الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الطريق الثالث.. تطور الأجيال بين الجد والهزل شبابنا من «الكوريك والمقطف» إلى «روب كورس»

الطريق الثالث.. تطور الأجيال بين الجد والهزل شبابنا من «الكوريك والمقطف» إلى «روب كورس»

حكى لى أبى بفخر واعتزاز عن مشاركته الفريدة فى معسكر العمل الدولي التطوعي للشباب بمدينة الإسماعيلية فى صيف عام 1959، والذى أقيم تحت رعاية الدولة المصرية فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر واستهدف المشاركة فى أعمال إنشائية تخص قناة السويس، وما تزال ذاكرة الوالد الحبيب (متعه الله بالصحة والعافية)، تحتفظ بتفاصيل المعسكر المؤثر فى تكوينه وتجربة حياته، والذى كان شعاره «شبابنا فى معركة الكوريك والمقطف».



وبين دفاتر الوالد وأرشيفه الشخصي قصاصة صحفية قديمة من مجلة «آخر ساعة» الأسبوعية المصرية العريقة، ترصد فى تحقيق مصور عمل الشباب (ومنهم الوالد) فى رفع تلال التراب من جانبى القناة مستخدمين «الكوريك» فى الحفر وتحميل التراب داخل «المقاطف» وحملها بعيدًا إلى المكان المخصص لذلك.

لا يفوتنى أن أذكر ما أكده الوالد من أن المعسكر كان لمدة شهر وكان به جانب تثقيفى مكثف برعاية وزارة الثقافة والإرشاد ووزيرها الراحل دكتور ثروت عكاشة، بالإضافة للجانب الرياضى والترفيهى وتنمية المهارات، ويذكر الوالد مدير المعسكر واسمه (محمد عسكر)، كما احتفظت ذاكرته بنظام العقاب (القاسى) المتبع وقتها وهو «الجلد» على الظهر في طابور الصباح للمخطئين والمقصرين من الشباب المشارك فى المعسكر، آخر ما علق فى ذاكرة الوالد كان شريكه السورى فى (خيمة النوم)، موضحًا لى أن عددًا كبيرًا من الشباب السورى شارك فى المعسكر، الذى تزامن مع ميلاد الجمهورية العربية المتحدة، دولة الوحدة (المصرية السورية) فى 22 فبراير من نفس العام.

تذكرت قصة «الكوريك والمقطف»، وأنا أشاهد مع ابنى الأكبر (16 عامًا) صور وفيديوهات مشاركته فى (camp) نظمته مدرسته فى إحدى القرى الساحلية بالقرب من هضبة الجلالة، وخلال حكيه عن المعيشة الفندقية التى استمتع بها والـ (activities) التى مارسها هناك، استوقفتنى صورته وهو يتسلق الحبال وسلالم خشبية، فأخبرنى أنها لعبة «روب كورس»، وفيها يجب أن يرتدى اللاعب ملابس خاصة، أهمها (خوذة الرأس) وحزام الأمان الذى يمنعه من السقوط أثناء التسلق والانتقال بين مستويات اللعبة المختلفة، ثم أكمل حديثه عن باقى مغامراته الجبلية مع مدرسيه وأصدقائه، ومناكفاتهم مع زميلاتهم البنات، ومقالبهم المرعبة وسهراتهم الليلية على الشاطئ.

وتوقفت فى تجربة ابنى مع الدور المتراخى لمدرسيه المشرفين على هذا الـ (كامب)، وكأنهم غير موجودين أصلًا، وعندما عاتبته على طريقته فى مخاطبة (المستر) كما شاهدته فى الفيديو، ضحك ساخرًا: «يا حاج.. كبر».

أما قصصى الشخصية مع معسكرات الشباب فهى تفوق التجربة الفريدة لأبى والترفيهية لابنى، حيث إننى خلال حقبة التسعينات من القرن الماضى كنت ضالعًا فى الحركة الشبابية والجامعية المصرية، وكانت لى مشاركات واسعة فى معسكرات إعداد القادة الشباب، مشاركًا ثم رائدًا ثم قائدًا، حيث تجولت من خلال المجلس الأعلى للشباب والرياضة بين العديد من المعسكرات فى عدة مدن مصرية منها: الغردقة والإسكندرية ونويبع والأقصر وأسوان والإسماعيلية وبورسعيد وغيرها.

