الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

11 عامًا على رحيل البابــا «الثائر»

إن تاريخ مصر حافل بالرموز، فمصر دائمًا تخرج للعالم كله شخصيات لامعة ومؤثرة فى كل المجالات التى عرفتها الإنسانية،  فهناك الأطباء والسياسيون والعلماء والأدباء والرياضيون وكذلك رجال الدين، ومنهم من لا يزال يعيش فى وسطنا ويحفر فى التاريخ بإنجازاته كطبيب القلوب والجراح العالمى مجدى يعقوب، والعالمى محمد صلاح.



 

وهناك من رحلوا ولكنَّ أسماءهم ظلت محفورة فى وجدان البشرية عن طريق ميراث كبير؛ سواء كان فى العلم أو فى الأدب أمثال الأديب العالمى نجيب محفوظ والعالم الكبير الدكتور أحمد زويل واللذين كتبا اسميهما فى لائحة نوبل العالمية حيث فاز بها الاثنان كل فى مجاله.

والكنيسة القبطية الأرثوذكسية احتفلت أمس بأحد أهم الشخصيات التى استطاعت كاريزمته وشخصيته أن تؤثر فى الكثير من أبناء هذا الوطن بل والعالم كله، حتى إنه تم إطلاق اسمه على أحد شوارع  ولاية نيوجيرسى بعد رحيله بعدة أشهر وذلك فى أكتوبر عام 2012، حيث تجمع مئات من الأقباط  فى تقاطع شارع بيرجن وشارع فروم فى جيرسى سيتى بولاية نيوجيرسي، ليشاهدوا إزاحة الستار عن لافتة شارع تحمل اسم البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، حيث تم إطلاق اسمه على هذا الشارع تكريمًا وتخليدًا لذكراه، وكان أكثر من 400 شخص قد تجمعوا قبل حفل الإطلاق فى كنيسة سانت جورج وكنيسة القديس شنودة وقد حضر حفل تغيير اسم الشارع إلى اسم البابا أيضا عدد من الشخصيات السياسية والدينية الأمريكية، مثل السناتور روبرت منديز، والأنبا دافيد الأسقف العام للإيبارشية الأرثوذكسية فى أمريكا الشمالية، وعمدة المدينة . 

إن حياة البابا شنودة الثالث كانت مليئة بالأحداث  التى أثرت عليه وشكَّلت وجدانه وذلك منذ أن توفيت أمه أثناء ولادته فى أغسطس عام 1923 بمحافظة أسيوط، وبالتالى أصبحت له العديد من الأمهات على اختلاف ديانتهن، إلا أن إحساس اليتم ظل مرافقًا له طوال حياته وهو ما سجله فى قصيدته الشهيرة «أمي» حيث قال فيها «أحقًا كان لى أمٌ فماتت.. أم إنى قد خُلقتُ بغير أم.. رمانى الله فى الدنيا غريبًا.. أُحلق فى فضاءٍ مُدلهم ..  وأسأل يا زمانى أين أحظى بأخت أو بخالٍ أو بعمِ

وأسأل عن صديق لا أجده كأنى لست فى أهلى وقومى

وهل أقضى زمانى ثم أمضى وهذا القلب فى عدم ويتم»

 هذا اليتم المبكر جعله يشعر بالوحدة الدائمة والتى لازمته طوال فترة كبيرة فى حياته حيث كان يقول «كنت طفلًا وحيدًا ماتت أمه دون أن يرضع منها،  وكنت أسير إلى المدرسة فى طريق «طويل طويل» أمشى فيه وحدى وأنا أفكر».

وكان يقول عن طفولته المبكرة إنه عاشها بلا صداقة ولا زمالة ولا لعب مثل باقى الأطفال، لكن يتذكر زيارته لدير درنكة بأسيوط مع مئات وآلاف العائلات، التى تذهب إلى جبل أسيوط لتأخذ بركة السيدة العذراء.

 لم تكن طفولته مستقرة فى مكان واحد وهو ما عزز شعور الوحدة لديه، فقد بدأ دراسته ما قبل الابتدائى بأسيوط والسنة الثانية والثالثة فى الابتدائية قضاها فى الإسكندرية، ثم عاد إلى أسيوط وفى السنة الرابعة ذهب إلى بنها مع أخيه الأكبر الأستاذ روفائيل ومنها إلى القاهرة، ودخل مدرسة الإيمان الثانوية فى شبرا، وبعد أن أنهى المرحلة الثانوية دخل جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) كلية الآداب قسم التاريخ.

