
نبيل عمر
الإسلام دين ودولة أم دين ومجتمع؟ (3) .. مكانة المرأة فى سيرة السيدة خديجة
المرأة أمر شديد التعقيد لأغلب العقول الشرقية، منذ أيام وأد البنات فى الجاهلية إلى يومنا هذا، صحيح أن التعليم وطبيعة العصر والتطور الاجتماعى أحدثت تغييرات فى النظرة إلى المرأة والتعامل معها، لكنها تغييرات تحمل فى داخلها قدرا كبيرا من التناقض وأحيانا التراجع، وقد لا يختلف هذا التعقيد بين الأميين والمتعلمين، والشائع فى التراث الدينى الشعبى أنها ليست فقط أقل من الرجل مكانةً ودورا، بل هى أصل الفتنة، لدرجة أن أستاذا جامعيا فى كلية عملية مرموقة خلال محاضراته لم يكن ينظر ناحية الطالبات الجالسات وحدهن فى جانب من المدرج، فسألته إحداهن: لماذا لا تنظر إلينا؟، فِأجاب ببساطة مدهشة: النساء جنود الشيطان!!
من المؤكد أن هذا الأستاذ قرأ السيرة النبوية مرات، سواء من كتب التراث أو من كتابات المحدثين، لكن أشك أنه توقف أمام سيرة السيدة خديجة بنت خويلد كثيرا، ربما مر عليها سراعا، وعلم أنها كانت سندا عظيما لزوجها رسول الله وهو يبلغ رسالة الإسلام إلى قومه فى أكثر الأوقات صعوبة ومشقة، لأنه لو تأمل دقائق سيرتها ومغزى أحداثها، لتغيرت مفاهيمه ونظرته إلى المرأة.
وفى سيرة السيدة خديجة حكايات مختلفة تصل إلى حدِّ التناقض، عن زواجها قبل النبى وعمرها وقت الزواج منه، وابنتيها رقية وزينب، ومع أن المتداول فى تفاصيلها ليس بالضرورة صحيحًا، فليس أمامنا سوى أن نأخذ بالرواية الشائعة، حتى لو أحاطها بعض التساؤلات، لأنّ الروايات الأخرى وكلها مدونة فى كتب كتبها مؤرخون معروفون، قد تشتت أذهاننا وتحلق بنا فى فضاءات بعيدة، والأهم أن الرواية الشائعة هى التى تشكل وجدان غالبية المسلمين وأفكارهم.
وسيرة السيدة خديجة هى مفتاح مكانة المرأة فى الإسلام، وكما تجاهلت شروح السيرة ورواياتها تفسير معنى أنها السيدة الوحيدة فى تاريخ كل الأنبياء والرسل، التى عمل لديها نبى قبل الرسالة، وصاحب العمل هو صاحب القوامة على عماله والنبى نبى منذ أن يولد، أى يتصف بصفات وسمات خصها الله بها تجهيزا لدوره المقبل، تجنبت هذه الشروح الخوض فى سؤال آخر مهم: لماذا تزوج النبى من امرأة تزوّجت قبله من رجلين، الأول عتيق بن عابد المخزومى وقد مات تاركًا لها ولدين، والثانى أبو هالة بن النباش بن زرارة التميمى وتختلف الروايات عنه بين موته وطلاق السيدة خديجة منه تاركًا لها بنتًا؟، ولماذا لم تدخر له السماء عروسًا بتولًا لها نفس مواصفات السيدة خديجة من رجاحة العقل وطهارة النفس وطيبة القلب وعراقة النسب وبحبوحة الثروة؟ أو تحفظها له عذراء دون زواج؟ هل هى رسالة من السماء بلغة قاطعة لم يفهمها كثير من المسلمين، الذين حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم القبلية حتى لو كانت بالمخالفة لتعاليم الإسلام؟
كان النبى عليه الصلاة والسلام فى الخامسة والعشرين من عمره حين بنى بها، أى كان شابًّا فى أوْج عمره وحيويته، وكانت السيدة خديجة فى الأربعين حسب الرواية الشائعة، وليست فى الثامنة العشرين حسب الرواية المهجورة من عامة المسلمين.
بالطبع كان الإسلام يُرسى قيمًا جديدة ويرسم للمرأة صورًا «اجتماعية» مختلفة عما ألفته الحضارات السابقة، إذ كانت المرأة قبله متاعًا تابعًا للرجل بقوة السيف أو بقوة العادات والتقاليد، بل إن المرأة كانت تُدفن فى بعض الحضارات حيّة أو تُحرق مع جثة زوجها الميت، إذ لا يحقُّ لها الحياة بعده، وكانت أهليتها المالية غائبة وملكياتها للأرض والعقار والثروة منعدمة أو محدودة، وتكاد تتركز فى نساءٍ كنّ على علاقة وطيدة بالسلطة، أمهات ملوك وأباطرة وقياصرة أو زوجات وشقيقات أو محظيات ذوات تأثير طاغ!
ثم يأتى النبى ويتزوج من أرملة، كانت مطلقة ذات أطفال من زواج أسبق، فما المغزى؟ كان زواجه منها بمثابة إعادة ترتيب للعلاقات الاجتماعية ومفاهيم الزواج، رسالة تقول بوضوح إن زواج الرجال من النساء لا يستند فى أعمدته على أسبقية زواجهن من عدمه، وإنما يستند إلى صفات وسمات من القيم والأخلاق الرفيعة، وأنّ المطلقة والأرملة لا تقل مكانة فى فرصة الحياة الزوجية عن «العذراء» التى لم يمسسها بشر، وأن العلاقة الخاصة لا يعيبها أن تفتقد «الترتيب الذكوري»، فهى مجرد جانب مهم إلى جوانب كثيرة مهمة أيضًا.
