الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس الفقراء من السجن إلى القصر!

رئيس الفقراء من السجن إلى القصر!

عودنا التاريخ الحديث أن ثمة رؤساء يمكن أن يخرجوا من قصر الحكم إلى السجن، وحدثت عشرات المرات، لكن أن يخرج رئيس سابق من السجن إلى القصر، فهذا أمر جديد، ربما ينفرد به الرئيس البرازيلى لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذى انتخبه شعبه، وسلّمه مقاليد السلطة مع تباشير العام الجديد.



بالطبع ثمة مناضلون سجنتهم نظم عنصرية أو عسكرية أو فاشية أو استبدادية أو استعمارية، وحين أفرجت عنهم شعوبهم بالكفاح المسلح، حملوهم إلى قصر الرئاسة، مثل نيلسون مانديلا فى جنوب إفريقيا، فيدل كاسترو فى كوبا، باتريس لومومبا فى الكونغو، كوامى نكروما فى غانا، وأحمد بن بيللا فى الجزائر، لكن «لولا» وهو الاسم الأشهر للرئيس البرازيلى، ليس منهم، إذ صعد إلى منصب الرئيس بعد نهاية الحكم العسكرى بـ 18 سنة، وكان متهمًا بجرائم فساد مخيفة، أخفها الرشوة وأثقلها «غسيل الأموال»، وحكم عليه القاضى «سيرجيو مورو» بالسجن تسع سنوات وستة أشهر، قضى منها 19 شهرًا، ثم برأت المحكمة العليا ساحته وأسقطت الاتهامات عنه، ولامت انحياز القاضى ضده وإهماله أدلة البراءة.

ولولا دا سيلفا حكاية سياسية تكاد تقترب من الأساطير، إذا نشأ فى أسرة أمية على باب الله، تعيش فى القطاع الأكثر فقرًا شمال شرق البرازيل، فعمل ماسح أحذية وهو صبى مثل لاعب الكرة الفذ بيليه الذى رحل مؤخرًا عن عالمنا، ثم بائعًا متجولًا، وعامل توصيل فى مصبغة، وحدادًا، وتزوج صغيرًا وهو فى العشرينيات وماتت زوجته وجنينها فى حملها الأول مصابة بالتهاب كبدى، لم يجد لها علاجًا فى نظام صحى سيئ، باهظ التكاليف.

أدرك دا سيلفا أن الفقراء فى بلاده لا قيمة لهم، لا تنفعهم المعونات القليلة التى يتلقونها فى مجتمع تحكمه الامتيازات والاستثناءات والطبقية، حتى اتسع فيه التفاوت الطبقى بين الأغنياء والفقراء بمسافة أكبر من سواحل البرازيل الممتدة لـ7500 كيلومتر تقريبًا، وأن قلة من البرازيليين لا يزيدون على 2 % من عدد السكان يسيطرون فعليًا على نصف مساحتها، ويعلمون أولادهم فى نظام تعاليم خاص كفء، ليتولوا المناصب الرفيعة فى المجتمع، أما الـ98 % الأغلبية فلهم نصف الأرض، ويتعلم أولادهم فى مدارس عامة متهالكة، ضعيفة الموارد، عامها الدراسي أقل من المدارس المتميزة لا يتجاوز ستة أشهر، ومدرسوها من الدرجة الثانية، ويتخرجون منها إلى الوظائف المتوسطة والمهن الدنيا، لأنهم غير قادرين على المنافسة فى سوق عمل يتطلب مهارات لا يوفرها تعليمهم، أى يرثون فقر عائلاتهم، ولا يعبر بعضهم «سباق الحواجر المنصوب» بين الطبقات إلا بمعجزة، والمعجزات نادرة.