هكذا كانت أولى فترات حياته التى كان لها تأثير كبير فى تشكيل شخصيته المحبة للفكر والأدب، وفى الوقت نفسه أفرزت إنسانًا مفكرًا متأملًا فى الأوضاع من حوله وكانت لشخصية أخواته ووالده التأثير الكبير عليه ليصبح شخصية تملك فكرًا حرًا مدافعًا عن رأيه وأفكاره وجعلت شخصيته الأدبية التى تكونت لديه مبكرًا قادرة على خلق أدوات أدبية خاصة به يستطيع أن ينقل بها أفكاره الجريئة والتى وصلت لحد انتقاد القوانين الكنسية وقيادتها من خلال صفحات المجلات الدينية وعلى رأسها مجلة مدارس الأحد وذلك خلال فترة شبابه الثورية والمتمردة.

تأثرت شخصية البابا شنودة بالأرشيدياكون حبيب جرجس مدير الكلية الإكليريكية حين التحق بها وهو فى السنة الرابعة من كلية الآداب، ولم يكتف بالالتحاق بها فقط بل التحق أيضا بكلية الضباط الاحتياط فى نفس السنة ليدرس فى الثلاث كليات معًا فى نفس العام، مما يجعلنا ندرك شخصيته المثابرة والتواقة للعلم والدراسة والطموح ولديه شغف المعرفة والقيادة، حيث عُيِّن فى هيئة التدريس بالكلية الإكليريكية، وصار عضوًا فى اللجنة العليا لمدارس الأحد، وجمعته علاقة مودة ومحبة بالأرشيدياكون حبيب جرجس الذى أثر فيه كثيرًا.

أدرك نظير جيد وهو اسم البابا شنودة قبل الرهبنة أن أوضاع الكنيسة تحتاج لإصلاح فاتخذ من مجلة «مدارس الأحد» منبرًا يعتليه وينادى ويطالب بالإصلاح وهاجم البابا يوساب البطريرك الـ115 آنذاك كثيرًا وطالبه بالإصلاح وشكك فى شرعيته لكونه كان مطرانًا لجرجا وهو ما لا يجيزه القانون الكنسي.

بل وكانت أكثر الحملات الإصلاحية حينما اتفق مع شباب مدارس الأحد على الدفع بأستاذهم العلمانى حبيب جرجس للرسامة مطرانًا للجيزة بعد خلو كرسى المطرانية عام (1949)، وجندت مجلة مدارس الأحد صفحاتها حينها للتأكيد على أن الكنيسة تجيز رسامة علمانى لهذا الموقع، بينما لا تسمح بانتقال أسقف من كرسيه إلى آخر.

ولم يكن هذا فقط ما نادى به نظير جيد؛ بل طالب بتغيير لائحة اختيار البطريرك فى مقال له على صفحات المجلة نفسها.

إلا أنه وعلى الرغم من ثائريته وتمسكه بآرائه؛ فإنه رفض تغيير اللائحة بعد اعتلائه سدة الكرسى المرقسى؛ مشيرًا إلى أنه يترك هذه المهمة لخلفه ليعطى للجميع درسًا آخر وهو أنه أيًا كانت رؤيتك الإصلاحية إلا أنها من الممكن أن تتغير بعد وجودك فى مركز القيادة ليس لتغيير فى أفكارك وإنما لإدراكك لوجود الكثير من المعطيات الأخرى لا يراها سوى من يملك عجلة القيادة..

هذه الرؤية هى الفكرة نفسها التى طرحها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى مطلع هذا العام أثناء كلمته التى ألقاها فى كاتدرائية الميلاد بالعاصمة الإدارية حين أكد «إن الموجود فى موقع القيادة يرى أمورًا كثيرة لا يعرفها الجميع» وبالتالى نجد أن البابا شنودة ضرب مثالا  للجميع بشخصيته المؤثرة توضح طريق القيادة الناجحة وأسسها.

البابا شنودة والشيخ الشعراوى

كانت شخصية البابا شنودة شخصية استثنائية ولذلك جمعته صداقة استثنائية مع الشيخ متولى الشعراوى وبدأت العلاقة بين الشيخ الشعراوى والبابا شنودة بعد إرسال البابا شنودة وفدًا من رجال الكنيسة لزيارة الشيخ الشعراوى أثناء إجرائه عملية جراحية فى لندن، وقدم له هدية عبارة عن «علبة شيكولاتة» مع باقة من الورود، بعدها زاره بنفسه وأوصى الدكاترة عليه.

