العامل بكتاب الله وسنة رسوله ليجاهد فى سبيل وطنه ودينه، ومن ثم شكلت الصوفية جل الحالة الدينية فى مصر التى اتسمت بالبعد عن الغلو والتشدد.وقد ارتبط التصوف بحب آل البيت وإقامة الموالد وحلقات الذكر، ما ساعد على جذب المريدين إلى محبة المساجد وآل البيت، وهو الأمر الذى أسهم فى بلورة الإسلام الوسطى وتشكيل الهوية الدينية.

وعن كيفية التعامل مع ظهور نماذج مسيئة للصوفية؟

يقول د.على جمعة: «لقد كانت الصوفية -وما زالت- عاملا فاعلا وأصيلا فى المجتمع الإسلامى فى مصر، وهو ما يدعو الطرق الصوفية فى كل زمان إلى الالتفاف حول أصول التصوف والتمسك بها، والعودة إلى دورها الرائد فى الدعوة إلى الله وقيادة المجتمع دينيا واجتماعيا وسياسيا، كما كانت طوال تاريخها فى مصر، ولا يضيرها ظهور بعض الفئات من المتواكلين والجهلة الذين يتكسبون من وراء ادعائهم الصوفية والانتساب إليها، فطريق التصوف جلى قوى لا يحيد عن صراط الله المستقيم رغم تهجم المتهجمين واتهام المغرضين.

الرؤية الصالحة 

وحول مفهوم الرؤية الصالحة وهل تعد حقيقة؟ 

يوضح د.على جمعة ذلك بما جاء فى السنة من أن النبى جلس إلى صحابته الكرام وقال لهم: «انقطعت النبوة فلا نبى بعدى ولا رسول»، تخيل الصحابة أن خبر السماء قد انتهى، وأن الوحى قد انتهى، وأن المرجع الأعلى لا يكون فينا، فشق ذلك على الصحابة وتكلم بعضهم مع بعض، منهم من يبكى، ومنهم من قد حزن حزنًا شديدًا، ومنهم من قد اعتزل الناس، عندما تصوروا أن هذا اليقين وأن هذه اللطافة والحلاوة سيحرمون منها خاصة بعد أن ينتقل رسول الله إلى الرفيق الأعلى، ولذلك عندما انتقل إلى الرفيق الأعلى، قالوا: «أنكرنا قلوبنا»، تخيل نفسك وأنت قد انفتحت عليك أبواب السماء ورب العالمين يخاطب نبيه أمامك، وتخيل نفسك وقد أغلق عليك الباب، فشق ذلك على الصحابة، فسلاهم النبى قال: « انقطعت النبوة وبقيت المبشرات» قالوا وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: « الرؤية الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له».

فأرشدنا الرسول إلى أن الله لا يقطع مدده عن المحسنين من عباده، وأن الله - سبحانه وتعالى - لا يزال ينزل رحماته على عباده، ولا يكون محسنًا إلا من كان من أمة المسلمين، ولا يكون محسنًا إلا من اتقى الله فى السر والعلن، ولا يكون محسناُ إلا من تورع عن حرمات الله، ولا يكون محسنًا إلا من ذكر الله كثيرا، فمن كانت هذه صفته بقيت المبشرات فيه ومنه وله؛ «فيه» بالرؤية الصالحة يراها، و«منه» حيث يذكر الله حين يرى، و«له» حيث يرى الناس الرؤى الصالحة له.

والنبى يعلق الرؤيا على النظر؛ نظر البصيرة وعين البصيرة لا على السمع، فيقول: «من رآنى فقد رآنى حقا، فإن الشيطان لا يتمثل بى»، نعم الشيطان لا يتمثل بسيدنا رسول الله مناما ولا يقظة، قال العلماء: علق النبى الرؤيا بالنظر والصورة والشكل، لا بالكلام والسمع. يشكو بعض الناس أنهم يرون رسول الله فيحدثهم بما يخالف الشريعة، فاعلم أن رؤيتك للنبى حق، وأن سماعك منه ما يخالف الشريعة قد يكون من إلقاء الشيطان؛ فمناط الرؤيا الشكل والصورة، وليس مناط الرؤيا السمع، فإنك لو سمعت شيئًا مخالفًا للكتاب والسنة فعليك أن ترفضه وأن ترده، أو مخالفًا للواقع المحسوس، أو كان أمرًا بالمنكر ونهيًا عن المعروف، أو إثمًا، أو قطيعة رحم، لو كان شيء من ذلك فرده، ولو أنك قد رأيت صورة سيدنا محمد، فالرؤيا مناطها الصورة والشكل وهو حق، وليس مناطها الكلام.الرؤيا حق.. خاصة إذا كانت لنبى الله، ومناطها إنما هو الصورة لا السمع، وهى ليست بحجة إذا خالفت الشرع الشريف أو الواقع المعيش.