هنا انخرط دا سيلفا فى نشاط نقابى مستعر، أدرك أن التغيير الذى يمنح الناس فرصًا متساوية لن يأتى إلا بجهد وكفاح وضغوط متتالية على صناع السياسات الاقتصادية والاجتماعية، فهؤلاء السياسيون ليس من مصلحتهم ولا من مصلحة أصحاب الامتيازات والياقات البيضاء أن يعدلوا أو يغيروا أوضاعًا، هم يجلسون على قمة الثروة والسلطة فيها، ويستميتون فى الدفاع عنها، لأن أى قدر من المساواة والعدالة النسبية سوف يمس حتمًا بعضًا من امتيازاتهم ونفوذهم. 

ولدفاعه عن الضعفاء والمستضعفين وقدرته الفائقة على التواصل مع الجماهير اختاروه زعيمًا لنقابة عمال الحدادة، التى تضم مئة ألف عضو، وكان دوره حاسمًا فى نقل العمل النقابى فى البلاد، من نقابات تدور فى فلك الحكومات أو موالية لها، إلى حركة نقابية قوية مستقلة، وقاد سلسلة من الإضرابات العمالية وهى إضرابات لم تكن مألوفة تحت الحكم العسكرى بين عامى (1964 - 1985)، فاعتقلوه عدة مرات، وفى آخر مرة وكان فى بداية عام 1980 خرج من السجن برؤية جديدة، مؤمنًا أن العمل النقابى وحده ليس كافيًا للتغيير والمساواة والعدالة، ورأى أن السياسة هى مفتاح الباب المغلق إلى تعديل الأوضاع السيئة فى المجتمع، فجمع نقابيين ونخبًا فكرية ورجال كنيسة وتروتسكيين، وأسس أول حزب اشتراكى فى تاريخ البرازيل باسم «حزب العمال»، وفى بدايته كان حزبًا ثوريًا، لكنه خشى على مجتمع ضخم هو الخامس عالميًا فى عدد سكانه (120 مليون نسمة وقتها الآن هم 210 ملايين)، ويعرف تمامًا حجم مشكلاته وتعقيداته، فمال تدريجيًا إلى مواقف سياسية واقتصادية إصلاحية مرنة، وربما يكون حزب العمل البرازيلى هو أول حزب يسارى فى العالم لا يعمل بأيدلوجية حادة، وبدأت شعبية لولا ترتفع يومًا بعد يوم، خاصة بين أصحاب الدخول المحدودة والتعليم المتواضع، الباحثين عن مستقبل مختلف لأولادهم وأحفادهم.

وقرر فى عام 1989 أن يخوض انتخابات الرئاسة البرازيلية، كان صعبًا أن ينجح فيها، فالمال هو السيد، والإعلام أسير مطيع فى قبضة الطبقة الحاكمة، فالديمقراطية الوليدة لم يكتمل نضجها، وبالفعل فشل، وتكرر فشله مرتين بعدها، لكن الإرادة لا تلين والعمل مع الناس يتصاعد ومساحة الشعبية تتسع، خاصة أن الأزمات الاقتصادية تكاد تخنق الناس، بطالة وتضخم ودخول منخفضة، والحكومات عاجزة عن حلول صحيحة، كانت كلها سياسات ترقيع، تخفف الأعراض وتترك فيروس المرض يضرب فى أوصال المجتمع.

وفى المرة الرابعة وصل لولا إلى قصر الرئاسة، وتسلم السلطة فى أول يناير 2002، هنا بدأ تاريخ مختلف لاقتصاد البرازيل وحياة الناس، صحيح هو تحالف مع كبار الاقتصاديين حتى تقل سمومهم الإعلامية عليه، فيكسب الانتخابات، لكنه ظل ملتزمًا بقضايا الفقراء والدفاع عن مبادئ النزاهة ومحاربة الفساد فى أروقة الحكم، وتشجيع المهمشين والفقراء على الانخراط فى العمل السياسى، فالسياسة هى «كلمة السر» فى مجتمع يحتاج إلى تعدد فى الرؤى والأفكار، والتعدد هو جسر العبور إلى التحديث والتنمية، وكانت تحكمه فكرة فى غاية البساطة والعمق معًا: أن بناء علاقات مفتوحة لجميع أفراد المجتمع، يرفع من مستوى الأداء وكفاءة العمل بدرجة كبيرة، ويمنع أى جماعة أو فئة أو مجموعة من السيطرة على السلطة.