وضع صورة الشيخ الشعراوى فى مكتبه الخاص لكى يصلى من أجل أن يتم الله شفاءه، وأن يعود إلى أرض الوطن بكامل صحته بعد إجرائه عملية جراحية فى لندن.

وعندما عاد الشيخ إلى مصر سالمًا، زار البابا فى الكاتدرائية، فكان استقبال الشعراوى فى الكاتدرائية استقبالًا حافلًا، وكان عشرات الأساقفة والكهنة فى انتظاره، وتجمع عدد كبير من الأقباط أمام الباب الخارجى لتحيته أثناء دخوله، فكانت فرحة الجميع بالشيخ ظاهرة على الوجوه.

واستمر هذا اللقاء التاريخى والذى كان مقررًا له أن يستمر نصف ساعة فقط، لكنه استمر أكثر من ثلاث ساعات.

وقال الشعراوى وقتها: «من منح الله لى فى محنتى أنه جعلنى أجلس مع قداسة البابا شنودة» فرد البابا شنودة: «لقد نبهنا إلى شيء هام، وهو أن الذين ارتبطوا بالسماء يجب أن يضعوا أيديهم فى أيدى بعض دائمًا من أجل ما اتفقوا عليه ويتركوا ما اختلفوا فيه».

وسأل البابا أن يسمعه قصيدة من قصائده، واستمر الاثنان يتبادلان القصائد وسط تهليل الحاضرين، حيث تحولت الجلسة إلى مأدبة ثقافية خالصة.

وأكد البابا شنودة فى حديثه عن صداقته مع الشعراوى «توثقت العلاقة بينى وبين فضيلة الشيخ الشعراوى، عندما توعكت صحته فى عام 1994، ذهبت وقتها للاطمئنان عليه فى المستشفى، وكان هذا اللقاء أكثر هدوءًا».

و«لكن أهم لقاء جمع بينى وبين فضيلة الشيخ الشعراوى كان يوم جنازة إبراهيم باشا فرج، سكرتير عام حزب الوفد، وكان فؤاد سراج الدين طلب أن تكون الجنازة فى الكاتدرائية باعتبار إبراهيم باشا فرج شخصية عامة، وكان مفترضا أن أصلى عليه وألقى عظة، وجاء الشعراوى قبل الجنازة فجأة واستقبلته فى مكتبى، وذهبت معه إلى الكاتدرائية، وفى ذلك الوقت كانت صحة الشيخ الشعراوى ضعيفة، لدرجة أننى كنت أسنده فى الطريق إلى الكاتدرائية، وقد دخل معى بعد أن صليت على الراحل، وألقيت العظات».

انتاب البابا شنودة الثالث حزن شديد، بعد وفاة الشيخ الشعراوى، وفى جنازة الشيخ التى حضرها البابا شنودة، قال: «تأثرنا كثيرًا لوفاة صاحب الفضيلة، فهو رجل عالم متبحر فى علمه، ومحبوب من آلاف وعشرات الآلاف، وموضع ثقة لكل من لهم رأي، وقد عاش واعظًا وكاتبًا وشاعرًا، وضعفت صحته فى الأيام الأخيرة، وأراد الله له أن يستريح من تعب الدنيا».

وتابع البابا: «جمعتنى بالشعراوى أواصر من المودة والمحبة فى السنوات الأخيرة من عمره، وكنا نقضى وقتًا طيبًا معًا وكانت تجمعنا روابط محبة الأدب والشعر».

وقال البابا شنودة إنه قدّم للشيخ الشعراوى نسخة نادرة من 20 جزءًا من كتاب لسان العرب لابن منظور، فرد عليه الشيخ الشعراوى بـ عباءة قدمها له هدية، يقول البابا شنودة: «أهدانى الشيخ هدية أفضل مما أهديته»، ومن هنا بدأت العلاقة بين الشيخ والبابا شنودة والتى حفلت بالكثير من المواقف الإنسانية التى رواها الاثنان.

والحديث عن تأثير شخصية البابا شنودة فيمن عاشوا معه لا ينتهى فلا أحد يختلف على تاريخية شخصية البطريرك الـ117 والذى ظل بطريركًا للكنيسة القبطية المصرية نحو 40 عاما ، كان من قبلها أسقفا للتعليم يجمع الشباب حوله ينجذبون لطبيعته الثائرة والمتمردة، إلا أنه كان معلمًا لأجيال كثيرة لذلك لقبته الكنيسة بـ«معلم الأجيال».

