الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الطريق الثالث.. بعد سنوات الشتات بين اللغات.. الفارسية والتركية والعبرية والروسية والأمريكية هل تنجح سوريا فى اختبار «العربية»؟

الطريق الثالث.. بعد سنوات الشتات بين اللغات.. الفارسية والتركية والعبرية والروسية والأمريكية هل تنجح سوريا فى اختبار «العربية»؟

اسمها الرسمى ولا يزال «الجمهورية العربية السورية»، لكن «العربية» تلاشت من الاسم واختفت بفعل فاعل مجهول منذ نوفمبر عام 2011 بعد تعليق عضويتها فى الجامعة العربية، وكان المبرر الظاهر هو الفوضى التى خلفها فيروس «الرببع العربى» الذى هز عروش الشرق الأوسط وفق مشروع تجديده على الطريقة الأمريكية، وفى باطن الأمر كانت سوريا المسكينة هى التى وقع عليها الاختيار لتكون (بروفة جنرال) للصراع العالمى الجديد بين أطراف القوى الصاعدة فى العالم ضد هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية.



 

على أرضها.. الأرض السيدة، كما تلقب فى الأدبيات العربية، أو أرض الشام التى غدرَتْها السنوات الماضية، وجعلَتْها أشلاء دولة ممزَّقةً بين أطماع دول الجوار الحالِمة بتمدُّدِ نفوذِها الإقليمى، ومِن ورائها قوى عظمى تصفِّى حساباتها وتعزز وجودِها على حساب الجسد السورى العارى الذى نهَشَه الجميع بلا رحمة. 

على أرضها.. تبلورت التحالفات الجديدة وتصالحت المصالح، استعادت روسيا جزءًا من مكانتها القديمة، ووجدت إيران متنفسًا لعزلتها الإقليمية وفرصة جديدة لمناكفة الغرب، أما إسرائيل فاختطفت الجولان للأبد بوعد أمريكى ترمباوى غادر، فيما قررت تركيا ضم أجزاء من الحدود السورية الشمالية لتصبح تحت نفوذها العسكرى، ودفع الشعب السورى وحده الثمن.. وغاب العرب.

عودة سوريا

وقبل أيام انشغل الجميع بفرحة خبر عودة سوريا إلى الحاضنة العربية، ولم يطرح أحد السؤال الأهم، لماذا تذكر العرب سوريا بعد 12 عامًا من الغياب؟. واجتهدت فى لقاء تليفزيونى عبر شاشة القاهرة الإخبارية لأطرح إجابات على هذا السؤال لكنها قصدًا لم تصب كبد الحقيقية، فقد أرجعت سر التوقيت إلى حالة التعاطف العربى مع السوريين منذ زلزال فبراير المدمر والذى أذاب جليدًا عند البعض مع النظام السورى، وترجم ذلك إجماعًا عربيًا واسعًا على دعم ضحايا الزلزال فى سوريا ماديًا ولوجستيًا عبر حملات أهلية حاشدة فى أكثر من دولة عربية. فيما أسهمت المصالحة «السعودية- الإيرانية» التى انطلقت مسيرتها قبل أسابيع وبرعاية صينية فى تحريك الملف دبلوماسيًا ومعه ملفات أخرى متنازع عليها بين البلدين الكبيرين فى اليمن وسوريا والعراق ولبنان، ربما تشهد الأيام المقبلة انفراجة كبيرة فى كل منها.

وقبل ذلك كانت هناك محاولات لرأب الصدع بين العرب وسوريا، فسبقت الإمارات العربية الجميع واستقبلت الرئيس الأسد مرتين خلال العام الأخير، كما استقبلته سلطنة عمان قبل شهر أيضًا، أما مصر فقد حافظت على الإجماع العربى لكنها أبدًا لم تقطع علاقتها مع سوريا. 

وكنت قد كتبت مقالًا نشر بموقع «اليوم السابع» فى أغسطس عام 2017، وأعدت نشره فى كتابى «الصحافة: عندما تصبح المهنة رذيلة» الصادر 2020 لتوثيق الفكرة، وحمل عنوانًا دالًا وموحيًا فى وقت نشره: «مصر وسوريا.. هل تفعلها السعودية؟»، بدأته معبرًا عن سعادتى بالتحرُّك الشعبى المصرى المطالِب بعودة العلاقات الرسمية مع سوريا، واستعادَتِها لمقعدها بجامعة الدول العربية، الذى تَزَامَن مع علنية الدور الدبلوماسى المصرى، الذى تجلَّى فى الوساطة وتوفير السبل لتوقيع اتفاقيتَى للهدنة بين النظام السورى والمعارضة في«الغوطة الشرقية» و«ريف حمص».

الجمهورية العربية المتحدة

تمثِّل سوريا حالة عشق نادرة «محفورة» فى قلوب المصريين، ومستمرَّة عبر التاريخ ولا يَخْفتُ توهُّجُها أبدًا بفعل السنوات والأزمات، بل يزيدها. عِشْق لم يقطَعْه انفصال ما بعد وحدةِ الخمسينيات فى زمن جمال عبد الناصر، ولم تحرِّمْه القطيعة بين السادات وحافظ الأسد بعد «معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية»، ولم يختفِ بعد صعود الأسد الابن للحكم وتوتُّرِ العلاقة بينه وبين حسنى مبارك، رغم الصداقة المتينة بين مبارك ووالده، التى تُوِّجَت بأنجع تحالف سياسى عربى (مصري- سورى - سعودي) فى التسعينيات من القرن الماضى، الذى انتهى مطلع الألفية الجديدة بوفاة الأسد الأب.