صفات عباد الله 

وهنا توقفنا لمعرفة صفات عباد الله، وكيف يتحقق بها كل منا؟ 

ويجيب د.على جمعة بقوله: صفات عباد الرحمن صفات مهمة ينبغى علينا أن نؤمن بها، وأن نتدرب عليها، وأن نداوم عليها ولو قليلًا، وكلها صفات يحبها الله سبحانه وتعالى، وأول هذه الصفات: «التواضع» حيث يقول تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا، ولذلك كان الكبر مانعا لدخول الجنة «لن يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال حبةٍ من خردلٍ من كبر» وحبة الخردل الـ 6000 منها يساوى جرامًا واحدًا؟ هل تدرون أن الجرام هذا شيء بسيط جدًا، فإذا كان الإنسان عنده واحد على ستة آلاف من الجرام من الكِبر، وأن هذا يمنعه من دخول الجنة، فما بالك لو تمكّن الكبر من القلب؟ إنه مرض من أمراض القلوب الشديدة. «من تواضع لله رفعه» فالتواضع سبب الرفعة.

وثانى الصفات لعباد الرحمن: «ترك الجدال مع الجاهلين» فالجاهل عدو ما جهل، وقد يكون ما جهله هو الحق ولذلك فعباد الرحمن قال تعالى فيهم يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا وكأن عباد الرحمن بهذا السلوك القويم يسدون موارد النزاع والخصام، فإن النزاع والخصام لا يكون مع استقرار، وإذا لم يكن هناك استقرار لا يكون هناك أمن، وإذا كان هناك اضطراب وانعدم الأمن فإن الإيمان فى خطر.

فالمسلم يفهم ذلك عن ربه من قراءة فى كتابه المقروء (القرآن) وكتابه المنظور (الكون) فيقول «سلاما» لكل من آذاه فى القول وتفاحش عليه، فكأنه يذكره بالسلام، وهو الاستقرار وعدم النزاع، والسلام هو اسم من أسماء الله تعالى.

أما ثالث الصفات: «قيام الليل» حيث يقول تعالى فيهم وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، «فإذا كان ثُلُثُ الليلِ أو شَطْرُه يَنزِلُ اللهُ إلى سماءِ الدنيا فيقولُ: هل من سائلٍ فأُعطيَه؟ هل من داعٍ فأستجيبَ؟ هل من تائبٍ فأتوبَ عليه ؟ هل من مستغفِرٍ فأغفرَ له؟ حتى يَطْلُعَ الفجرَ»، «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا»، فعباد الرحمن يؤمنون بأن فى الليل منحة إلهية، ونفحة صمدانية، وحالة ربانية يستجيب الله فيها للدعاء، فقائم الليل يؤثر حب الله عن حب النوم ولذته. وكان علماؤنا وأهل الله يقولون: «من طال قيامه بالليل حسن وجهه بالنهار» فعندما تراه تجد وجهه يشع بالنور، نور الله سبحانه وتعالى وجهه وجعل سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ.

أما رابع صفات عباد الرحمن: «الخوف من النار» وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا فهم يلجأون إلى الله دائما فى كل حوائجهم، ويستعيذون به من كل سوء وخوف، فيستغيثون به سبحانه أن يصرف عنهم عذاب جهنم، وذلك بأن يصلح أحوالهم فى الدنيا ويثبتهم على الحق حتى يحسن مصيرهم يوم القيامة فيجنبهم النار، ويدخلهم الجنة بسلام.

يقول الحسن البصرى رحمه الله: «والله ما صدق عبد بالنار إلا ضاقت عليه الارض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف هذا الحائط لم يصدق بها حتى تهجم عليه». «فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى» إنها نار السعير، لا ينام هاربها، وجنة الفردوس لا ينام طالبها.

وخامس الصفات: «توازنهم واعتدالهم فى الإنفاق» «وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا» لأن إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِين. فعباد الرحمن يتصفون بالتوازن والاعتدال، وهو ما يحقق الاستقرار النفسى والاجتماعى فإن الاستقرار هو الأساس الذى يجب أن ينتهى إليه النشاط الإنسانى بعد التوتر الذى يبدأ به، والتوازن سنة كونية؛ والتوازن هو التوسط بين الإفراط والتفريط فى كل الأمور، وهذا التوسط هو من سمة هذه الأمة المحمدية الخاتمة، يقول تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» والوسط هو الأجود والمختار والأعلى كذلك. فعباد الرحمن متوازنون فى الإنفاق، والأقوال، والأعمال، وفى كل شيء، ولذلك أثنى عليهم ربهم بالتوازن فى الإنفاق كإشارة لوسطيتهم وتوازنهم فى كل الأمور، فهم يمتلكون ميزانا يزنون به الأمور، وهذا الميزان يمثل الحكمة، قال تعالى: «يُؤْتِى الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ».

أما سادس الصفات لعباد الرحمن: «توحيد الله تعالى» وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا,فعباد الرحمن يوحدون ربهم، فهم موحدون يؤمنون بالتوحيد، ليس فقط توحيد الإله، بل توحيد شمل كل شيء فى بنائهم العقائدى، فنبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم - واحد؛ لأنه خاتم رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وكتابهم واحد؛ ولذلك حفظه من التحريف والتخريف وجعله واحدا لا تعدد له إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، والأمة واحدة إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، والقبلة واحدة وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، والرسالة واحدة عبر الزمان هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ. والتوحيد بهذا المعنى الذى اشتمل على الأشياء والأشخاص وتعدى الزمان والمكان، لا بد أن يؤثر فى عقل المسلم المعاصر وأن يكون أساسًا لفهمه للحياة ولتعامله مع الأكوان خاصة الإنسان.