ويقول الباباتواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية عن البابا شنودة «إن الجميع يتذكر مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث، وعمله وخدمته وحبريته وتعبه من أجل الكنيسة على مدار عشرات من السنين»، مضيفا إنه علامة كبيرة فى تاريخ الكنيسة القبطية وأحد قامات مصر القوية. 

وهوامة روحية كنسية قبطية عظيمة أثرت فى التاريخ المصرى والتاريخ القبطى، كان محبًا للكتاب المقدس ومحبًا للرهبنة والدير ومحبًا للعلاقات المسكونية مع كنائس العالم.

وأشار البابا تواضروس إلى العلامات الثلاث التى تميز بها، وهي:

 التعليم: اهتم بالتعليم وفسر الكتاب المقدس والموضوعات الإيمانية واللاهوتية بطريقة بسيطة، عميقة.

 التعمير الرهبانى: أحب الرهبنة من كل قلبه، فكان يقضى وقتًا كبيرًا فى الدير، وهو أسقف وهو بطريرك، وعمر الأديرة داخل مصر وخارجها فى أمريكا وأوروبا وأستراليا وإفريقيا.

 العلاقات المسكونية: كانت كنيستنا من أولى الكنائس التى شاركت فى مجلس الكنائس العالمى فى جنيف فى سويسرا، أيام المتنيح البابا يوساب الثاني، واستمر العمل المسكونى أيام البابا كيرلس السادس، والبابا شنودة الثالث؛ الذى عمل على تأسيس مجلس كنائس الشرق الأوسط فى بيروت، وكذلك مجلس كنائس كل إفريقيا، فى نيروبى فى كينيا، وقبل نياحته بشهور معدودة؛ بدأ مشاوراته وإعداده لتأسيس مجلس كنائس مصر، وافتُتِح المجلس بعد نياحته بنحو سنة. 

أضاف البابا تواضروس فى حديثه عن البابا الراحل: هو أول بطريرك قبطى يزور الفاتيكان، ويقيم علاقات مع الكنيسة الكاثوليكية فى مايو 1973، وتمخض عن الزيارة بيان رسمى وقعّه البابا شنودة، والبابا بولس السادس، وهذا البيان يُعتبر أساسًا قويًّا للعلاقات؛ التى تقوم بين الكنيستيْن. 

وعلى أساس البيان؛ قامت الحوارات اللاهوتية بين الكنائس الشرقية (الأورينتال) ومع الكنيسة الكاثوليكية، والثمرة القوية لكل هذا هو الفهم المتبادل بين الكنيستيْن. 

واستكمل قائلًا: زار معظم كنائس العالم الأرثوذكسية الخلقيدونية وغير الخلقيدونية والكاثوليكية والإنجيلية والأسقفية، وتبادل الزيارات معهم، وكان يهتم بهذه العلاقات الطيبة التى تجمع الجميع، واهتم بالحوارات اللاهوتية وزيارات المحبة، واستقبال الآباء وقادة هذه الكنائس هنا فى مصر، ليطّلعوا على التاريخ القويم لكنيستنا المصرية، فكان بحق داعمًا قويّا لهذه العلاقات التى تشمل كنائس العالم.

وحصل على أكبر جائزة فى التعليم المسيحى تمنحها مؤسسات بروتستانتية مُنحت له، باعتباره واعظًا مسيحيًا متميزًا، وكان ذلك فى أواخر السبعينيات، كما كان حضور البابا شنودة بما لديه من خبرة كبيرة فى الكتاب المقدس وكتابات الآباء ومعرفة الإيمانيات، وبما لديه أيضًا من مواهب أدبية فى التاريخ وفى الشعر والأدب.. كل هذه كانت تتجمع فيه وتساعده وتقويه فى أن تكون كنيستنا فى الحوارات اللاهوتية لها مكانة.

واختتم البابا تواضروس حديثه، قائلا: جعل البابا شنودة الكنيسة القبطية منارة لذلك؛ عندما تتواجد فى أى مكان لا تخشى من شيء، بل تقدم خبرتها وتاريخها واختباراتها ومعرفتها وإيمانها المستقيم للجميع.

هكذا كانت شخصية البابا شنودة الثالث مصرية خالصة جمعت فى جوانبها المأساة واليتم المبكر والذى استطاع أن يحول هذه المآسى لطريق نجاح سجل فى تاريخ وذاكرة هذا الوطن لينضم لكوكبة كبيرة من رموزه يتأثر بها أبناؤه على مر التاريخ.