ولعب القدر معه لعبته، أو كما يقول المثل الشائع، الأعمال بالنيات، فارتفعت أسعار المواد الخام عالميًا، والبرازيل غنية بها، كما أحاط نفسه بالأكفاء والمهرة والجادين من أصحاب الإمكانات الكبيرة فى التخطيط والتنفيذ، مما ساعده على إحداث طفرة اقتصادية، أهم نتائجها أنه أخرج ملايين الناس من قاع الفقر إلى الطبقة الوسطى، فهو يرى أن الطبقة الوسطى هى رمانة الميزان فى أى مجتمع، كلما اتسعت، كلما استقر المجتمع وتسارعت خطواته إلى الإمام.

كان التضخم متوحشًا، فرفع الحد الأدنى للأجور فوق معدل التضخم، وأسس برامج دعم للفقراء، مثل «صفر جوع»، و«منحة عائلية»، استفاد منهما 44 مليون مواطن، أى 25 % من عدد السكان وقتها.

ولم ينقلب على سياسات سلفه، صحح أخطاءها، إذ مدد «خطة ريال» المبرمة مع صندوق النقد الدولى، بتنفيذ قرض قيمته 30 مليار دولار، حتى يضع حدًا نهائيًا لسنوات إفلاس ظلت تطارد البرازيل لما يقرب من ربع قرن. 

استكمل القرض، ودخل فى إصلاحات اقتصادية هيكلية أولًا، مع إصلاحات مالية يعالج بها عجز الموازنة، فأطلق برامج استثمارات ومشروعات قومية طموحة، وفعلًا سدد القرض بالكامل فى ثلاث سنوات.

فعل ذلك فى فترتين رئاسيتين على 8 سنوات كما يحددها الدستور، وغادر منصبه فى ليلة رأس السنة 2011، والبرازيل لديها احتياطى يقدر بـ250 مليار دولار، ووصفته وسائل الإعلام العالمية بأنه «شخصية العصر»، وقال عنه باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة آنذاك: إنه السياسى الأكثر شعبية فى العالم.

ترك البرازيل بلدًا ناشئًا واعدًا، استضاف كأس العالم 2014، ثم الأولمبياد 2016، لكن خصومه لم يتركوه، وأرادوا تحطيم الأسطورة، وجاءت الفرصة الذهبية، فى قضايا فساد شابت بعض مشروعات كبرى فى برامج الاستثمار الواسعة، فيها رشاوى لعقود بعشرات الملايين من الدولارات، ونسبوا إليه بعض الرشوة وغسيل الأموال، حتى يحرموه من الترشح مجددًا فى انتخابات عام 2018.

لم يصدق أغلب البرازيليين عملية التشويه، وصدقوا ما قاله أنه لا يعرف شيئًا عن تلك الرشاوى، فلم تتوقف المظاهرات من أجله، حتى أثبتت المحكمة العليا براءته، وخرج فى نوفمبر 2019، ولم يحتج أكثر من عامين ليكتسح الانتخابات. 

عاد لولا دا سيلفا إلى المنصب، لكن البرازيل تغيرت فى السنوات العشر الأخيرة التى ابتعد فيها، تبدو الآن بائسة ومنهكة، دخلت فى نفق ركود اقتصادى أغرق الملايين من جديد فى مستنقع الفقر، سببه وباء كورونا الذى انتشر فيها أكثر من أى دولة فى العالم وأودى بحياة ما يقرب من 700 ألف شخص، لخطأ فى سياسات لم تعترف بخطورته وتعاملت معه بإهمال تام.

هل ينجح دا سيلفا فى إنقاذ هؤلاء الفقراء كما فعل من قبل؟، مهمته هذه المرة أصعب جدًا، كما أن لولا يقترب من الثمانين، وللطبيعة أحكام قاطعة..لكن العالم يترقب خطواته!