الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الجن الذى يسرق والبالكونة التى فى الجنة!

الجن الذى يسرق والبالكونة التى فى الجنة!

أحيانًا وأنت فى حالك، لا بك ولا عليك، يهبط عليك ما يعكنن صَفوك، ويعكر مزاجك، ويُذكرك بمستنقع «التخلف» الذى سقطنا فيها منذ قرون، ولا نزال نَسْبَح فى أفكاره العَطنة، متصورين أنها أطواق نجاة وسُبل خروج من النفق؛ بينما هى تسد علينا كل منافذ الضوء الذى يبدد العتمة العقلية، ومنها أفكار دينية فاسدة لا أصل لها فى الإسلام ولا فصل، أفكار تشد الإنسان من التفكير المنظم إلى التفكير العشوائِى، من التدبر الذى يحثنا الله عليه إلى الخرافة التى أمرنا أن نتجنبها، من التعقل (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) الذى هو تكليف من الله يحاسبنا عليه إلى الحُمق والأساطير والمرويات التى تنأى بنا عن جوهر الإيمان.



 

ولا يمكن لأىّ مجتمع أن يتقدم إلا بتغيير ثفافى شامل، يؤسّس منظومة قيم أساسها العِلْم والمعرفة والجدّيّة والعمل والجهد وتقدير الوقت الصحيح والمثابرة والابتكار والانحيازلمبادئ العدل والحق واحترام الآخر والمساواة.. إلخ.

وبالقَطع؛ الدينُ عنصرٌ مهمٌ وفعال فى «ثقافة» أهل الشرق جميعًا، وفى مقدمتهم أهل مصر منذ تاريخهم القديم، وبدلاً من أن نستعين به «قوة محركة» للأمام، وطاقة إعمار للدنيا وتقدم لحياتنا كما أنزله الله، وهذا هو الفارق بين عبادة الإنسان وعبادة الملائكة، نحاصره فى حكايات وغرائب.

من هذه «الغرائب» الهابطة على رؤوسنا  فيديو على «الواتساب» لحوار بين مذيعة وشيخ فى برنامج دينى على فضائية مصرية، لم أتوقف عنده وتجاهلته، فإذا به يتقاطر من أصدقاء وقراء.

كنت قد عاهدت نفسى على عدم الاشتباك فى مثل هذه الخزعبلات والبعد عن أصحابها يأسًا وبؤسًا من الحوار معهم، وقد حاول عددٌ من الأصدقاء جرجرتى إلى ساحة حوار صاخب انفجر قبل عام وبضعة أشهُر وكان أشبه بحوادث الطرُق السريعة فى ليلة ضبابية، حول شيخ أتحفنا برأى يفيد أن الجن يسرق الأموال والذهب وأشياء أخرى ولعًا بالشر فى حد ذاته، فلم أستجب.. لكن هذه المرّة مع الفيديو العجيب لم أقدر على السكوت.

الفيديو الذى اقتحم تليفونى المحمول على الواتساب، حوار فى غاية «الوقاحة» عن «الحور العين»، وأعتذر عن الوصف، فلم أجد أخف منه، فالشيخ الذى يفترض أن يكون جليلاً؛ يروى تفاصيل واقعة فى الجنة، كأنه صاحبها الذى عاشها أو أن الله أوحَى له بها خبرًا يقينيًا، وتكشف أن «متع العلاقات المتعددة  مع النساء» هى أهم وأفضل وأجمل مفاجآت الجنة للإنسان الرجُل، لم أذكر اسم الشيخ، فالأسماء لا تهم، فنحن أمام «ظاهرة» وليس فرد، أمام بيئة لا شخص. 

فكيف دار الحوارُ بين المذيعة والشيخ..

قال الشيخ: واحد ماشى فى الجنة، ومعه واحدة من حور العين، كأنه ماشى فى «الجولف»، الثمار متدلية من كل ناحية، والزرع من كل ناحية، والخضرة على امتداد البصر، وجنبى أنهار من ماء، وأنهار من خمر، وأنهار من عسل، وأنهار من لبن، منتهى العظمة، وأنا ماشى فى غاية المتعة، لا مَلل ولا زهق، ممكن تعدّى 40 سنة فى هذا الجو من السعادة، وفجأة وأنا مَعدّى على قصر، فى غاية الفخامة والجَمال، طلّت واحدة من البلكونة.

لم تمسك المذيعة نفسها وغرقت فى الضحك، وسألته: مَن التى طلت من البلكونة؟!

رد: واحدة من حور العين، لقيتها أجمل سبعين ألف مرّة من حور العين التى تمشى معِى، نور طالع، ما كل هذه الحلاوة والجمال، جاءت وقالت: تفضّل تعالَ، سألتها: إلى أين؟، قالت: هذا قصرك، سألتها: مَن أنت؟، قالت: زوجتك، سألتها: كيف؟، قالت: أنا التى قال عنها ربنا « فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ»، فأجد نفسى طائرًا بسريرى إليها، ما كل هذه العظمة، (إيه مفاجآت الجنة دى وحلاوة الجنة دى!).

علقت المذيعة: إيه مفاجآت الجنة تانى. الشيخ يشرح شرحًا كأنه عاش الموقف!

فرَد الشيخ: كأن الواحد راح ورجع.

هل يمكن لكاتب سيناريو طق عقله أن يكتب هذا المشهد فى فيلم سينمائى؟!