بالرغم من هذا، لم يلاحظ أغلب رواة الحديث التناقض الظاهر بين زواج الرسول من السيدة خديجة أم المؤمنين، وما نُسب إلى الرسول من حديث عن زواج البكر رواه البخارى ومسلم فى الصحيحين، قال جابر بن عبدالله: يا رسول الله، إنى حديث عهد بعرس، قال: أتزوجت؟ قلت: نعم، قال: أبكرًا أم ثيبًا؟ قلت: ثيبًا، قال: فهلّا بكرًا تلاعبُها وتلاعبك؟ كما لو أنّ الرسول لام جابر بن عبدالله على زواجه من ثيب دون البكر.
وإذا أتينا إلى كيفية التحاق النبى بالعمل لدى خديجة أو كيفية الزواج منها، لاكتشفنا بسهولة كيف يحضنا الإسلام على إعلاء «قيم العمل الجاد» وقيم إسعاد النفس بالبحث والإصرار والطلب.
كان مُحمد بن عبدالله معروفًا بالأمانة والصدق والعفة، وكانت السيدة خديجة ذات مال وتجارة ورثتهما عن زوجها «أبو هالة بن زرارة بن النباش التميمي»، تستأجر الرجال لقوافلها المسافرة فى رحلتى الشتاء والصيف، وقيل إنها سمعت عن هذه الخصال فعرضت عليه أن يخرج فى مالها إلى الشام، وقيل إن عّم النبى «أبا طالب بن عبدالمطلب» هو مَن أشار عليه بالعمل فى تجارة خديجة، وعلمت السيدة خديجة بما دار بين العم وابن أخيه، فأرسلت إليه طلبًا لعمله.
أيًّا كانت التفاصيل، فنحن أمام سيدة راجحة العقل، تدرك كيف تدير مالها وتجارتها، وكيف تنتقى عمالها وتكلفهم بالمهام الموكولة إليهم، والأهم أنها تتابع ما يجرى فى مكة متابعة دقيقة، فعرفت مِن أمر «مُحمد بن عبدالله»، ما دفعها إلى طلبه، ولم يكن وقتها نبيلًا ولا رسولًا ولم ترسل السماء أى إشارات بأنه النبى المنتظر.
وكما كانت هى « الداعية» إلى العمل، كانت هى البادئة بعرض الزواج عليه، ولن أتوقف كثيرًا عند ما سمعتْه السيدة خديجة من غلامها ميسرة، الذى صاحبه فى رحلته التجارية، بأنه نزل فى ظلّ شجرة، وقال الراهب نستور لميسرة: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيّ، وسأله: أفى عينيه حُمرة؟ قال ميسرة: نعم لا تفارقه. قال: هو نبيّ، وهو آخر الأنبياء.
فهذه الحكاية إذا خضعت للتحليل قد لا تصمد قليلًا، فمن أين لنستور أن يعرف قصة الشجرة مع الأنبياء منذ بدء الخليقة إلى أن نزل فى ظلها النبي؟ ومَن هم الأنبياء السابقون الذين نزلوا إلى هذه الشجرة من قبل؟ ولماذا لم يتبع الراهب نستور «النبى المنتظر» ويصاحبه إلى أن تنزل عليه الرسالة فيكون أول المؤمنين به؟ وإذا مات قبلها، فهو فعل ما يوجبه عليه علمه وإيمانه.
لم يكن النبى محمد صلى الله عليه وسلم فى حاجة إلى «تزكية» لا من الراهب نستور ولا من حبر يهودى أو غيرهما، فهو مرسل من عند الله مالك الكون، فما حاجته إلى نبوءة نستور قبل أن يبعث الله له «بجِبْرِيل» يبلغه أمر السماء؟ وهل يعقل أن يعرف ميسرة أو نستور أو غيرهما بأمر نبوّة محمد قبل النبى نفسه؟
لكننا سنتوقف عند ما قاله ميسرة عن تصرفات الرسول وأخلاقه الكريمة فى رحلته التجارية، وهى أمور يمكن رصدها وكشفها وهو ما يظهر فى طلب خديجة الزواج منه، إذ بعثت إليه رسالة قالت له فيها: يا ابن العم، إنى قد رغبت فيك لقرابتك ووسطتك فى قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك.
وقيل إن السيدة خديجة قد تحدثت مع صاحبةٍ لها هى نفيسة بنت أمية، عن الصادق الأمين وما تكنه فى نفسها له، فقالت لها نفيسة: تأذنين لى وأنا أتدبر الأمر؟
وقد حدث.
أيًّا كانت التفاصيل فنحن أمام طلب زواج سعت إليه السيدة خديجة سعيًا جادًّا. وبالطبع لو طبقنا هذه المفاهيم على أوضاعنا الاجتماعية، لراعنا ابتعادُها المذهل عن مفاهيم الإسلام فى العمل والزواج ومكانة المرأة، وكيف استبدلنا بها مفاهيم بدوية أعرابية سيطرت على تصرفاتنا، وحكمت قيمنا، وهى سبب التعقيد فى النظرة إلى المرأة والتعامل معها.