ولا شكَّ أن العلاقات «المصرية - السورية» تبلوَرَتْ بشكل متكامل بفضل الوحدة فى 22 فبراير 1958، عندما أصبحَت الدولتان «جمهوريةً عربيةً متحدة»، واستشعَرَ الشعبان حلاوةَ مذاقِ «الوحدة العربية» للمرة الأولى والأخيرة، وأدركَتْ المؤسسة العسكرية المصرية أهميةَ سوريا بالنسبة للأمن القومى المصرى، فكان الجيشُ الأوَّلُ هو الجيش السورى، والجيشانِ الثانى والثالث هما عماد القوات المسلحة المصرية، وأصبح هذا الأمر جزءًا من العقيدة العسكرية المصرية، ولم يتغيَّر رغم مرورِ أكثر من نصف قرن على الانفصال.

هل تفعلها السعودية!

تمنيت فى مقالى المشار إليه أعلاه أن يشكِّل التحالف العربى بين مصر والسعودية والإمارات والبحرين، قوةَ دفعٍ مؤثرةً لإنهاء الأزمة السورية واستعادة الشقيقة العربية المختَطَفَة (من تركيا وإيران وروسيا وأمريكا) وإعادتها إلى أحضان الجامعة العربية، وأكمل لكم من نص ما كتبته وقتها: لكنى فوجِئْتُ بقسوة الردِّ السعودى على بشائر الأمل، فى مقال عبدالرحمن الراشد بصحيفة «الشرق الأوسط» يوم الخميس (9 أغسطس 2017) عندما قال: «والذين يتحدثون اليوم بثقة وسرور عن حلٍّ سياسيّ، ونهاية للحرب السورية، ودَفْنِ الماضي؛ واهمون إن كانوا فعلًا يصدقون أن ملايين من السوريين يستطيعون العودة إلى منازلهم وينسون، وكأنّ جرائم السنوات الست الماضية، ونصف المليون قتيل، مجرد مسلسل تلفزيونى يمكنهم أن يناموا بعده». وختمت مقالى متفائلًا ومتسائلًا.. فهل تفعلها السعودية أيضًا فى الملف السورى وتقفز على ثأرها الشخصى، ونستيقظ ذات صباح قريب على خبر لقاء «سعودى - سوري» بالقاهرة.

قمة جدة

وفعلتها السعودية أخيرًا، واستقبلت الأسبوع الماضى فى جدة وزير الخارجية السورى فيصل المقداد، كما عقدت قمة وزارية خليجية بحضور مصر والأردن والعراق، لبحث عودة سوريا إلى الحاضنة العربية، ورفع تعليق عضويتها بالجامعة واستئناف دورها المحورى فى مسيرة العمل العربى المشترك، ورغم الرفض القطرى المعلن لهذه العودة وتردد دول أخرى، فإن بشائر إعلامية أطلت علينا من عواصم عربية أخرى تعلن اقتراب العودة المشروطة، بحل سياسى ناجز يجمع الأطراف السورية جميعها، ويضمن وحدة الدولة واستقرارها ويعزز من قدرتها فى مكافحة الإرهاب وحماية حدودها. 

وقد اختتم اجتماع جدة التشاورى بيانه مؤكدًا أن الحل السياسى هو الحل الوحيد للأزمة السورية، وأهمية أن يكون هناك دور قيادى عربى فى الجهود الرامية لإنهاء الأزمة، ووضع الآليات اللازمة لهذا الدور، وتكثيف التشاور بين الدول العربية بما يكفل نجاح هذه الجهود.

هل تتراجع أمريكا؟ 

ورغم صعوبة الإجابة على أسئلة الاختبار (العربى) الذى وضعته قمة جدة التشاورية، فإن هناك أسئلة أكثر صعوبة، تدور حول رد الفعل الأميركى إن عادت سوريا إلى عالمها العربى؟ 

لا  شك أن عودة سوريا إلى الجامعة العربية، تمثل خطوة جديدة لتراجع النفوذ الأمريكى فى منطقة الشرق الأوسط لصالح تمدد النفوذ الصينى والروسى، سبقتها بأسابيع المصالحة «السعودية- الإيرانية» التى مثلت حجر الزاوية لميلاد شرق أوسط جديد، يقفز فوق خلافات الماضى وصراعاته التقليدية لصالح تفاهمات ترسم خريطة للمصالح الاستراتيجية المستقبلية لدوله المؤثرة. فالأحداث تتلاحق فى المنطقة منذ مطلع العام، وتتحرك دول الشرق الأوسط وكأنها قطع «ميكانو» يعاد بها تشكيل الجغرافيا وكتابة تاريخ جديد، يحمل عنوانًا واضحًا ورسالة كاشفة للإدارة الأمريكية، فحواها أن العرب لن يسددوا فواتير صراعاتك وطموحاتك، ولن تتحمل شعوب المنطقة غباء اختيارات الناخب الأمريكى لإدارات متتالية عاجزة عن الحفاظ على هيبة الامبراطورية الأمريكية التى بدأ العد التنازلى لنهاية دورها فى العالم.