كيف عرف أن قصور الجنة فيها بلكونات وشبابيك وحور عين تناديه من بلكوناتها، ألم يقل الله (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم)؟

ماذا سوف يكون رد فعل هيئة كبار العلماء وشيوخ الجامع الأزهر على الفيلم الذى يصف مشهدًا فى الجنة وصفًا تفصيليًا، يمكن أن يُجسّده المُخرج على الشاشة كما رواه الشيخ؟

هل سيرفعون قضية ازدراء أديان على المُخرج والمؤلف والمنتج والممثل الذى أدى الدور أمْ سيصمتون كما فعلوا مع الشيخ كأن شيئًا لم يحدث؟

بعيدًا عن رد فعل هيئة كبار العلماء والأزهر، من أين جاء هذا الشيخ بالصور التى تحدّث عنها كأنها واقع؟، وردت آيات «حور العين» صراحة فى ثلاث سور فقط هى الدخان والطور والواقعة، كما وردت تورية فى سورتين هما البقرة والرحمن، ولا تحمل أى آيةٌ منها ما حفل به خيال الشيخ من شطحات، لا من قريب أو من بعيد.

نعم؛ توجد أحاديث نبوية وأيضا دون وصف يقترب من خيال الشيخ الحسّى.

 أليست هذه هى نفس الأفكار التى يزرعها مُفتو الجماعات الإرهابية فى عقول «شباب الإرهابيين» الذين يُفَجّرون أنفسَهم انتحارًا فى أبرياء، أو يفتحون نيران رشاشاتهم على أجانب أو رجال الشرطة والجيش، باعتبار أن ما يفعلونه جهادًا واستشهادًا، سيجاز عليه كل منهم باثنتين وسبعين من الحور العين فى الجنة؛ تعويضًا عمّا فقده من مُتَع حسّيّة فى الدنيا؟!

عجيبة؛ كيف تلتقى طرُق الذين يدّعون «الوسطية» مع طرُق المتطرفين فى المكاسب والمغانم التى تنتظرهم فى «الجنة»؟!

نعود إلى الشيخ الذى سرق منه الجن نقودًا وربما ذهبًا، والحكاية تعود إلى نوفمبر 2011،  حين خرج الشيخ على الناس فى فيديو على الفيسبوك، يبشرهم بأنه قادم إليهم ليحل مشكلة، ماهِى، حسب كلامه بالنص: أين ذهبت الفلوس التى وضعتها فى الدرج؟، تصدّق أنا كنت شاكك فى عيالِى، تصدّق شكيت فى مراتِى، ليست أول مرّة تنقص فيها الفلوس، ابنى بدأ يكبر ويدخل على المراهقة، وخاتم أمّه اختفى ويمكن الدبلة، هل الولد ممكن يأخذها؟، يطلع لك واحد يقول لك: لا؛ جائز الجن سرق الفلوس أو الذهب، هل هذا الكلام صحيح؟..

ثم يتلو الشيخ آية من سورة الجن: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا)، ثم يفسر الآية: هذا حدث فى بيتِى، عالم الجن مثل عالم البشر، وفيه الشمال وفيه اليمين، يعنى لو اختفت الأموال من بيتك أو الذهب، وأنت سألت: هل يسرق الجن؟، الجواب نعم؛ الجن يسرق الفلوس ويسرق الذهب ويسرق الأطعمة، ويعملها من أجل نفسه أو بتسخير من ساحر.

ما هذا؟، وكيف فسر الشيخ الآية بأن الجن يسرق أموالاً وذهبًا؟؛ بل مَدّ حبل أفكاره إلى أن الجن يمكن أن يدبر مقالب بين البشر؛ بأن يسرق من شخص ويخبئ ما سرقه فى بيت شخص آخر ثم يوسوس باسمه حتى تلتف حبال التهمة المشينة فى رقابته!

كيف عرف الشيخ  نوع الشر الذى يرتكبه الجن فى عالمه البعيد؟

يعنى لو الإنسان فى بيته مصيبة سرقة  لا يهتم ولا يبحث لها عن حل نفسى واجتماعِى، ويتركها تتعاظم وتتعقد، ثم ينظر إلى السماء ويلقى بها على كاهل الجن وينام قرير العين!

المدهش؛ أن شيوخا آخرين ردوا على الفيديو، وأنكروا على الشيخ أقواله، أمّا أمين الفتوَى بدار الإفتاء فقال إنه لا يستطيع أن يجزم بهذا الأمر.

دعونا من البلكونة والسرقة وحور العين..وتعالوا نسأل عن الأدوات التى يستخدمها الشيخان فى نقل أفكارهما إلى العامة؟

الفضائيات وشبكات التواصُل والاجتماعى وشبكة الإنترنت..أى أدوات المعرفة الحديثة.

باختصار؛ استطعنا أن نطمس دور أدوات المعرفة الحديثة ونفرّغها من «عصرها»، وننشر بها خرافات قديمة..هل هناك كارثة أكبر من ذلك؟!

كيف يمكن أن نتقدم ونحن نفكر ونتحاور حول قضايا من هذا النوع الخرافى بينما العالم يسابق الزمن فى إنتاج معارف جديدة واختراعات مذهلة؟ مَن الذى سمح لهؤلاء بتشكيل ثقافة الناس ووعيهم بالحياة؟.