ورغم كثرة الأحداث والمواقف التى طوى النسيان أغلبها بفعل الزمن، إلا أن ذاكرتى تحتفظ بقصة لا تنسى، جرت أحداثها فى شهر أغسطس عام 1994 بمعسكر «أبو قير» بالإسكندرية (قبل تجديده)، حيث كانت حالة المكان سيئة جدًا.. خيامه رثة.. وأسواره مهدمة يخترقها الباعة الجائلون على مدار اليوم، ويجاوره حلقة سمك شعبية تغطى المنطقة كلها برائحة (نتنة)، وهذا بالطبع مع الحر والرطوبة العالية جو مثالى لانتشار وتكاثر الذباب المتوحش والناموس الشرس، في هذه الأجواء تم دعوتي مع عدد من زملائى من شباب جامعة القاهرة للتواجد بالمعسكر لتأهيلنا لحضور لقاء رئيس الجمهورية مع شباب الجامعات، من خلال ندوات مكثفة مع أساتذة من جامعة الإسكندرية فى عدد من التخصصات ما بين الاقتصاد والسياسة، وتحملنا اليوم الأول بصعوبة، وفى صباح اليوم التالى خرج علينا مدير المعسكر وكان (على ما أذكر) دكتورًا فى كلية طب الأسنان يصرخ فينا لنجتمع معه للأهمية، وبعد أن أسهب فى التنظير للمرحلة والتمجيد لإنجازات الرئيس مبارك، طلب منا أن نستعد ليدربنا على حفظ الهتاف الواجب علينا ترديده أثناء لقاء الرئيس وفق إشارات محددة سيتم الاتفاق عليها معنا، وارتفع صوته قائلًا: «يا مبارك مرحب بيك شباب الجامعة بتحييك»، قالها بأداء غنائى وهو يتمايل، فتلقفها الزملاء ودقوا على الموائد ورقصوا وهم يرددون الهتاف بسخرية، وساد الهرج وفشل الدكتور فى السيطرة على الموقف، خاصة مع بدء انسحاب الحضور، مهرولين للنزول إلى البحر هربًا من الحر الشديد، وفشل المعسكر فشلًا ذريعًا، خاصة بعد أن فر معظم رواده من الشباب إلى شاطئ المعمورة، والذى كان من أرقى شواطئ مصر فى زمانه، وهدفًا لكل الباحثين عن التميز والمتعة، وفى هذا العام تم إلغاء لقاء الرئيس مع الشباب لأسباب آخرى.

صادفت قبل هذا المعسكر وبعده رحلات كانت أكثر تنظيمًا وأفضل أثرًا، فما زلت أذكر ما تعلمته فى معسكرى الأول مع مدرستى (التوفيقية الثانوية بنين) إلى مدينة بورسعيد، فقد قضيت أسبوعًا تدربت فيه على أسس الاعتماد على النفس بعيدًا عن الأسرة، كما كان الجانب التثقيفى فى هذا المعسكر فارقًا فى تشجيعى على القراءة فى مجالات جديدة وفتح أمامى آفاقًا مختلفة فى المعرفة. 

ويُعد معسكر نوبيع للشباب فى منتصف التسعينات، من أهم تجاربى فى السفر والنشاط الطلابى، فقد كنت وقتها من القيادات الشبابية المسئولة عن البرنامج التدريبى والتثقيفى لطلاب كليات جامعة القاهرة خلال أسبوع قضيناه على أرض سيناء الغالية، استمتعنا فيه بأوقاتنا المنظمة بعناية والموزعة بين ورش العمل والأنشطة الرياضية والترفيه. ولم تخل الرحلة من المشكلات والقصص المثيرة، كان أبرزها تحرش أحد الطلاب المشاركين بسائحة على شاطئ ملاصق للمعسكر، وتم احتواء الأزمة وعوقب المتحرش.

تمنحنا الحياة، تجارب لا تنسى، ومعانى لا تتكرر، وفرصًا وأصدقاء وأحداثًا تشكل خبراتنا وتبنى شخصياتنا، ومن العلامات الفارقة والتجارب الاستثنائية وخاصة فى سن الشباب: المعسكر أو «الكامب»، ورحلات الكشافة والمرشدات، وتجارب العمل الجماعى التطوعى. فهي أعمال مؤثرة وملهمة فى تكوين الإنسان عبر الزمان، ومعركة حتمية للنضج الحقيقى، يعول عليها بناء الشخصية.

ورغم الاختلاف فى أنماط ما استعرضناه من تجارب، يبقى الرابط المشترك بين الأجيال، هو الانطلاق والتطلع للمغامرة اللذين يمثلان عصب التجربة الشبابية فى كل العصور، ويظللهما شغف ومثابرة، وصداقة يبقى أثرها خالدًا فى الوجدان.

وتبقى كلمتان أختم بهما، كنت أسمعهما فى مطلع شبابى من عجوز خمره الزمن، كان يرددهما وهو يتسند على عكازه فى مشاعر مختلطة بين السعادة والأسى، قائلًا: «الشباب حلو»، حقًا فالشباب هو أحلى سنوات العمر، ولهذا رددنا جميعًا مع أبى العتاهية شاعر العرب الشهير: «فَيا لَيتَ الشَبابَ يَعودُ يَومًا».